التسامح والتفاهم بين الأنا والآخر

أيمن البيماني

يَرَى الكاتب حسن حنفي -في مقاله المنشور في مجلة "التسامح"- أنَّ التطوُّر هو سنَّة الحياة؛ فلم تقف البشرية منذ قيامها على عتبة واحدة، وإنما تطوَّرت يوماً بعد يوم، وهو ما يُفضِي إلى موضوع حديثه عن التطوُّر اللفظي والمعرفي للتسامح إلى التفاهم. لذلك؛ نحن اليوم هنا للحديث بشكل أكبر وأعمق حول هذين المفهومين، وما يرتبط بهما من متغيِّرات وظروف.

ورَغْم تعبير القرآن والسُّنة عن هذيْن المفهوميْن بصَوْرة أخرى؛ مثل: الأخوَّة، والعفو، والألفة، والمحبَّة، والإحسان...وغيرها، إلا أنَّهما لم يذكرا نصَّ هذيْن المصطلحين، بل هما من المفاهيم المستقاة من الغرب؛ حيث ظَهَر مفهوم التسامح خلال الحَرْب الدينية بين الكاثوليك والبروتستانت، بينما ظَهَر مفهوم التفاهم بعد سيادة العقلانية الغربية الحديثة في أوروبا.

بداية.. فإنَّ التسامح يعني الخروج من دائرة النرجسية وحبِّ الذات، إلى الانفتاح على الآخر وقبوله، وعلاقة الذات بالآخر والأنا بالغير، وهو ما يفضي إلى حوار أكثر عُمقاً وفائدة. إنَّ الحوارَ مع الذات مُناجاة مع النفس مثلما يُطلق عليه الصوفيون، بينما الحوار مع الآخر أساسه التفاهم والأخذ والرد وقبول الآخر، وبدون التفاهم يكون التسامح مع الآخر مجرد حوار لا معنى له، ولا طائل من ورائه، وستراً للصراع الدفين بين طرفي الحوار. لذلك؛ فإنَّ التسامح ممارسة خارجية للتفاهم، والتفاهم تأصيل نظري وواقعي للتسامح.

للتسامح شُروط عديدة؛ أهمها: التسامح مع النفس قبل التسامح مع الآخر؛ وذلك من حيث فهمها وحسن التعامل معها وعدم القسوة عليها من غير مبرر. ومع الآخر من خلال الابتعاد عن الظنون والشكوك لقوله تعالى: "إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ" (الحجرات:12). فكيف يتسامح الإنسان مع عالم يراه أجمعه بنظرة الظنون والشكوك؟ لذلك؛ عليه أنْ يكون لديه يقين تام في حواره وتسامحه مع الآخرين؛ فاليقين والشك ضدان لا يجتمعان أبداً مهما كان المقام.

وفي الغالب، تنشأ الدعوة إلى التسامح وفقاً لظروف خاصةً تحدث بين طرفين؛ مثل حادثة قتل أو هجوم إرهابي، ليخرج الإعلام بدعوة صارخة للتسامح ووحدة الصفوف وقبول الآخر والتقليل من الفجوات معه، وهو ما يحوِّل التسامح إلى مادة إعلامية دسمة للغاية.

