تحوُّلات النظام الدولي وتنامي مرحلة العالمية والعولمة

أيْمَن البيماني

كَان للحروب الدينية في أوروبا الأثر الكبير في تشكيل وظهور العديد من المصطلحات والمفاهيم والأنظمة والقوانين فيما بعد؛ ولعلَّ أبرزها: ابتكار مصطلح "الدولة"؛ من خلال "معاهدة وستفاليا" في العام 1648م بعد سنوات عديدة من التناحر الديني. ونناقش هنا مقال مُحمَّد جمال باروت، والمنشور في مجلة التسامح بعنوان "الدولة القومية.. الأمة والهويات في تحولات النظام الدولي".

أقرت هذه المعاهدة خروج الدولة الحديثة عن سلطة المؤسسة الدينية، والتي كان شعارها "دين الناس على دين ملوكهم"؛ وبالتالي ظهور نمط الدولة القومية بعد تاريخ طويل من الحروب الضارية مثل "حرب المائة عام"، وآخر مراحل ظهورها كانت الثورة الفرنسية عام 1789م.

ومِمَّا يَنْبَغي معرفته هو الفارق بين مفهوم الدولة والأمة؛ فمصطلح الدولة هنا مصطلح مُبتكر جديد، وليس مُستنبطاً من أي مفهوم قديم آخر، ويعني دولة مركزية حديثة قومية في نتائجها وسياساتها، وهو ما يُفسِّره خلال القرن العاشر وجود ملك للفرنجة الغربية من غير أن تكون هناك فرنسا، وملك للفرنجة الشرقية من غير أن تكون هناك ألمانيا.

وفي نظام الإمبراطوريات القديمة، كان الملوك مُجرَّد أصحاب سلطات محلية تابعين للسلطة المزدوجة المتمثلة في البابا-الإمبراطور، وليسوا ملوكاً لهم سيادة تامة، وعندما أصْبَح للملك تلك السُّلطة في الدولة الحديثة والمنطق المركزي التوحيدي للمجالات الجغرافية والسياسية واللغوية والدينية؛ أنتج تشكيل مصطلح متجانس ومندمج جديد؛ وهو: الأمة، والذي يعتبر المواطن فيه من رعايا الملك وليس الإمبراطور. وقامتْ الدولة بعملية تحديد المجال البشري دينيًّا ولغويًّا وثقافيًّا واقتصاديًّا؛ من خلال نشر سكك الحديد، وربط الأطراف والأرياف والمدن، ومركزه ولاء المواطنين حول الدولة والملك وخضوع الكنيسة لهما وليس لسلطة البابا الروماني.

وفي الدولة القومية الجديدة، نَشَأ مُصطلح جديد وهو "الأقليات"، وقد نشأ تلقائيًّا بسبب قانون الدولة الجديدة؛ إما الاندماج مع سيادة الدولة والمجتمع، أو التهميش! وهذا ما أنتج أقلية اليهود في أوروبا بسبب مقاومتهم للاندماج في المجتمع الأوروبي، وأقليات الأكراد في ألمانيا وغيرهم الكثير. وهنا ظهرت مشكلة "قومنة" الأقليات؛ مما دعا الدولة لمحاولة مد جذورها وحدودها إلى حيث يقطن أبناؤها في الدول الأخرى. وبذلك؛ يكون النظام السياسي القومي الجديد قد خَلَق مُشكلة لم يعرفها الاجتماع الإمبراطوري السابق. وبذلك؛ أمْكَن الفصل بين الخصائص الإثنية للأمة والمرتبطة بالمعنى الأنثروبولوجي للثقافة، والخصائص القومية "الأحدث"، وهي الخصائص الأيديولوجية حول وحدة وعي الأمة وتماسكها واندماجها الطبيعي.

ويعملُ منطق الإمبراطورية من خلال التعدُّد في الأديان والثقافة والمذاهب واللغات، بينما يعمل مَنْطِق الدولة الحديثة على عملية التوحيد في كلِّ شيء، وهو منطق قومي بامتياز، ولا تفعل الدولة القومية سوى إضفاء التماسك على منطق ووعي الأمة بوحدتها ومصيرها الواحد.

ومع أحداث الثورة الفرنسية 1789م، أخذ نموذج الدولة-الأمة بالتبلور حول مفهوم القومية الديمقراطية العلمانية، وكانت عملية علمنة العالم البروتستانتي للاستقلال عن البابا هينة وبسيطة، بعكس فرنسا الكاثوليكية التي واجهت عنفاً شديداً ومقاومة كبرى عند محاولة العلمانية إخضاع الكاثوليك إلى سلطة الدولة الفرنسية. وبسبب ضراوة هذه العملية، وقطع الروابط الإقطاعية، ومحاربة اللهجات والديانات المحلية؛ فإنَّ فرنسا تعتبر النموذج الأتم في عملية الإدماج القومي لجميع الفئات وبمختلف أجناسهم وأديانهم وأعراقهم.

ونتيجة للثورة الفرنسية، فقد أسَّست أفكار الأنوار الفرنسية في بنية الدولة-الأمة الفرنسية من جهة، وجعلت الدولة-الأمة الفرنسية حاملاً لهذه الرسالة للعالم بأسره، وبالتالي فإن ذلك النظام الوستفالي قام على أساس تحويل الدولة المركزية إلى دولة قومية إمبراطورية متطلعة لنشر رسالتها خارج مجالها السيادي، وهو ما أسَّس لمرحلة الاستعمار والتوسع خارج الحدود السياسية. ونذكر هنا بالأخص التزاحم على الممتلكات العثمانية الأوروبية الذي كان أشد ضراوة وعنفا، ونشأت عنه حروب ونزاعات بين دول قومية-إمبراطورية أو بين إمبراطوريات تَسْعَى لإعادة هيكلة على أساس مركزية الدولة-الأمة. وبلغ هذا الصراع أشده في القرن التاسع عشر إزاء الصراع العثماني الروسي وبعض الإمبراطوريات الداخلية في ألمانيا وروسيا، فظَهَر مفهوم "توازن القوى"، والذي كان السبب الرئيسي في تأجيل مصير الدولة العثمانية، وساعد على إطالة عمرها قليلاً.

