سُلطان المكتومي
ها هو العالم اليوم يتحوَّل تدريجيًّا نحو القارة الآسيوية، بعد أن كان الغرب اللاعب الوحيد في العالم؛ فالقارئ اليوم للأحداث العالمية لا يَخْفَى عليه هذا التحوُّل الهائل للشرق على كافة الأصعدة: السياسية، والاقتصادية، والتكنولوجية. وقد عَرَض لنا الكاتبُ مَسْعُود ضاهر في مجلة "التسامح" في مقاله " فلسفة التفاهم: الدين والثقافة في تجارب النهوض الآسيوية"، تجربتيْن هما الأبرز في القارة الآسيوية: الصين واليابان. وقد تَزَايد اهتمام الباحثين بصورة واضحة في مُختلف بلدان العالم لدراسة ومعرفة المزيد عن التجربة الآسيوية، خاصة في اليابان والصين وكوريا الجنوبية، وقد انصبَّ اهتمامهم على كيفية تغلب الدول الآسيوية على العقبات الاقتصادية، وعدم التخلِّي عن قِيَمِها في ظلِّ الرأسمالية وقيم الغرب المتمثل في العولمة والحداثة.
ورغم هذا التطور الذي تشهده الدول الآسيوية الكبرى، هنالك مجموعة من الأزمات السياسية والاجتماعية -كمشكلة المسنين، وتراجع نسبة الولادات الجديدة، والتضخم، وارتفاع نسب البطالة، والعمالة غير الشرعية- وقد تجاوزتْ نسبة الدَّيْن العام 200%، من الدخل القومي الياباني في العام 2010%.
وحفاظا على الإنجازات التي حقَّقتها بعض الدول الآسيوية في العقود المنصرمة انتهجتْ سياسية التفاهم والانفتاح مع بَعْضِها البعض ومع جميع دول العالم؛ لضمان مَصَالحها في مُحيطها الآسيوي وإزالة الاحتقان، الذي نَجَم عن احتلال اليابان لبعض الدول الآسيوية المجاورة، والتهديد المتواصل الذي تمارسه كوريا الشمالية باستخدام سلاحها النووي ضد شقيقتها الجنوبية وجارتها اليابان.
وَهُنا في هذا المقال، سنَخُوض في تجربتيْن في نظري هما الأبرز على مستوى القارة الآسيوية؛ الأولى: تجرية نهوض اليابان التي تُعتبر الأقدم والأكثر تأثيرا على المستوى العالمي بصفتها تجربة التحديث الناجحة الوحيدة خارج المركزية الأوروبية. والثانية: تجربة نهوض الصين، وهي تجربة فتية بدأت عام 1978م، والصين تنافس بقوة الولايات المتحدة الأمريكية في الاقتصاد؛ بحكم أنها تأتي في المرتبة الثانية عالميا بعد أمريكيا.
* الدين والثقافة في تجربة النهوض اليابانية
تسُوْد في اليابان مُعتقدات كثيرة، وصفها كتاب الـ"كوجيكي" -التي تعني باليابانية "وقائع الأشياء القديمة"- قصة خلق الكون؛ انطلاقا من أسطورة تقول بكثرة الآلهة في العالم العلوي، وقد تزوج اثنان منهم (ذكر وأنثى)، وأخذا على عاتقهما ولادة الجزر اليابانية، وبعد كثرة الولادات توفيت الزوجة فنزلت إلى العالم السفلي؛ حيث تستقر الأرواح، وعندما اشتاق زوجها إليها نزل إلى العالم السفلي، طالبا منها العودة لإنجاز ما تبقَّى من ولادات؛ لكنها لم تستطع؛ فعاد إلى العالم العلوي بعد أن طُهِّر بماء من آثار العالم السفلي، وعندما طهَّر عينه اليسرى وُلِدت الإله "آماتيراس" أو الشمس، ثم طهَّر العينَ اليمنى ووُلِد الإله القمر، ثم غَسَل أنفه فولد الإله "هاياسسانو"، فوزَّع عليهم العالم بأنْ أعْطَى السماء للشمس.
أسَّستْ تلك الأسطورة -والتي لم أسردها كاملة- إلى جانب أساطير عدة، لمعتقدات وشعائر تناقلتها الأجيال المتعاقبة من اليابانيين، والتي تُؤكِّد أنَّ الجزر اليابانية هي من صُنع الآلهة، وبالتالي أرض اليابان في نظرهم أرض مقدسة، والإمبراطور مقدس، وهو الأب الروحي لليابانيين، وهم يدافعون دفاعا مستميتا عن أرضهم وإمبراطورهم. لو كانت هذه الفكرة في غير اليابان لقلنا إن اليابان يحكمها مستبد، ولكن اليابان غير ذلك. وقد صَدَق من قال: إنَّ اليابان كوكب مُختلف عن كل شعوب العالم. لم تطأ أقدام الغزاة عليها إلا في الحرب العالمية الثانية حينما ألقت أمريكا القنبلة النووية عليها، واستسلم اليابان والإمبراطور. وانطلاقا من المعتقدات الذي تعزِّز روح الجماعة والذوبان فيها، استطاعت اليابان التغلب على تلك المحن، وجعلتها في مصاف الدول المتقدمة.
