أيمن البيماني
لا زالت السلطة السياسيّة في التراث الإسلامي من أهمّ وأفضل المواضيع الجديرة بالبحث والتنقيب والتحليل من قِبل الكتّاب المعاصرين، وفي هذا الصدد نحلل ونناقش هنا مقالة ريهام أحمد خفاجي والمنشورة في مجلّة التفاهم حول (مفهوم الولاية في كتاب حسن السلوك الحافظ لدولة الملوك)، ومؤلّف الكتاب هو شمس الدين الموصلي الذي ركّز فيه على موضوع الولاية وقيمها وأحكامها في التراث الإسلامي.
لم يأتِ تأليف الموصلي لكتابه حدثاً عابراً؛ وإنّما كان نتيجة ظروف سياسيّة ودينيّة عاصرها في حياته، فقد وُلِدَ في بعلبك ودرس الحديث والفقه على يد أشهر قضاة بعلبك آنذاك ومنهم بدر الدين التبريزي وقاضي القضاة شرف الدين البارزي. كما عاش في دمشق بعد سقوط الخلافة العبّاسيّة على يد التتار آنذاك، لتغيب الخلافة الإسلاميّة لأوّل مرّة منذ وفاة النبيّ، وينعدم الوجود الفعلي أو حتّى الوجود الصوري لمؤسسة الخلافة من العمل السياسي، فأورد في كتابه الحديث عن الولاية والخلافة وتصوّره لأبرز آفات الأمّة الإسلاميّة.
ركّز الموصلي على أبعاد الولاية بدلاً من إعطاء مفهوم محدد حولها، فقسّم الولاية لأربعة أقسام: القسم الأوّل ولاية عامّة في أعمال عامّة ويشمل الوزراء، والثاني ولاية عامّة في أعمال خاصّة ويشمل أمراء الأقاليم والبلدان، والثالث ولاية خاصّة في الأعمال العامّة كقاضي القضاة ونقيب الجيوش وجابي الصدقات، والرابع ولاية خاصّة في أعمال خاصّة ومنهم قاضي بلد أو حامي ثغره. كما ركّز أيضاً على العدل والإحسان لدرجة أنَّ البعض أطلق على كتابه عنوان: (غاية الإسلام أنَّ الله يأمر بالعدل والإحسان)، فقال إنَّ العدل هو الحكم بما أنزل الله، وغير ذلك ففيه كفر وفسوق لقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [سورة المائدة آية: 44]. وأشار أنَّ من أسباب ضعف الممالك الإسلاميّة وسقوطها هو بعدها عن نصرة الله ورسوله بمعنى القيام بالعدل في الأرض، والعدل هو الذي يهيئ المُناخ العامّ للصلح والإصلاح ويحفظ الحقوق ويدفع الفاسدين. كما أنَّ صلاح الحاكم يأتي وراءه صلاح الأمّة، وفساده يعني ضياع الرعيّة، ففي عهد الحجّاج كانت الرعيّة تتساءل من قُتِل بالأمس؟ وفي عهد الوليد بن عبدالملك اهتمّ الحاكم بالزراعة والتعمير فتبعه الشعب، وفي عهد سليمان بن عبدالملك تحوّل اهتمام الرعيّة للنكاح والأطعمة، ولكن في عهد عمر بن عبدالعزيز أصبح اهتمام الناس بالعبادات والصيام والصدقات والإحسان للفقراء.
يرى الموصلي أنَّ الطرق الهادية للعدل هي:
1. أن يضمّ الحاكم نفسه للعلماء وطلبة العلم {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} [سورة فاطر آية: 28]، فهو السبيل الهادي للعدل والحكمة.
2. أن يعتبر نفسه فرداً مثل ولاته وشعبه، فلا يترفّع عنهم، ومن يخالف شرع الله يعزله.
3. الاهتمام بالشورى والتزام خصال ذكرها الشرع لصلاح الممالك والحكم ومنها اللين والمشورة والتواضع اقتداءً بالنبي الكريم وقوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [سورة الشورى آية: 38].