ومن خلال انضمام الدولة العثمانية إلى ميزان القوى، كانت الحلقة الأضعف بسبب وهنها وضراوة الصراع على اقتسامها من خلال تحويلها إلى ملحق زراعي أو منتج للمواد الخام، فحاولتْ تدارُك نفسها من خلال عملية "التنظيمات" في التوحيد القانوني ومركزة الدولة مع ولاياتها، وإيجاد هُوية عثمانية جديدة، وتأصيل اللغات القومية فيها، لتتضافر جهود الأمة مع اللغة والعرق، وتنتج عالماً عثمانيًّا إمبراطوريًّا مُعقَّداً قوميًّا وإثنيًّا.

شهدتْ الحرب العالمية الثانية سقوطَ الإمبرطوريات (المتقومنة)، والتي دبت فيها حركة القومية -مثل: إمبراطورية آل رومانوف في روسيا، وآل هابسبورج في ألمانيا، وآل عثمان في الدولة العثمانية- وأنتجت نجاح الدولة القومية الإمبراطورية ذات نموذج الدولة-الأمة المركزي. وبالتالي، تحويل شعوب الإمبراطوريات المنهارة وتعميم إعادة هيكلة العالم بأسره إلى دولة قومية مستقلة ذات سيادة، وانضمامها للنظام المؤسسي الدولي الجديد (عصبة الأمم)، ولم تكن هذه سوى اللعبة الكبرى بين الدول القومية الإمبراطورية، والتي تمَّ من خلالها الإجهاز على الدولة العثمانية وتصفيتها إلى دول مستقلة أو واقعة تحت حكم الحماية والاستغلال.

كانت ولا تزال الحروب الدولية والقارية هي أساس نشوء وتطوُّر النظام الدولي، هكذا انبثقَ النظامُ (الوستفالي) من حرب المائة عام، ونظام "عصبة الأمم" من الحرب العالمية الأولى والثانية، ونظام "الأمم المتحدة" أو "سيادة النظام الدولي" من الحرب الباردة بين القطبين السوفييتي والأمريكي.

سادَ النموذجُ التدخُّلي للدولة في الحياة اليومية في الحرب الباردة؛ من أجل تطوير السوق الدولي وتعزيز تشابكاته؛ وذلك في زمن الازدهار الأوروبي الذي تطلَّب تعزيزَ سيادات الدولة الداخلية؛ فظهرت الشيوعية بعد دمار وفناء النازية والفاشية، ثم دخل العالم الثالث كلاعب جديد بين قطبين عالميين. ومع نهاية الحرب الباردة، كان لا بد مرة أخرى من إعادة هيكلة العلاقات الدولية مع تنامي العولمة الجديدة، فشكَّلتْ منطقتا البلقان والشرق الأوسط حقول العمليات الحربية لإعادة هيكلة النظام الدولي مرة أخرى؛ وبذلك سُمِّيت حرب العراق بـ"التحالف الدولي".

أصْبَح العالم فجأة أمام نظام عالمي أوسع وأشمل من النظام الدولي، وكان مُعتمداً بشكل أساسي على قدرات الولايات المتحدة الأمريكية في عملية العولمة الجديدة. وبينما كان النظام الدولي يعمل بين الدول، أصبحت المؤسسات الجيو-بوليتيكية-الاقتصادية هي الوحدة الأساسية للنظام العالمي؛ فزاد التشابك العالمي من خلال ظهور الشركات العابرة للقوميات والجنسيات، وأصبحتْ أغلب دول العالم مُندمجة في تشابكات إقليمية أو ثنائية، في عالم أصبحت فيه عمليات الإنتاج والتوزيع والاستهلاك تتم على نطاق عالمي أوسع وأشمل. ولم تعُد الشركات متعددة القوميات والجنسيات ورؤوس الأموال تصطدم بسلطات الدول القومية، بل تزايد الطلب عليها والتكيف معها.

جميع ما حدث يَعْنِي لنا اندماج الداخل الخاضع لسيادة الدولة الداخلية، مع الخارج الخاضع للسلطة الخارجية للدولة. ولم يعُد الخارج يصعد فوق قنوات الدولة هرميًّا؛ بل أصبح يخترقها وبكل قوة. وتولَّت الشركات متعددة الجنسيات والمنظمات الدولية غير الحكومية وبرامج الأمم المتحدة...وغيرها، قيادة عملية تعزيز العمليات والروابط الشبكية الأفقية حول العالم.

وختاماً.. لا يَعْنِي كلُّ هذا دمارَ وفناءَ الدولة-الأمة؛ وإنَّما سيكون لها دورٌ في عملية الاتفاقات وتسيير رأس المال وعولمة القوانين العالمية، وستخلق معها مفاهيم التوحيد والاندماج للدول القوية، أو التجزؤ والتبعثر لإخفاق بعض دول العالم الثالث -السودان كمثال- وهذه التغيُّرات الهائلة والكبيرة التي تنطبق عليها مقولة الكاتب الروسي الفذ "تولستوي" على مشارف نهاية القرن العشرين: "إنَّه زمنٌ ينهارُ فيه كلُّ شيء، ويبدأ بالتشكُّل من جديد".

أخبار ذات صلة