الوعي الجغرافي عند ابن خلدون

مُحمَّد السيفي

يَبْحَث إلياس بلكا في مقاله "جغرافيا عالم الإسلام في فكر ابن خلدون"، والمنشور بمجلة "التفاهم"، الرُّؤية الجغرافية عند ابن خلدون (808هـ/ 1406م)، والتي يرى أنها لم تنل ما تستحقه من البحث في فكر ابن خلدون، ويربط هذه الرؤية -ولو بشكل غير مكتمل- بنظريته في العمران، وحاول أن يكشف -جزئيا- عن الجهود الجغرافية في التراث العربي والإسلامي، والأسباب الخاصة التي دفعت المسلمين إلى الاهتمام بعلم الجغرافيا والإبداع فيه.

إنَّ إدراك الإنسان للمكان الذي هو فيه، والأشياء الطبيعية التي يستفيد منها من حوله، يمكن أن تكون بذور الحس الجغرافي الأولى عند الإنسان، ثم يأتي بعد ذلك الإدراك الجغرافي الواسع بدافع الحاجة الضرورية كدواعي الأمن والغذاء والسكن؛ فعرف الإنسان طرق الانتقال وتعرف على طبيعة الأشياء كالنباتات والمعادن، ينتقل الإنسان بدافع الفضول المعرفي والاستكشافي من ذينك الإدراكين إلى الوعي الجغرافي الأوسع، وفيه يكتمل الإدراك الجغرافي لديه. وقد أخذ هذا الإدراك بالتطور -تعمقا وتدقيقا- بحسب التطوُّر الإنساني.

وخلال كلِّ ذلك التطوُّر، كان لا بد من حضور لعلم الجغرافيا بتنوعات ومستويات مختلفة ومتناسبة، فكان لكل حضارة فيه إسهام بحسب المقومات والدوافع (الجغرافية/السياسية/الدينية/التجارية/السياحية/المعرفية) التي دفعتهم إلى ذلك، بدءا من الحضارات القديمة وانتهاء بالحضارة الحديثة.

الحضارة العربية والإسلامية كان لها إسهامٌ في علم الجغرافيا يتناسب مع عظمتها كحضارة كان لها إبداعات قفزت بالإنسانية في سبيل التطور؛ فأنتجت ما يربو على سبعين جغرافيا تركوا إبداعا كان حلقة وصل "ضرورية" بين إرث الحضارات القديمة والحضارة الحديثة؛ "فكتبوا في "علم الأطوال والعروض"، أو "علم التقويم"، وقد استحدثوا هذه الخطوط الوهمية -خطوط العرض والطول- لتحديد المواقع الجغرافية للمدن والمناطق. وكتبوا في "علم المسالك والممالك"؛ حيث كان القصد أساسا وصف طرق المواصلات. وكتبوا علم "الأقاليم والبلدان" في وصف مناطق معينة كجزيرة العرب، وبلاد فارس، والأندلس ونحوها".

والحضارة العربية الإسلامية شأنها في ذلك شأن كل الحضارات المنتجة كان لها من المقومات والدوافع الخاصة؛ ما جعل لها إرثا جغرافيا.. وأبرز هذه الدوافع والمقومات:

1ـ الدافع الديني (الذي أمر بالدعوة إلى الإسلام عالميا، وكذلك أمره بتأدية فريضة الحج؛ وبالتالي كان لا بد من معرفة طريق مكة لكل المسلمين، وأمر كذلك إلى التفكر في الأرض والانتشار فيها).

2ـ الدافع السياسي (الفتوحات الإسلامية) ونتائجها، فقد اقتضت من المسلمين معرفة الأرض التي يقصدونها جيدا، ثم بعد فتحها ازادت الحاجة لهذه المعرفة، وأن تكون دقيقة وشاملة لأغراض إدارة المناطق، وجباية الأموال، وتحصيل الضرائب...إلخ).

3ـ الدافع المعرفي الذي بسببه أخذ الرحالة والمستكشفون يجوبون الأرض، والمترجمون يمدونهم بإرث الحضارات السابقة فبنوا عليه وجددوا فيه.

4ـ الموقع الجغرافي (الإستراتيجي) كان مقوما لأنْ يكون للعرب والمسلمين اهتمام جغرافي.

يُمثِّل ابن خلدون مثالا بارزا للإبداع العربي الإسلامي في مجال الفكر؛ فهو الذي "شق عصا فذة على تراث مقدونية الفكري، وانفصالا بارزا عن النهج الذي اختطه علماء الإسلام العقليون -والنسبة هنا إلى العلوم العقلية- الذين سبقوه".

لابن خلدون إنتاج وإبداع في مجال التاريخ، والاجتماع، والاقتصاد، والجغرافيا...وغيرها، لكن بعض هذه المجالات حازت نصيبًا من الدراسة عند الباحثين أكثر من غيرها؛ فيرى بلكا أنه "يوجد إفراط في دراسة جهود ابن خلدون في علم التاريخ، ثم بدرجات أقل في الاقتصاد والسكان، وبالمقابل نَرَى إفراطا في البحث عن عطاء هذا العالم الفذ في الجغرافيا، فهو محدود جدا" مذكرا بدعوة هنري شاموسي "إلى الاهتمام بابن خلدون جغرافيا".

