إيناس ناصر
الكاتبة مريم آيت أحمد استطاعتْ أنْ تَضَع قلمها بكلِّ عقلانية على واقع نعيشه اليوم، في مقالها "مفهوم الوسطية والمفهوم الفكري"، المنشور في مجلة "التسامح"؛ حيث بيَّنت من خلاله مفهوم التطرُّف الفكري، أو الانحراف الفكري، الذي يُعدُّ قنبلة موقوتة تهدِّد أمن المجتمعات، خصوصا في هذه المرحلة من تاريخ العالم التي تتَّسم بالصراع الحضاري، وثمَّة حقيقة مُخِيْفة وراء ذلك لا يعيها معظمنا، خصوصا المستمرين بطرح آرائهم التي تتبرأ منها خصوصيات مجتمعهم وثقافتهم، أو حتى دينهم الذي يعتنقون، من أن صراعهم الفكري هذا كفيل بأن ينسف ملامح الحياة التي ينشدها الجميع في أي مجتمع؛ فالسلام الفكري يخلق جوًّا مُناسبا للنمو والتطوُّر والتقدُّم والازدهار، والتغاؤه يعني دب الرعب، والخوف، وعدم الثقة في أوساط المجتمع، ومن ثم انعدام الأمن.
ولستُ هُنا لأكتب حتى أكون من صفوف المناشدين بقمع الفكر أو مصادرته، أو مصادرة ما نفكر به؛ فالتفكر والتأمل والبحث مبدأ سليم جدا، ولكن حينما تراودنا أفكار كثيرة تتعارك بداخلنا لسنا مُجبرين أن نفكر بها بصوت مزعج وصاخب يفتقر إلى الأدلة والمصداقية فنلوث بها ثقافتنا، ونزعزع مصداقية ما نؤمن به، والأصح هو أن نمحِّص أفكارنا قبل أن نبثها للآخرين؛ فهناك مراهقون كُثر وأناس من ديانات وثقافات أخرى يقرأون ما نكتب ويتابعوننا عن كثب، فوا أسفاه لو اعتبرنا أحدهم قدوة أو مثالا لأمة بأكملها ونحن بتلك الصورة الفكرية الباهتة. ولست متأكدة من أنَّ "المتثيقفين" اليوم يتعمدون التطرُّق لهذه الأمور ليُحْدِثوا الصخب والضجة حتى تزداد أعداد متابعيهم في عوالم افتراضية، فرضت نفسها ليلتف حولهم معارضون كُثر، وهذا بلا شك ما سيُشْعِرهم بالأهمية.
لم تتطرَّق الكاتبة مريم إلى هذا الصنف فحسب، بل إلى صنف آخر، وهو ما أعتبره أشد خطورة، وهم الذين يُعارضون الآخر دينيا أيًّا كان داخليا أم خارجيا، وهو أحد أهم أسباب ظهور العدائية بين المذاهب في بعض المجتمعات، وظهور ما يُسمَّى بالجماعات المتطرفة، فهم يرون أن الحضارة تجعل الفرد يعيش لنفسه ملبيا لرغباتها متنكرا للأخلاق والفضيلة، وللأسف نتج عن ذلك أناس متطرفون بأفكارهم كانت ذواتهم هي أولى الضحايا، فرغم مظاهر الدين التي يتزينون بها من لحى طويلة وأثواب ليست مسبلة، وغيره، إلا أنهم لم يستطيعوا العيش برفقة هذه الأفكار، وتعششت بداخلهم مخازن للنفاق تصدمنا يوما بعد يوم بأفعال لا تمت للإيمان بصلة.