وفي بعض الدول، تُوْجَد مُشكلة وهي الهُوية. أما عند اليابان، فلا توجد هذه المشكلة بحُكم أنه لا يوجد أحد سوى الياباني، ولا يشعرون بالحاجة إلى ابتكار قيم جديدة.
وإذا تكلَّمنا عن الثقافة في هذا الكوكب، نجد الكثيرَ من السمات؛ منها: القيم الأخلاقية التي تقوم على الطاعة، والاحترام، والتضحية في سبيل الإمبراطور واليابان؛ هذه السلوكيات عزَّزتها الاعتقادات التي تسود اليابان من سنين طويلة.
ومن جانب النظام التعليمي، يُعدُّ النظام الياباني من أفضل أنظمة التعليم في العالم وهذا بالطبع في نظر اليابانيين. أما في نظر غير اليابانيين، فيُعد مُرهقا ويعرِّض الطالب أزمات نفسية تصل للانتحار. ومما زاد اليابانيين تمسكهم بهذا النظام صدور الكثير من التقارير التي تؤكِّد أنَّ الطالب الياباني احتل المرتبة الأولى بين جميع طلاب العالم في الكثير من الفروع؛ منها: الرياضيات والعلوم والفيزياء. أما عن التعليم العالي، فتولي الحكومة اهتماما جبارا بمتابعة الطلاب؛ سواء في الخارج أو الداخل، وتصرف مبالغ طائلة للطلاب وتقرضهم الأموال. وتجدر الإشارة هنا إلى الآونة الأخيرة في تكريم العديد من العلماء بالجوائز العالمية؛ منها: "جائزة نوبل".
* الدين والثقافة في تجربة النهوض الصينية
تحذُو الصين حَذْو الدول الآسيوية الشرقية من مَبَادئ الفلسفة الكونفوشية، التي تضمَّنتْ أسسَ التفاهم أو "القواعد الذهبية للحكم الصالح". وهي تُعبِّر عن مبادئ عامَّة لضبط العلاقات الإنسانية، كاحترام الصغير للكبير، والمرأة للرجل، والتلميذ للمعلم، والخادم للسيد، والمواطن للحاكم. كما نصَّت على الاستقامة والإخلاص في العمل، واحترام نظام القيم الأخلاقية...وغيرها. هذه القيم شبيهة تماما بقيم اليابان وثقافاتها، ولا رَيْب أنَّ الصينيين يأخذون بعض الثقافات والقيم من اليابان بحكم قربهم منها، وتَجْمَعهما علاقات مشتركة وقوية.
وقفتْ الصين في ظلِّ الأزمة التي ضربتْ العالم في خريف العام 2008م مَوْقِفاً قويًّا في مُواجهة هذه الأزمة، وتبنَّت رقابة صارمة على الفاسدين والمفسدين، وعاقبت بعضهم بحزم ممن كانوا في مراتب حزبية عالية. يكفي التذكير بأنَّ الصين حاكمتْ أكثر من مائة وأربعين ألف مسؤول صيني في العام 2010م، وهذا يدلُّ على الإرادة السياسية القوية والتخطيط السليم.
أدْرَكت القيادة الصينية منذ أنْ تبنَّت "الإصلاح والانفتاح" عام 1978م، أنَّ تنامي الاقتصاد الصيني رَهْن التفاهم الداخلي بين القوميات المحلية، ودعم الصين لتنامي الاقتصاد العالمي على أسس سليمة، وباتَ واضحاً اليوم أنَّ الأسلوبَ الذي تبنَّته الصين في إدارة اقتصادها لخدمة شعبها كان ناجحا للغاية في مُواجهة الأزمة المالية العالمية الناجمة عن الفوضى والفساد الإداري والمالي، وغياب الشفافية والمساءلة القضائية.
وأخيرا.. يَجِب على أيِّ دولة إذا أرادتْ أنْ تتقدَّم، وتكون لها مكانة دولية في كافة المجالات: الاقتصادية، والتكنولوجية، والعلمية...وغيرها أنْ تكونَ لَدَيْهَا إرادة سياسية ونيَّة خالصة للتطوير؛ لا أنْ تكون ذات شعارات زائفة. وخَيْر برهان على ذلك: اليابان والصين.. كما يجب أن تهتم بالتعليم والكوادر الشابة.
