أيمن البيماني
لا شكَّ أنَّ الحضارة الإسلاميّة خلدها التاريخ كواحدة من أعظم الحضارات البشرية التي قامت على وجه الأرض، وتشرَّبت من علومها العديد من الحضارات من بعدها في مجالات شتى، تبعتها منذ عهد قريب محاولات عديدة لإيضاح الشروط اللازمة لتجديد التمدُّن الإسلامي في الوقت الحالي. وهُنا لنا وقفة ومناقشة مع مقال رضوان السيد والمنشور في مجلة "التفاهم" بعنوان "المدنية والحضارة في أفكار الإسلاميين المحدثين والمعاصرين"، والذي تطرَّق إلى طريقة تعامل المثقفين والكتاب المسلمين مع مفاهيم المدنية والحضارة والدولة عبر فترات زمنية مختلفة.
يعدُّ رفاعة رافع الطهطاوي واحدًا من أبرز المهتمين بهذه المسألة في كتاباتهم؛ باعتبار أنَّ الوعي بالمصلحة العامة أساس المدنية، ثمَّ نشطتْ أكثر عند خير الدين التونسي (1888م) ليجعل التنظيمات العامة أساس إدراك وفهم أهمية المنافع العمومية في التمدُّن. وأوشكتْ هذه الرؤية أنْ تكتمل عند رفيق العظم الذي قارن بين أصول النهوض الإسلامي القديم وأسباب الازدهار الأوروبي الحديث، ثمَّ اعترف بانحطاط الفكر الإسلامي وحاجة المسلمين للأدوات الأوروبية الحديثة للنهوض. أما محمد عبده فقارن بين موقف الإسلام والمسيحية من التمدن ليخلص إلى أفضلية الإسلام في هذا الشأن، ثم أوضح أن التقدم والازدهار ليس أمراً معتمداً على الدين أو معارضاً له؛ وإنما هو حالة من التصميم والإرادة، ومشروع مهم وملهم للنهوض بالأمة وازدهارها وتقدمها، وذلك عن طريق رُؤى فكرية واسعة وعميقة، وأساليب مبتكرة، وطرق منهجية واضحة ترسم الطريق الصحيح للنهوض، وذكر فيما ذهب إليه زميله رفيق العظم فيما سبق عن ضرورة أخذ الأدوات والأساليب من الأوروبيين للنهوض بالأمة الإسلامية مرة أخرى.
يعتبر مُحمَّد رشيد أحد تلاميذ مُحمَّد عبده الذين تشرَّبوا أفكاره وساروا على نهجه. فقال بعد وفاة شيخه إنه إذا بلغ بنا الوعي والفهم والإدراك بأهمية مصالحنا، وأن هذا أو ذاك الأمر والفعل أيًّا كان من الحضارة الأوروبية المتقدمة نافع ومفيد لنا؛ فيمكن لنا أخذه واعتباره وتطبيقه للاستفادة منه دون الحاجة لتأصيله دينيًّا وتشريعيًّا. وظلت المسألة الحضارية عالية الوتيرة لدى أغلب تلاميذ محمد عبده من بعده مثل فتحي زعلول الذي ترجم كتاب "سر تقدم الإنجليز السكسون"، وأضاف له مقدمة كافية ووافية عن التقدم وشروطه ومنهجه وطرقه.
وفي عشرينيات القرن الماضي حدث تحوُّل تدريجي في مصطلحات المدنية والحضارة، ويُمكن القول إنَّ مصطلحَ الحضارة يفوق في التقدم والازدهار مستوى المدنية. ويمكن وصف الحضارة بأنها مرحلة الاكتفاء والكمال في الحياة، ولكنه يوماً بعد يوم تطوَّر إلى نبذ الآخر، واعتبار أمجاد الماضي أبدية، فبدأ نقد "الحضارة" الغربية ومثالبها على العالم والذات، وعرض الإمكانات الباقية والخالدة من "الحضارة" الإسلامية السابقة؛ لأنها قامت على نظم ممتازة، وما لبثتْ أن سادت قضية الهوية العربية والإسلامية والخوف على مصائر الدين الإسلامي، وضرورة الحفاظ على حضارتنا التي ظن البعض أنها تتوافر فيها أسباب ومقومات الخلود والبقاء الأبدي!