السَّلام الفكري وما أدراك ما السلام الفكري؟ يبدو هذا المصطلح غريبًا على البعض؛ فلقد عرَّفته الكاتبة مريم في مقالها بأنه يعني الحفاظ على المكونات الثقافية الأصلية من مواجهة التيارات الثقافية الوافدة، أو الأجنبية المشوهة، وهو بهذا يعني حماية وتحصين الهوية الثقافية من الاختراق أو الاحتواء من الخارج، كما ذكرت أيضا أنَّ السلام الفكري هو الحفاظ على العقل من الاحتواء الخارجي، وعددت الباحثة في مقالها أشكالا مختلفة للعنف الفكري الذي لم تحصره على التعصب الديني فحسب، بل ذكرت أنَّ هناك تعصبا ثقافيا يمنع المجتمعات من التعبير عن خصوصيتها، ويمنعها من التعلم. أما العنف الجنسي فيتمثل في احتقار الرجل للمرأة، في حين ينصب العنف الاقتصادي على نهب الثروات ومنع الفرد من أن يكون منتجا. أما العنف العرقي والقومي، فيمنع العمل السياسي، ويفرض قيمه، والخطير في هذا النوع هو ممارسته من قبل المؤسسات أو الحكومات ووسائل الإعلام.
وفي الحقيقة: الغزو الفكري وُلِد من رحم اتجاهات فكرية معادية لدولة أو دين، محاولة بذلك الوصول لأهدافها والسيطرة على توجهات هذه الدول اجتماعيا وسياسيا، وتتفاوت الدول في تأثرها بهذه الحروب الفكرية من عدمه، في حين بيَّنت الباحثة أن الظروف الاقتصادية الصعبة بلا شك ستكون بيئة خصبة للتأثر بهذه الأفكار والانجراف نحوها بطرق مختلفة، كإشاعة الخوف في المجتمع، وهذا ما نلمسه حاليا حين نقرأ في فترات متواصلة أخبارا كاذبة من بلد ضد بلد آخر بنية تهديد أمنه وتحطيم اقتصاده والتشويش على العامة، وهز قناعاتهم حسدا من عند أنفسهم، ولإيجاد توجهات سياسية اجتماعية مغايرة تخدم مصالحهم المعادية، وهذا ما يجعلنا نجتهد لدعم اقتصاد مجتمعاتنا بالأفكار البناءة والداعمة له إعلاميا واجتماعيا وسياسيا.
فقد عَمَد غُزاة الفكر لاستخدام وسائل الإعلام المختلفة الحديثة والتقليدية في دعم مخططاتهم لتشكيل تصوُّرات للمتلقين والتلاعب بمعارفهم وتشتيت أذهانهم، ومن ثم غسل أدمغتهم لتقهقرهم عن معتقداتهم السليمة لبنائه مرة أخرى بحسب رغباتهم، مُستخدمين بذلك طول باعهم في استخدام الصوت والصورة معا في التلاعب بالحقائق لخدمة مصالحهم الذاتية، كما أنَّ الانفتاحَ الإعلاميَّ على مواقع التواصل الاجتماعي يجعلنا أكثر حذرا من أن نكون إحدى ضحايا هذه الحرب؛ فهي كما تصفها الباحثة مريم أنفذ من السهام وأشد وقعا في القلوب. وهنا، طرحت الباحثة عدة طرق لتحصين مجتمعاتنا وشبابها من الانجراف وراء هذه الأفكار؛ من خلال تكاتف المؤسسات المختلفة كالأسرة، والمؤسسات التعليمية التي من واجبها أن تعلِّم أبناءها طريقة البحث العلمي المنطقية في استقاء المعلومات السليمة، وتنمية شخصياتهم وجعلها مُتقبلة للرأي الآخر، واستخدام وسائل الإعلام المختلفة بطريقة إيجابية مُسخَّرة لدفع شر هذه الفتن وليس تأجيجها، والأهم من ذلك هو ترسيخ الوعي الديني والفهم العميق للنصوص الشرعية لأن غيابه بات ثغرا كبيرا يسهل للعدو نفاذ القلوب والتحكم بها.
"ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ".. كانت كلمات ختامية لمقال الباحثة التي أتفق معها تماما؛ فنحن أمة واحدة، ويجب علينا دعوة الناس لأدياننا ولتوجهاتنا امتثالا لأمره تعالى بالدعوة إلى سبيله محبة ورغبة في أن ينعم الآخرون بالخير الذي ننعم به لا رغبة بانتهاكهم، ولنتق شر أفكارنا الطائشة في فترات ركودنا المعرفي فهي حتما قنبلة موقوتة ضد الأمان الذي ننعم به.