ومن ناحية الإحسان فقد اعتبر الموصلي أن لا عدل بلا إحسان، فلو كفى العدل لصلاح الأمم لما قرنه الله تعالى بالإحسان في كتابه الكريم {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [سورة النحل آية: 90]، فلا بدّ للملك من العدل ثم يزيده بالإحسان للرعيّة كإغاثة المستغيثين وإطعامهم وسدّ عوراتهم، ودفع الضرر عنهم، سواء كانت تلك الإغاثة من بيت المال أو زكاة الأغنياء.
وقد اختلفت آراء المفكّرين حول الولايات؛ فقد تبع الموصلي أقوال ابن تيميّة أنَّ الولاية هي أمانة ينبغي استئمان الأصلح لها سواء في الولاة أو القضاة، أو الشرطة والحرس وأئمّة المساجد من غير تقديم الأخ أو الصاحب أو عزل من نختلف معه في مذهب أو جنس أو عرق أو لون، وهي مسؤوليّة عظيمة استئمنها الله الولاة في رعاياهم ومناطقهم. أمَّا الماوردي وابن السبكي فقد قالوا إنَّ الولاية هي نعمة بحدّ ذاتها يكفي الشكر عليها في أدائها بإخلاص، وتستحقّ الشكر بالقلب واللسان، وشكر الرعيّة لامتثال أوامره وعدم مخالفته، وذلك لأنَّ شكر المخلوق هو شكر للخالق.
شدد الموصلي كثيراً على اختيار الأصلح للولاية لأنَّ صاحب الولاية والوكالة هو نائب الله على عباده، وصلاحيّة الولاية مرتبطة بطبيعة الولاية، فالأصلح اختيار الأجمل صوتاً في الأذان، واختيار من يخاف الله عند رعاية أموال الأيتام. كما أنَّ الولاية لها ركنان: الأوّل هو القوّة ويتمثّل في الشجاعة في الحروب، وقوّة العقل في الحكم. أمَّا الركن الثاني فهو الأمانة وهي خشية الله واتّباع كتابه وسنّة نبيه، واعتبر أنَّ اجتماع القوّة والأمانة في الولاية هو قليل في زماننا.
كذلك فإنَّ للولاة واجبات يجب التمسّك بها لضمان عدلهم وإحسانهم لرعيّتهم، فيجب للوالي حفظ وقته وعدم إهداره فيما لا ينفع، وأن يجمع في مجلسه حسن الأدب والتعامل والوقار، لا يتكلّم إلّا في الخير. كما دعى إلى القضاء بالعدل وتجنّب اتّباع الهوى، والبعد عن الرشاوي، ولا يجوز تولية أهل الذمّة على المسلمين أو بيت المال، بينما يجوز الاستعانة بهم في القتال. كما يجب عليه الدعوة إلى الله بإحسان والقضاء على الشرك، ناهيك عن ترسيخ أسس الشريعة في المجتمع، واتّباع منهج الشورى. ولم يتردد الموصلي في الدعوة إلى عزل الوالي عند الارتياب بفساده، فيجوز عزله لصالح الأصلح منه، ولكن ينبغي على الإمام التحقيق بعمق وحكمة قبل عزل الوالي للوصول إلى الحقيقة أو الأسباب التي تشرّع عزله.
ختاماً حاول الموصلي وابن تيميّة وابن السبكي والماوردي وغيرهم دراسة العنصر البشري في السلطة السياسيّة من منظور إسلامي، وركّز البغدادي على الفرق بين الأحكام السلطانيّة التي تصدر من الحاكم بنفسه والتي قد تتفق مع الشريعة أو تتعارض معها، وبين السياسة الشرعيّة التي تستمدّ شرعيّتها من كتاب الله وسنّة نبيّه فقط بعيداً عن نزعات البشر الفرديّة. كما أنَّ المناصب السياسيّة قائمة على استخلاف الله للانسان في الأرض وعمارتها والحكم فيها بعدل وإحسان، وتشجيعاً للباحثين لسبر أغوار السلطة السياسيّة وعلاقتها بالشريعة الإسلاميّة لإيجاد علم سياسة إسلامي معاصر.