سيف الوهيبي
لم يأل أبوبكر الكندي جهداً في تفسير وتحليل فكرة الذرة التي شغلت العالم منذ القدم في واحدة من أهم النظريات الفلسفية التي نادى بها فلاسفة اليونان ومثلهم الهنود والإغريق وطائفة الجانيا والسوتر انتيكا وغيرهم، وليلحقنا الشيخ العالم أبوبكر أحمد بن موسى الكندي العُماني النزواني بركب الفلسفة والتي لازمه فيها مفكرو المسلمين بين مؤيد ومعارض ومُصحح ومقارب.
هذا ما تناوله الكاتب العماني عبد الله المعمري في مقال له بمجلة التفاهم عنوانه "المذهب الذَّرّي الكلامي عند أبي بكر الكندي العماني". وسنلخصه على النحو الآتي:
نميل بالحرف هنا على بقعة منسية من التراث العُماني، تخطى فيها الكندي عوالم كثيرة في الكون وبُنيته واصفاً إياها -أي الجواهر في الكون- بالأجزاء الدقيقة غير القابلة للانقسام، وأن الله هو خالقها ومعدمها لمّا ينتهي هذا الكون، وهي محدودة معدودة، غير قابلة للزيادة والنقصان عمّا هي عليه، وباجتماع هذه الأجزاء تتكوَّن موجودات العالم.
ويتبنى الفقيه الكندي التَّصور الذري للوجود من منظور إباضي مشرقي في كتابه الجوهر المقتصر، يقدم فيه كشفاً تفصيلياً عن قضايا تتعلق بالمذهب الذري مثل الجوهر، والجوهر الفرد، والعَرَض، وعلاقة الجوهر بالعَرَض، ثم يُقسم الأعراض ويعددها ويميزها بمراتبها الأربعة، أما الأجسام في الكون فيثبتها الكندي وفق رؤية هندسية صريحة تتكون من ثلاثة أعراض وستة أو أربعة جواهر أو ثمانية جواهر وثلاثة أعراض، هذه الجواهر والأعراض تقع عليها القدرة.
الجوهر (الجوهر الفرد)، العرض
يؤكد كتاب الجوهر المقتصر على النَّظر إلى مادية العالم باعتباره مكوناً من أجزاء دقيقة قابلة للانقسام حتى تصل إلى جزء غير قابل لذلك، يسمى بالجوهر أو الجوهر الفرد وهي الأجزاء التي لا تتجزأ ولا تنقسم، ليس لها طول ولا عرض ولا عمق، والجواهر في أصلها متماثلة، ويذكر الكندي وصفاً لها في كتابه (فأول الجواهر الجوهر الواحد، وهو عند العُلماء بمنزلة النقطة التي لا طول لها ولا عرض ولا عمق، إن الجواهر ليست أجناساً مختلفة، بل كلها متماثلة في أنفسها، فإنما تختلف أحوالها التي لا يرجع إلى ذواتها)، أما قاسمها الوحيد فهو الله، فالله خالق هذه الأجزاء، وهو مُعدمها لمّا ينتهي هذا الكون، أما الأعراض فهي خصائص هذه الجواهر التي هي الأجسام، وبالتالي فإنَّ تنوع هذه الأجسام ناتج عن تنوع أعراضها، فالخصائص من لون وطعم وطول وعرْض وارتفاع وحركة وسكون هي الأعراض التي تنقسم إلى ثلاثة أقسام، يصنفها الكندي بقوله (إنَّ الأعراض ليست بجنس واحد، بل هي أجناس كثيرة، ففيها المُتماثل، وفيها المختلف، وفيها المتضاد).
علاقة الجوهر بالعَرَض
أينما توجد الجواهر وجِدت الأعراض والعكس ليس صحيحاً، فعلاقة الأول بالثاني حتمية، أما علاقة الثاني بالأول فسببية، فالحياة سبيلها البصر والسمع واللمس والتذوق والشم وغيرها، وقِس على ذلك من صنوف الأجسام أو أشياء الكون، يقول الكندي(الأجسام من نسق معيّن من الجواهر والأعراض، وعندما تتضام هذه مع بعضها تكون الكائنات بحسب خصائصها الهندسية، فكل كائن له خصائصه التي تختلف عن الآخر، وكل نظام هندسي من الأنساق "الأجسام المتكوِّنة من الجواهر والأعراض" يتراكم بعضها ليكوّن كائنها المكتمل، وكل مرحلة لها خاصيتها التي تضاف إليها أعراضها التي لا توجد في سابقتها).
