سيف الوهيبي
ظل هيغل متربعاً على عرش أعظم فلاسفة التاريخ ولا زال، وذلك من خلال أفكاره الفلسفية العميقة وعطائه الذي لم ينضب منذ بزوغ نجمه في عام 1770. عاصر هيغل أحداثًا هائلة كانت تمر بها أوروبا وأمريكا، فقد تأثر بالثورة الفرنسية وكان من أهم الداعمين لها، كما تأثر بعلم اللاهوت وتاريخ المسيحية، وقد ألف ما يربو على عشرين مجلدا توزعت مجملها بين فلسفة التاريخ، والمجتمع المدني، وعلم الجمال. أما ما سنتناوله اليوم من تحليلات طرحها هيغل حول الشرق في مقال طرحه الأستاذ فؤاد الزرفي بمجلة التسامح عنونه بــ(هيغل والشرق: نقد المنهج واللغة في فلسفة التاريخ)، سننطلق من خِلاله في بعض محاضرات هيغل في فلسفة التاريخ والتي تحدثَ فيها في مجلده الثاني عن الشرق حيث كانت أفكاره مَثَار اهتمام عديد من الكُتاب والنقاد حول العالم. وحقيقة الأمر أنَّ هيغل أبدى نظرة دونية حول الشرق بشكل عام، فقد وجب علينا هنا مراجعة بعض الأفكار التي طرحها، نظراً لما يمثله من مرجع مهم لدى مفكري الغرب في فلسفة التاريخ.
اعتمد هيغل على الدوام تقسيماً تصاعدياً للتاريخ ابتدأه بالطور الآسيوي، وهو موضوعنا في هذه المقالة، ثم عقبها الطور اليوناني والروماني، وبعدهما الطور الجرماني. أما الطور الأول فقد أسماه هيغل (طفولة التاريخ)، حيث الحرية حسب رأيه تعمل على (تطوير نفسها دون أن تصل إلى مرتبة الحرية الذاتية)، ويمتد هذا الطور من أقصى الصين والهند إلى حضارات الفراعنة والآشوريين والبابليين والفرس. ومن خلال هذا المقال سنناقش أفكار هيغل حول الشرق انطلاقاً من الصين ثم الحضارة الهندية، إلى الإسلام، والعرب، والفرس.
هيغل والحضارات الشرقية:
الصين
لطالما اتفق معظم مؤرخي وفلاسفة التاريخ على أن الشرق هو مهد الحضارة الإنسانية ومبتدؤها، وهو أمر لم ينكره هيغل فيقول عند أول كلمات يكتبها عن الشرق في كتابه (العالم الشرقي): (ينبغي أن يبدأ التاريخ بإمبراطورية الصين لأنّها أقدم ما ينبئنا به التاريخ، ونحن نرى الصين منذ فجر التاريخ على تلك الحال التي هي عليها في يومنا الراهن). لكن ما يجعلنا نشكك في مصادر هيغل العلمية هو تجاهله لحضارات عريقة وقديمة قدم التاريخ الصيني مثل الساميين والسومريين، وهو ما يضع أكثر من نقطة استفهام حول فلسفة هيغل حول الشرق.
أما عن الصين، فقد انتقد هيغل النظام البطرياركي الذي أفرده للصينيين وحدهم وهو خطأ فادح جدًا لدى الفيلسوف الألماني؛ فما هو معلوم أن كل الحضارات منها البابلية والفرعونية كانت ذات سلطات بطرياركية. كما ينتقد هيغل النظام التشريعي في الصين واصفًا إياه بالنظام العادل السالب للحرية الذاتية، فهو من جهة عادل وبه مساواة لكل الأفراد إلا أنَّه سالب للإحساس الحر على حد تعبيره، فيقول: (لكن الصينيون لم يعرفوا الكرامة، فهم رعايا يخضعون للتأديب والتربية أكثر من خضوعهم للعقوبة، كما هي الحال بالنسبة للأطفال عندنا) وهذا النقد يبدو غاية في التناقض لدى هيغل؛ فهو عندما أراد تقديم الحلول لنظام التشريع في الصين، انتقد تقنين العلاقات واصفاً إياه بأنها قد طمس الإحساس الحر تماما، ومن جانب آخر يؤيد النظام الدولتاني الذي تعتمده الدولة القومية البروسية في ذلك الوقت.
كما وصف هيغل أخلاق الصينيين بعبارات نابية بعيدة عن الكرامة الإنسانية، فيقول: (ولا يبدو لهم أمراً مزعجاً أن يبيعوا أنفسهم كعبيد وأن يأكلوا خبز العبودية المر، أما الانتحار، كعملية انتقامية، والتخلي عن الأطفال وتركهم في العراء فهي عادات مألوفة وأشياء تحدث يومياً). إن اعتماد هيغل على مصادر المبشرين والرحالة والضباط والغزاة (رجال الاستعمار) وحكاياتهم، خلق هذه التوصيفات المغلوطة حول الإنسان الصيني الذي يتسم بالكرامة رغم الاختلافات بين أفرادها، فكان من الأجدر بهيغل أن يأخذ برأي آخر من غير الأوربيين الذين كانوا يحملون شيئاً من الضغينة تجاه الصينيين لكونهم كانوا مكروهين وهو ما اعترف به هيغل في كتاباته.