تُمثِّل مقدمة ابن خلدون لـ"كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر" إنتاجه الإبداعي المهم في كافة المجلات المعرفية التي تناولها وأبدع فيها. كان لوعي ابن خلدون العميق بالجغرافيا وأهميتها صدى في مقدمته؛ فتوزعت "المادة الجغرافية في المقدمة على مواضع متعددة، كالمقدمات الثانية والثالثة والرابعة والخامسة"، وكذلك أيضا فإنَّ سيرته الذاتية المعروفة بـ"رحلة ابن خلدون شرقا وغربا" تبين لنا كما يقول بلكا: "الخلفية الجغرافية العملية لابن خلدون بوصف أسفاره ورحلاته"، ومما يدل على وعيه الجغرافي المتقدم أنه في كتابته للتاريخ "وزع مادته توزيعا لا يتبع الترتيب الزمني، حوليا أو غيره، بل بحسب الدول الحاكمة بكل قطر، وهو توزيع يراعي الجغرافيا قبل التاريخ الزمني".

إنَّ عدم ذكر ابن خلدون لعلم الجغرافيا في مُقدِّمته الخاصة بالعلوم لا يمكن أن يقلل من أهميتها في إنتاجه، أو أن نستشف منها عدم اعترافه بها كعلم؛ فكما يقول بلكا: "إذا كان الفصل السادس من المقدمة خاصا بالعلوم، فإن ابن خلدون لم يذكر منها الجغرافيا، وإن ذكر أحد فروع ما يسمى بالجغرافيا الفلكية في الحديث عن علم الهيئة. لكن هذا لا يدل على عدم اعترافه بعلم الجغرافيا؛ لأن المؤلف لم يقصد حصر جميع العلوم؛ لذلك لم يذكر حتى علم العمران الذي اكتشفه".

تناول ابن خلدون في مُقدمته الجغرافيا في عدد من أنواعها كـ"الجغرافية البشرية"، فكان يؤول أن اختلاف البشر في ألوانهم وجسومهم وميلوهم ونشاطهم وصفاتهم الجسمية والعقلية إلى البيئة الجغرافية، وهو كذلك أيضا بحث في الجغرافيا الإقليمية؛ فـ"وصف الأقاليم السبعة إقليما إقليما، وذكر أبرز ما في كل إقليم من الشعوب، والقبائل، والجزر، والجبال، والبحار، والأنهار" والجغرافيا السكانية؛ فعلل أسباب اختلاف توزيع السكان على الأقاليم وكثافتها في بعضها دون الأخرى، والجغرافيا الفلكية؛ فتحدث "عما يسمى اليوم بالموقع الفلكي للعالم الإسلامي"، وله جهود في أنواع الجغرافيا الأخرى.

وكان العالم الإسلامي هو محل تركيز ابن خلدون في دراسته، وقد عبر عن ذلك بقوله: "عنايتنا في الأكثر إنما هي بالمغرب التي هي وطن البربر، وبالأوطان التي للعرب من المشرق"، كما درس في مقدمته "البحر ومكانته في التاريخ الإسلامي" و"الجزر وأهميتها الإستراتيجية".

لا شكَّ أنَّ ابن خلدون اعتمد على جغرافيين كُثر، فاستفاد منهم بصورة مباشرة أو غير مباشرة؛ فـ"ذكر منهم بالاسم بطليموس (150م) في كتابه "الجغرافيا"، والإدريسي (560هـ) الذي يصفه بـ"صاحب كتاب روجار"". واعتماد ابن خلدون نقدي وإبداعي أصيل؛ فـ"معلوماته أحيانا تكون أكثر تفصيلا من الإدريسي، كمعلوماته عن جزر المحيط الأطلسي أو أعماق إفريقيا".

توصل علم الاجتماع (الذي نتحدث عن أبرز مبدعيه) إلى أنَّ الظروف الخارجية كـ"الظروف البيئية والاقتصادية والسياسية" تعمل على خلق طبيعة الإنسان وصياغة سلوكه وتوجيه اهتماماته؛ لذلك سنشير إلى الظروف التي دفعت ابن خلدون للاهتمام والإبداع في علم الجغرافيا؛ فـ"بعد بلاد المغرب عن المشرق مع وجود صلات سياسية ودينية وتجارية أسهم في الاهتمام المغربي بالجغرافيا"، وكذلك "نشأ ابن خلدون في تونس، وهي منطقة تحتل الوسط في شمال إفريقية، وهذا عامل مهم في تسهيل حركة ابن خلدون شرقا وغربا"، واشتغال ابن خلدون في السياسة لا بد أن له أثرا في اهتمامه بالبلدان والأقاليم وطبيعتها وطرائق العيش فيها. هذا كله مع عشقه للسفر وشغفه بالمعرفة...وغيرها من العوامل الداخلية والتي كان لها دور مهم أيضا.

أخبار ذات صلة