مراتب الأعراض
صنف الكندي الأعراض على أساس يسمح فيها بالظهور من مراتب الجواهر وتنتهي بالأجسام، من خلال أربعة مراتب وهي: الرتبة الأولى، رتبة الحركة وهي مختصة بالجوهر الواحد فصاعداً لتحيزه، الرتبة الثانية، في الأعراض المُختصة بالجوهرين فصاعداً ونقتصر منها على الاجتماع والافتراق، فهذان العَرَضان لا يتصف بهما إلا الجوهران فصاعداً، الرتبة الثالثة، في الأعراض المُختصة بالجسم ويقتصر منها على الحياة، فلا يجوز أن يوصف بهذا العرض إلا الأجسام فحسب، الرتبة الرابعة، في الأعراض المُختصة بالجسم مع وجود الحياة والعقل ونقتصر منها على الجهل والعلم فلا يتصف بهذين العرضين إلا كل جسم حي عاقل.
ولو لاحظنا تنوع التسلل العددي للجواهر من خلال هذه الرُتب، لتبيّن لنا تنوع الأشياء في هذا العالم الواسع، وهو ما يهيئ ظهور الأجسام بما هو عليه من بِناء، فكيف هو الجسم؟.
تكوّن الأجسام
يربط الكندي الجسم بثلاثة أعراض في قوله (والجسم عبارة عن جواهر مجتمعة اجتماعا يوجد فيه الطول والعرض والعمق)، إذ يزيد حجم الجسم كلما زاد عدد الجواهر، ويتكون الجسم من اجتماع الجواهر، فقيل يبدأ بجوهرين فصاعدا، أما رأي الكندي فذهب حتى الثمانية بشرط تحقق الطول وهو الخط، والعرض وهو السطح، والعمق الذي يمثل السطوح المتعامدة، ولها قواعد مثل(إن وجدت هذه الجواهر الثمانية على خط واحد، لم تكن جسما) بحيث تمثل ثمانية جواهر وعرض واحد فقط في مثل هذه الحالة، ومثال آخر على تكوّن الجسم الصحيح(إذا انضاف إلى الجوهرين جوهران صار على قول بعضهم خطين، والخطان إذا اتصلا فهما سطح لهما طول وعرض ولا عمق، فإذا اتصل بالسطح سطح من أعلاه صار طويلاً للخط الأول عريضاً للخط الثاني عميقاً لاتصال سطح بسطح، وهذا هو الجسم)، فقد تكون الجسم كاملاً من ثمانية جواهر وثلاثة أعراض.
القدرة
يقسّم الكندي القدرة إلى اعتبارين بين عام وخاص، أما الأوَّل فهو يتعلق بالجوهر والعَرَض دون ثالثٍ لهما، غير أنهما يتأثران بفعل القدرة بحيث تمارس عليهما فعلين هما الإيجاد والعدم فـ(القول في تأثير القدرة في المقدور لا يعدو معنيين: إيجاد معدوم أو إعدام موجود، لا نعلم ثالثا تؤثره القدرة في غير هذين المعنيين)، أما الاعتبار الثاني وهو الخاص، فهو إشارة إلى معين، هذا المعين ينقسم إلى ثلاثة أقسام، وهي: الواجب والممكن والمحال، والأول ما كان (مقطوعاً بكونه لما قامت الدلالة عليه بأنه كائن من العقل أو السمع من الكتاب أو السنة أو الإجماع، كيوم البعث والحساب والثواب والعقاب وما أشبه ذلك، فقد سمى المتكلمون ما كان بهذه الصفة واجباً، أي مقطوعاً بكون لا يدخل الإمكان على غير كونه)، وأما الممكن فهو (أن يكون مجهولاً فقد خفي علينا أنه يكون أو لا يكون؛ إذ لم تقض الدلالة من الكتاب ولا من السنة ولا من الإجماع بأنّه يكون أو لا يكون، مع إمكان كونه من طريق العقل، فهذا ضرب يسميه المتكلمون ممكناً)، وأما المحال فهو المقطوع بأنّه لا يكون البتة، وهو نوعان محال عقلي كاجتماع الأضداد، ومحال سمعي كخروج أهل الجنة أو النَّار منها).
يخلص الكندي، انطلاقاً من جانب مهم من جوانب علم الكلام الإباضي المشرقي، في فلسفته عن بنية الكون، مستعيناً بعدد لا بأس به من العلماء المتقدمين نذكر منهم أبو المنذر بشير بن محبوب، وغيرهم من مُفكري المسلمين، الذين تباينوا بين إثبات الجزء الذي لا يتجزأ وبين إنكاره، لكن ما يُميز فلسفة الكندي هي وضوح الرؤية وبساطتها وحصرها، والأهم من ذلك كله أنّه ترك لنا إرثاً فلسفياً عميقاً، قلما تجد له مثيلا في التراث العماني، وبالرغم من اتهام الكندي من قبل بعض الفرق ومحاولة توجيه التهم إليه، مثل زعمهم بأنه يحاول دسّ بعض المُغالطات الكلامية، إلا أن الكتاب يشير لقضية فلسفية لا تخلو من الجدل، وفيه رد علمي لمن حاول معارضته مدعِماً فلسفته بدلائل كلامية مقنعة.