وللتسامح أسباب وبنية أساسية أدت لتغييبه وبشدة، ولن يتحقق دون تغيير الوضع الاجتماعي والحضاري الذي أدَّى لتغييبه؛ فرغم ما كُتب عنه وما تمَّ تأليفه وكثرة المؤتمرات والحوارات التي أقيمت من أجله؛ لا يزال الصراع قائماً بسبب سوء العلاقة بين الأنا والآخر، ومتى ما ارتبط مفهوم التسامح ارتباطاً وثيقاً بالصراعات الدينية؛ أفضي ذلك إلى التقليل من أهمية الحديث عن التسامح في المجتمعات الحديثة، والتي ترغب في الخروج من تابو وبوتقة الدين والانتقال إلى مرحلة حضارية أكثر حداثة، ومجتمع مدني تتساوى فيه جميع الحقوق والواجبات بعد فصل الدين عن مظاهر الحياة اليومية من خلال النظام العلماني. كما أنَّ الظروف الدينية التي حدثت في الغرب ليست مثل ظروف القتال والفتنة بين الفرق الإسلامية، والتي تعدُّ أسبابها سياسية بحتة وفي المقام الأول. لذلك؛ فإنَّ الصراعات الإسلامية المتطرفة لا تحل بالتسامح ولا بالتفاهم؛ وإما بتغيير الواقع السياسي والاجتماعي الذي أفضى إلى هذه الخلافات؛ وذلك من حيث تأصيل مبدأ المواطنة الحديثة وحقوق الإنسان؛ بحيث نصل إلى مرحلة قبول الآخر فعليًّا، وليس التسامح الشكلي معه فقط.

... إنَّ التسامح في أسمى صوره هو التسامح الفعلي لا القولي فقط، وهو ليس بجديد ما دامت تلوكه ألسن العديد من الناس في وسائل الإعلام، وبشكل متواصل، دون التغيير الفعلي من حيث تغيير الوضع الاجتماعي وتذويب الفوارق بين الطوائف والفرق.

لذلك؛ فإنَّ التفاهم أشمل معنىً وأكثر عمقاً من التسامح؛ حيث يتوجَّه التفاهم إلى فهم الظروف المحيطة والأسباب المؤدية إلى العنف ونبذ الآخر، من أجل الوصول للفهم المشترك مع الآخر، كما أنَّه منهج علمي حديث يقوم على التحليل الموضوعي للأحداث، وهو نداء العقل والفكر وليس فقط نداء العاطفة والقلب كما في التسامح. إنَّ التفاهم هو الاعتراف بالآخر ثم فهمه؛ لذلك هو لا ينفي الآخر ولا يقصيه بل يثبته من أجل الحوار معه وتذويب كافة الفوارق بينهما، بعكس التسامح الذي يدعو لقبول الآخر، وإن كان موضع تهميش. التفاهم رسالة سامية لا ازدواجية فيها، ولا لبس في المعنى.

يأتي التفاهم مع النفس والذات قبل كل شيء من خلال تخليها عن الانفعالات والشهوات والأهواء، ثم يأتي بعد ذلك التفاهم مع التاريخ؛ فالتاريخ عبارة عن تراكمات وموروثات عبر مئات السنين، والأمم والشعوب والتي لا تزال مرتبطة بماضيها يصبح من الصعب التفاهم والتصالح معها، حيث إنَّ الذاكرة في أغلب الأحيان لا تستدعي من الماضي سوى الجوانب المظلمة والحقد على الآخر. الأساس الثالث هو التفاهم مع الحاضر ومع حياة البشرية المعاصرة، وإذا كان هدف التسامح هو التخفيف من شدة الصراع القومي والعرقي والديني؛ فإن التفاهم يهدف لتذويب ذلك الصراع بأكمله، والدفع بالحاضر إلى مستقبل أكثر تفاهماً وتعايشاً سلمياً بين الشعوب والحضارات.

وهنا، نستدعى ثلاثة أسئلة مهمة: التسامح أو التفاهم مع مَنْ؟ وحول ماذا؟ وبأي طريقة؟

بداية، التفاهم مع الداخل من خلال الحركات الإسلامية والعلمانية؛ فالحركة الإسلامية لها أصولها في القرآن والسنّة، ويرى فيها الناس سبيل الخروج من أزماتهم ومشاكلهم، في الوقت الذي تركّز فيه الحركة الإسلامية على المظاهر الخارجية والعبادات بشكل عام.