قام الأمير "شكيب أرسلان" بترجمة كتاب المستشرق الأمريكي "لوثروب ستودارد" بعنوان "حاضر العالم الإسلامي"، والذي يركز على ما بقي من أمجاد الحضارة الإسلامية. ثم قام "عادل زعيتر" بترجمة كتاب الفرنسي "جوستاف لوبون" عن حضارة العرب، والذي أثنى على إنسانية الإسلام ومقارنته بتوحش الحضارة الغربية قديماً. وهناك كتاب آخر لجوستاف لوبون بعنوان "سر تطور الأمم"، والذي رسخ لدى المثقفين المسلمين أن حضارتهم تتوافر فيها ثوابت الخلود، حتى جاءت صدمة زوال الخلافة الإسلامية عام 1924م ممثلة بآخر محطة لها وهي الخلافة العثمانية بإزاحة الخليفة العثماني السلطان عبدالمجيد الثاني من السلطة، لتتحول القضية من قضية تفوق على النمط والأسلوب الغربي إلى اشكالية المحافظة على الهوية الإسلامية من التضليل والزوال. وبالتالي فإن التغيير من "المدنية الغربية" إلى "الحضارة الإسلامية" صار عامًّا وشاملاً، وظهرت معه حركات الحفاظ على الهوية الإسلامية مثل الإخوان المسلمين في مصر، والجماعة الإسلامية في الهند.
ظهرتْ في كتابات العديد من الكُتاب والمثقفين أنَّ الحضارةَ بأكملها هي "الدين"، وإذا ما أراد المسلمون التقدم والازدهار مرة أخرى فلا بد من العودة لشريعتهم وأصولهم الدينية، ومن أمثالهم شكيب أرسلان في رسالة "لماذا تأخر المسلمون، ولماذا تقدم غيرهم"، وكتاب المفكر الهندي محمد إقبال بعنوان "إحياء الإسلام". ثم جاء نهج الحضارة المنفصلة والمستغنية والمكتملة في مقال أبي الأعلى المودودي التي ترى أن طريقة ووسيلة الخلاص من عباءة التقدم الغربي هو التنكر للغرب وتكوين دولة إسلامية مستقلة تتميز عن قومية الحضارة الغربية، والتي من شواهدها الصراع والخلاف الذي شبَّ بينها في الحرب العالمية الثانية، والذي قتل الآلاف وشرَّد الملايين من البشر. ثم جاءت كتابات أبو الحسن الندوي خاصة في كتاب "الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية"، والذي استعرضَ فيه الصراعَ بين الفكرتيْن الغربية والإسلامية خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، وسيطرة الحضارة الغربية على التقدُّم وأساليب الحياة، ولن تقوم الحضارة الإسلامية إلا على يد العرب فقط لأنهم هم الذين قادوا النهضة الأولى، ليفتح الباب هو الآخر ويمهد الطريق بشكل كبير لظهور الحركات الإسلامية النشطة. لذلك؛ صارت كتابات المودودي والندوي وسيد قطب هي الغذاء الفكري والمعرفي للحضارة الكاملة أو الحضارة البديلة للمسلمين، خاصة جماعة الإخوان المسلمين في مصر.
وبذلك؛ فإنَّ تطوُّر المسألة الحضارية عند المسلمين أدى لبزوغ مشروع الدولة الإسلامية الحديثة، ليظهر كتاب "معالم في الطريق" لسيد قطب وكتابات أخرى ودراسات اهتمت بطرائق بناء الدولة الإسلامية الحديثة والتي تقارع الحضارة الغربية.
خلاصة.. بدأ العرب والمسلمون بالحديث عن "المدنية" باعتبارها نهضة أوروبية ومشروعا كبيرا للحضارة الغربية، مع ضرورة الاستفادة قدر الإمكان من الحضارة الغربية في تلك الأساليب والأدوات التي أدَّت لازدهارها، أو الشراكة معها في المستوى العلمي والتقني والفكري والسياسي. ثم تحوَّل الحديث في عشرينيات وثلاثينيات القرن المنصرم ليأخذ منحنى "الهوية" بدل إشكالية التقدم، ليصبح الحديث عن "الحضارة" بدلا من المدنية، وأن الحضارة عمادها الدين البحت وتشريعاته وتعاليمه وليس قوامها بواسطة صناعة وتعاليم بشرية، وأنه لا عائق أمام الحضارة الإسلامية لتسيد العالم إلا الغرب؛ لذلك فلا بد من النضال معهم وطردهم من دور الريادة. ثم جاء مفهوم "الدولة الإسلامية" لتنتهي مع هذه المرحلة أغلب كتابات الإسلاميين كمالك بن نبي وغيره الكثيرين عن شروط قيام الحضارة وازدهارها، ولا تزال الكتابات تفتح لنفسها باباً أوسع يوماً بعد يوم في هذا الشأن الواسع.