الغرب المعاصر بين أفكار الأخلاق وتنفيذها

سلطان المكتومي

عاد السؤال الأخلاقي من جديد في الوسط الغربي وبصورة ملحة جدا. بعد غياب طويل بحكم التركيز على التقدم العلمي والتكنلوجي، أدرك الغرب وخصوصا بعد إلقاء القنبلة النووية على اليابان أنهم بحاجة ماسة للأخلاق لكي يخرجوا من هذا المستنقع الخطير. وفي نظري هذا هو السبب الجوهري في بروز السؤال الأخلاقي الغربي. عرض لنا الكاتب محمد الشيخ في مقاله "فلسفة الأخلاق ومشكلات القيم في الغرب المعاصر" في مجلة التسامح، وقد ساق مقولة للعالم الفرنسي الحائز على جائزة نوبل في البيولوجيا تنص على أنه "لا يوجد مجتمع يقدر على أن يبقى حيا بلا شرعة أخلاقية توجهه تكون مبنية على قيم مفهومة لأغلبية أعضائه ومقبولة لهم ومحترمة من طرفهم" لكن ما عاد لنا شيء من هذا، وواجهت المجتمعات الغربية سيلا من الأسئلة الأخلاقية وأيضا أصيب مفكرو العالم برجة بحكم أنهم لم يأخذوا المسألة على محمل الجد؛ فقد صب اهتمامهم على التكنولوجيا ونزعات الحداثة التي تتوجس من كل قول في القيم والأخلاق لأنهم يصفونها بالقدامة. ظلوا على هذه الوتيرة حتى جاء الفيلسوف الألماني يوغرن ها برماس وطرح ما سماه: (كبت الأسئلة الأخلاقية في الفكر الغربي لزمن طويل).  تجددت من جديد في الآونة الأخيرة وشهدت على حيوية قلّ أن تجد لها نظيرا، وصارت الكتب المتعلقة بالحكمة - الإتيقية والخلقية-نافقة أشد ما يكون. هنا الكاتب يطرح مجموعة من المعضلات التي تواجه مفكري العالم الناظرين في المسائل الأخلاقية والقيمية في الغرب المعاصر. ومن بين أهم المعضلات أن المجتمع الغربي استقلالي بطبعه، ديمقراطي بحكمة، ولو عرضنا الأسئلة الأخلاقية أو حاولنا تطبيق الأخلاق والقيم لواجهنا مسائل عدة من بينها تعدد القيم وما يلزم عنه من قول بمبدأ احترام الاختلاف وحماية الخصوصية والحفاظ على الأصالة. هنا دراسة في (البعد الأخلاقي والقيمي) لأربعة من أكبر مفكري الغرب، أولا: إتيقا الرعاية لمارتن هايدجر، والثاني أخلاق النقاش ليوغن هابرماس، والثالث إتيقا الذات لبول ريكور.

أولا: إتيقا الرعاية

مارتن هايدجر المؤلف الألماني والفيلسوف الذي كتب عن الوجود والتقنية والحرية والحقيقة وغيرها من المسائل. وقد ألف العديد من الكتب من أهمها الوجود والعدم وغيرها. كانت له إشكاليات مع الموقف الأخلاقي. وهذا مؤلف (المعجم التاريخي لفلسفة هايدجر) الذي لا تحضر في معجمة لفظة (إتيقا) ولا لفظة (خلق). وغيرهم العديد الذين يوافقون هذا الرأي بتأفف هايدجر من مفهوم الأخلاق بوصفها مبحثا فلسفيا ليستنتج غياب (فلسفة أخلاقية) في فكره.

ويرى الفيلسوف الفرنسي جون ليك نانسي أنّه إذا ما قصدنا بالأخلاق جملة مبادئ وغايات لتوجيه السلوك، فإنّه لا فلسفة خلقية لهايدجر بهذا المعنى بسبب أنّ الفلسفة لا تشرع قوانين أو معايير السلوك، وإنما هي تنظر في سلوك الإنسان سواء كان جيدا أم سيئا. بقيت الإتيقا موضوعا متواريا في أعمال ومؤلفات هايدجر ومتأصلا في أعماله وأفكاره وكان مسكونا بالهاجس الإتيقي، وقد ساوى بين الفكر والإتيقا. إذا نحن نظرنا إلى أي فلسفة، يجب علينا أن نأخذ في حسباننا اعتبار تصور سلوك الإنسان سوى كان سلبيا أم إيجابيا وهو ما يعرف "بعلم الأنثروبولوجيا". هايدجر في كل أعماله كان ينظر في سلوك الإنسان، ولكن يأخذه من الجانب السلبي فقط لا من الجانب الإيجابي.