ثم يأتي بعدها التفاهم مع الغرب. ومما لا شك فيه أن أصبحت ثقافة الغرب هي الغالبة في الوقت الحاضر، تأكيداً لمقولة مؤسس علم الاجتماع البشري ابن خلدون: "الأمم المغلوبة تقلّد الأمم الغالبة". لذلك؛ أصبح لدينا ولدى الغرب صورة نمطية عن بعضنا البعض، وآمنّا بالنقص بينما آمنوا هم بالعظمة، ومع ما يعانيه الغرب في وقتنا الحالي من بعض المشاكل في الحياة الاجتماعية واليومية؛ فقد يكون التكامل مع الإسلام هو سبيل الخلاص والخروج من هذه الأزمات، فلا أوروبا ولا الإسلام غريبان عن بعضهما البعض، والتاريخ حاضر وشاهد على العلاقة السابقة بينهما.

كذلك، يجب التفاهم والتعايش مع مراكز الحضارات القديمة في الشرق الأدنى؛ حيث إنَّ أوَّل زحف للإسلام كان نحو الشرق في الهند والصين، والتفاهم مع الشرق قد يكون أكثر سلالة من الغرب بسبب قرب التعاليم الشرقية كالكونفوشوسية والبوذية من الإسلام في بعض الجوانب المشتركة؛ لذلك لا يكفي تعاوننا مع الصين والهند وكوريا واليابان اقتصاديًّا وسياسيًّا، وإنما يجب أن يشمل ذلك التعاون مجالات الأخلاق والثقافة والفكر والقيم الإنسانية.

ويأتي السؤال الثاني؛ وهو: التفاهم حول ماذا؟ إنَّ الحوار النظري سيكون بلا مضمون؛ لذلك يجب الحديث الفعلي والعمل التطبيقي والجاد عن المواضيع المعاصرة؛ مثل: القضية الفلسطينية كمثال، والعدالة الاجتماعية وحرية الإنسان، ومخاطر التفرقة العرقية والطائفية، ناهيك عن مواضيع الأمن الغذائي والصحي للعالم العربي والإسلامي.

ومع العالم الخارجي، هناك العديد من مواضيع التفاهم؛ مثل: العولمة، ومجتمعات واقتصاد المعرفة، والعالم ذو القطب الواحد، وصراع الحضارات، وقضايا المرأة، وحقوق الإنسان والأقليات والتعدديات الثقافية. كلها قضايا ينبغي فهمها وفهم الآخر معها وتذويب كل ما قد يعيق عملية التفاهم بيننا وبين العالم الشرقي أو الغربي.

وأخيراً.. يأتي السؤال: بأي طريقة ووسيلة يكون هذا التفاهم وما شروطه؟ إن عملية التفاهم هي عملية حيوية ديناميكية مستمرة مرتبطة بالماضي والحاضر والمستقبل، وكل طرف من أطراف التفاهم له سلوكه وموجِّهاته الخاصَّة؛ ففي مصر وبدلاً من الفصل بين الأقباط وتعليمهم المسيحية وبين المسلمين وتعليمهم الإسلام؛ يجب دمجهم وإعطاؤهم الجوانب المشرقة والقيم المشتركة بين الدينين. وانظر إلينا نحن المسلمين كيف نعلِّم أبناءنا في المدارس لَعْن الغرب وتكفيرهم، وهو ما يرسم صورة نمطية في عقل التلاميذ عن سوء حضارة الغرب، فيعاديها، ويكيل لها الشتم والسب.

هذه بعض الممارسات والأفعال التي يجب التخلُّص منها؛ للخروج بمشروع نهضوي عالمي كبير بين مختلف الحضارات والطوائف والأديان.

وهذا التفاهم ليس نهاية المطاف، وإنما وسيلة وغاية للوصول إلى تعايش وتعاون أفضل في كل مرة بين الأديان وتحقيق العدالة والحرية والمساواة بين الشعوب، ومشاركة القيم والأخلاق الفاضلة، والوصول إلى كلمة سواء بيننا وبينهم امتثالاً لقوله تعالى: "قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ" (آل عمران:64).

أخبار ذات صلة