الحضارة الهندية
لا تختلف الحضارة الهندية كثيرًا عن الصين من ناحية الحُكم فهي على كل حال تحت وطأة المبدأ الأبوي البطرياركي على حد قول هيغل، لكنها مثالية الخيال وتحول كل شي إلى خيال محض وهي من طبيعة الإنسان الهندي، حيث يصف هيغل الروح الحالمة للطبيعة الهندية بقوله: (إن الفرد في حالة الحلم يكف أن يكون واعياً بحيث يقدر على التفرقة بين ذاته وبين الموجودات)، أما عن الأخلاق الهندية فقد كرر هيغل الخطأ نفسه مرة أخرى؛ فكل ما اعتمده هو عبارة عن حكايات الضباط الإنجليز، الذين وصفوهم بالغش والخداع، والسلب وغيرها من الأوصاف البذيئة؛ فيقول في نهاية وصفه لهم: (ويتفق الإنجليز جميعاً على ذلك)، وهي نتيجة نظام الطبقات الهندي -يقصد الصفات الهندية- على حد تعبيره، ونتيجة الأفكار الدينية للمجتمع الهندي.
وبرغم الاعترافات العديدة من قبل مفكري العالم وفلاسفته ومن ضمنهم مفكري وأدباء أوربا خاصة، على أن ما تحقق في أوروبا في القرون الأخيرة ما هو إلا نتيجة التراكم الحضاري بين الشعوب المختلفة، ومن ضمنها الشرق الذي كان زاخراً بالاكتشافات والكنوز الضخمة في العلوم والآداب والفن، إلا أن هيغل كان يحاول طمس حقائق التاريخ، ويرى فيها (الحضارات) مجرد فكرة بسيطة في محطات تاريخية لم تكتمل إلا بأوروبا ولم تتطور إلا عن طريق الجرمان ولن تنتقل إلى غيرهم، لأنّهم برأيه خط النهاية في السباق التاريخي، فأوروبا هي النهاية وهي فوق الجميع.
الإسلام: العرب والفرس
على قدر فلسفة هيغلية واضحة من نزعة أوربية داعمة للسيطرة والاستعمار؛ تأتي نظرة هيغل الذي أبدى تجاهلاً واضحاً وصريحاً للحضارة الإسلامية التي امتدت لأكثر من ستة قرون، فبالرغم من أنه أثنَى على الروح والأخلاق وقدرة العقيدة الإسلامية على تطهير الروح البشرية، وفي دخول شعوب أفريقيا في نطاق الحضارة إلا أنه وقع في نفس الخطأ الذي وقع فيه كثير من مفكري أوروبا وعصر التنوير حيث رأى الإسلام الذي عمَّ وشمل أقطاب الأرض كافة من خلال المواجهة المسلحة بين المسلمين العثمانيين وأوروبا المسيحية فبنى صورة تنُم عن التخلف والرعب والانحطاط حول الإسلام.
أما عن الفرس فقد وقع هيغل في خطأ جسيم لا ندري أكان متعمدا أم غافلا؛ فقد أدرج الحضارات البابلية والآشورية والفينيقية تحت مسمى الحضارة الفارسية، ليس هذا فحسب بل حتى الحضارة الفرعونية انضمت إلى الفرس أيضا، وتعود نظرة هيغل للفرس إلى بعد سياسي بحت حيث كان الفرس(الدولتان الصفوية والقاجارية) يعيشون بُحْبوحة من العلاقات الوطيدة مع الأوربيين.
ولا يمكننا أن نلقي باللوم كله على كاهل هيغل وحده؛ فمعظم مفكري أوروبا المشهورين قد تورطوا في فرضيات فلسفية تدعو للاستعلاء والتأله، وهي تصورات بُنيت على نظريات تختص بالأعراق وكتابات الرحالة القدماء، ولكن ما يثير الدهشة هو اعتماد فيلسوف له حيز ضخم في محيط الفلسفة التاريخية على مصادر أقل ما نقول عنها أنها ليست مهنية، فليس هنالك أي مبرر يدعو لاحتلال أراضي الآخرين بدعوى تحريرهم؛ فما رأيناه هو غير ذلك، فبدلاً من فك الأغلال عنهم كُبلوا ونُهبت ثرواتهم أمام أعينهم. أما ما كان يرمي إليه هيغل من نظريات فلسفية تاريخية اتسمت بالعقلانية عن الشرق، فلسنا موقنين منها، ولا ندري ما في بطن قلبه حقاً. ولكن ما نحن متأكدون منه أنَّ كل كلمة كتبها هيغل عن الشرق تحولت إلى قوالب مدرسية ثم تحولت لاحقًا إلى حقول بشرية بدعوى استعمارية مغلفة بالحرية، فأوروبا ليست النهاية وليست فوق الجميع.