هايدجر كان يريد إيصال فكرة عن ماهية (الكينونة) باعتبارها المقيدة لحرية الإنسان فقد تناولها في الكثير من أعماله على أن الإنسان المتولي لرسالته في الكشف عن كينونة الكائنات. وفي هذا الصدد ذهب ابن عربي في وصف الإنسان عبر مفهوم (المفتاح). فالإنسان هو مفتاح الكون، وهو مجلي الكينونة. قال الرجل: (الإنسان مفتاح كون الوجود). أما عند هايدجر فهذا المفتاح ما كان منيحة أو هبة من السماء أو من أي سلطة متعالية، وإنما هو أمر محايث للإنسان من حيث هو الكائن المنفتح؛ أي أنه أصيل فيه لا دخيلا عليه.

ثانيا : يورغن هابرماس "أخلاقية النقاش"

دارت في ربع القرن الأخير نقاشات فلسفية أسهم فيها الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس وكانت تتركز على الأمور الأخلاقية والسياسية، استجد النظر فيها بفعل التحولات التي عرفتها المجتمعات الغربية: أيّهما الأول والأجدر والأحق بالتقديم: (الأمر الخير) (قيمة (الخير) أم (الأمر العادل) (قيمة الخير) أم (الأمر العادل) (قيمة العدل)؟ وقد مالت الجماعة إلى تقديم (الخير) على العدل، بحكم تفضيل حفاظ (الجماعة) على (الخير) بينما مال بالضد من ذلك (الليبراليون) إلى تقديم (العدل) على (الخير). وعند هابرماس (الخير) في الفرد داخل الجماعة و (العدل) والجماعة لا ينبغي أن ينظر إليهما على أنّهما متعارضان أو متنافسان. والحال أنّ أخلاقيات هابرماس ضرب من الأخلاقيات، فقد جمع بين توليف ما يمكن أن يتألف، واختيار ما يمكن أن يتخير. جمع هابرماس أخلاقيتين متعارضتين: سعى إلى التوليفة بين الكونية والإطلاقيّة المجردة (على طريقة أخلاق كانط المطلقة)، من جانب، ونسبانية الأخلاقيات الحديثة، من جانب آخر. اختار هابرماس الدفاع عن النزعة الأخلاقية الواعية ضد النزعة القرارية والانفعالية في الأخلاق، ومال إلى تغليب كفة (الآداب)، بلغة القدماء، و(الأخلاقيات)، بلغة المحدثين، وذلك خلافا لـ (الأخلاق الجوهرية) المجردة عن سياقها التي لا تراعي مجال تطبيق هذه الأخلاقيات. هابرماس وكانط أقاما مبدأ أساس من أجل التداول الأخلاقي بغاية إقامة صلاحية القواعد المعيارية، ولكن هابرماس خالف كانط وهو النظر الخلقي الكانطي: (بدل أن أفرض على كل الآخرين قاعدة أخلاقية أريدها أن تكون كونية (كما كان كانط يفعل)، على أن أعرض قاعدتي على كل الأغيار حتى نفحص سوية، بواسطة الحوار.

احتدم النقاش بين (إتيقا) كانط و(إتيقا) هابرماس فالأول يقيم معايير الفعل الأخلاقي على فكرة (القبلية) التي تجعلها لا يطالها شك، والثاني يحاول أن يجعلها قانونا طبيعيا ثابتا. 

ثالثا :جون راولز "أخلاقيات العدالة"

راوز و هابرماس كلاهما لا يتردد أثناء الحِجَاج لأفكاره في اللجوء إلى وضع (حالات افتراضية). رأينا هابرماس يفترض (فضاء حواريا مثاليا)، وراولز يضع فرضية (الوضع الأصلي) ليستنتج منها مبدأيه في أمر العدالة، ووافقا هايدجر في وصفه الحوار بين أهل الفلسفة أهو حوار أو أداء أو إصغاء؟ اعترف هابرماس بأن راولز هو الذي نفض الغبار الذي حجب الأسئلة الأخلاقية الكبرى في الفكر الغربي المعاصر، وأنّه هو أعاد إلى الدراسات الأخلاقية منزلتها باعتبارها دراسات علمية جادة، وذلك من خلال كتابة (نظرية العدالة) وعنده أنّ كانط هو أول من صاغ المسألة الأخلاقية الأساسية على نحو يُمكن من الإجابة عنها بإجابات عقلانية، وفي ظل هذه المسألة أنّها في حالة نشوب النزاع بين أفراد المجتمع، ولذلك يلزمنا أن نقوم بما يكون (حسنا) بالنسبة إلى شخص.

السؤال عن (الأمر الحسن) السؤال الأخلاقي الذي ألهم راولز نظرية العدالة، وقد جددها بتساؤله: كيف يمكن لمواطني جماعة سياسية ما أن يتعايشوا في إطار شروط العدالة؟

وأخيرا، فلسفات الغرب في أطروحات الأسئلة الأخلاقية كبيرة ومحتدة بحكم طبيعة المجتمع الغربي؛ فالتنوع بين أطياف المجتمع الغربي، وغياب الإرادة السياسية التي تصب كل جهودها في التطور التقني والتكنلوجي يجعل تطبيق الأخلاق في غاية الصعوبة.

أخبار ذات صلة