التجربة الإسلاميَّة في تطوُّر الممارسات السياسيَّة

سُلطان المكتومي

إنَّ التجربة السياسية عند الإسلاميين في زمن الخلافة الراشدة وحتى الدولة العثمانية، شهدت الكثيرَ من التطورات على مستوى السلطة والقوانين التي تضعها الدولة. وقد عَرَض لنا الكاتب رضوان السيد في مقاله "الفقه والسياسة في التجربة الإسلامية الوسطية" الكثيرَ من الأحداث التاريخية التي أبرزها في ملاحظتين؛ إحداهما: مفهومية، والأخرى: تاريخية. وقد تناول الكاتب في الملاحظة الأولى وقائع التجربة المسيحية والإسلامية في العصور الوسطى. أمَّا من الناحية المسيحية، فهناك مؤسسة دينية قوية منذ القرن الثالث الميلادي (كنيسة-سلطة كنسية). وظهرت إشكاليات العلاقة بين المؤسستين الدينية والسياسية في القرن الرابع بعد اعتناق الإمبراطور قسطنطين المسيحية.

أمَّا من الناحية الإسلامية، فلا يُمكن الحديث عن مؤسسة دينية مُكتملة الأركان قبل مُنتصف القرن الثالث الهجري/التاسع والعاشر الميلادي. في الملاحظة الثانية تناول الكاتب الشأن السياسي زمن الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومن بعده الصحابة الكرام، وأيضا تحدَّث عن الدولة الأموية، وكيف كانتْ تُمارس الشأن السياسي وفق منهج الشورى والكتاب والسنة. وسأحاول في هذا المقال أنْ أسوق بعضَ الأحداث والتطورات السياسية عند الإسلاميين حتى زمن الدولة العثمانية التي شهدت الكثير من الممارسات السياسية الجديدة على مسيرة التجربة الإسلامية السياسية.

 

المصطلحات الجديدة والأحداث التي صاحبتها:

ظهرتْ عِدَّة مصطلحات على مدى تاريخ التجربة الإسلامية، وكل دولة كانت لها صبغة معينة أو مصطلح لشخص يُمارس فيه الدور الذي لُقِّب به؛ ومن ضمنها: ظهور مصطلح "الفقيه" الذي كان في القرن الأول وهو سلمة بن ذؤيب الرياحي، الذي حمل راية في أواسط الستينيات من القرن الأول، ودعا تحتها إلى الولاء لابن الزبير بعد وفاة يزيد بن معاوية. وفيما بعد ذلك كان الشبان والكهول المهتمون بالشأن الديني يسمون قراء أو علماء. والطريف أن الذين تولوا القضاء يسمون قضاة فحسب. وفي النصف الأول من القرن الهجري نقرأ عن "فقهاء المدينة السبعة"، ثم في النصف الثاني من القرن الثاني الهجري/ الثامن الميلادي، انتشر مصطلحا "المتكلم" و"الفقيه"، دون أن يكون واضحا ومحددا معنى الفقيه وصلاحياته بخلاف المتكلم. وفي القرن الثالث الهجري/التاسع والعاشر الميلادي -ولأول مرة- ظهرت المذاهب الفقهية أو مدارس الفقهاء الشخصية، ومن ضمن هذه المدارس: الأحناف (نسبة للإمام أبي حنيفة النعمان). وفي هذا السياق التاريخي، اشتبك الخليفة المأمون ومن بعده أخوه المعتصم وابنه الواثق مع المحدثين والفقهاء في عدة مسائل؛ أبرزها: خلق القرآن. وهذه المسائل والإشكاليات تدل على اكتمال المؤسسة الفقهية، وأخذها للصلاحيات التشريعية باعترافها منذ أن عين هارون الرشيد (170-193هـ\786-808م) أبا يوسف -تلميذَ أبي حنيفة المشهور- قاضيا للقضاء. وقد سلم المأمون أبا هارون للفقهاء بالمرجعية في التشريع. ولكن الأهم من ذلك أنه لم يسلم لهم بالمرجعية في الدين؛ خوفا من أن يؤثر ذلك في مشروع الدولة، أو أن يتجدد النقاش في مسائل الشورى وشرعية السلطة وشروطها.

 

تحديد المجال: الديني والسياسي

حدثتْ حادثة كبيرة استمرَّت قرنا من الزمان وتحديدا كانت بين القرن الثامن والتاسع الميلادي، ونتج عنها تنافس بين المؤسسة الفقهية المتمثلة في عدة فئات متقاربة: قضاة، وقراء، ومحدثين، وفقهاء. وبدأت تتولى مسائل التعليم في المساجد، والدرس الفقهي، والقضاء، ورواية الحديث، والفتاوى، والتصنيف والتأليف. وفي داخل المؤسسة تنافس بجوارها عدة فئات على تحديد مفهوم الدين، وتحديد السلطة فيه. والتنافس الرئيسي كان بين الفقهاء والمتكلمين. أما الدولة أو السلطة السياسية الحاكمة فقد وقفت في بادي الأمر مع المتكلمين. ونتيجة لذلك انخفضت سمعة المتكلمين مما جعل السلطة السياسية تتقاسم مع الفقهاء الذين تولوا المهام الرئيسية في المجال الديني: التعليم، والقضاء، والفتوى، والتصنيف أو التدوين الفقهي والحديثي.

وفي هذا الصدد، وخلال القرن الثامن الميلادي، لدينا ثلاثة نصوص: اثنان منهما منسوبان للخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز (99-101هـ/717-719م)، والآخر منسوب لابن المقفع (139هـ/756م)، وكلاهما معنيٌّ بتحديد المجالين الديني والسياسي، وصلاحيات كل من السلطة السياسية، والمؤسسة الدينية، والنصوص هي:

أولا - نصا عُمر بن العزيز:

- "أردت أن أجعل أحكام الناس والأجناد حكما واحدا، ثم رأيت أنه قد كان في كل مصر من أمصار المسلمين، وجند من أجناده ناس من أصحاب رسول الله، وكان فيهم قضاة قضوا بأقضية أجازها أصحاب رسول الله ورضوا بها، وأمضاها أهل المصر كالصلح بينهم، فهم على ما كانوا عليه من ذلك".

- "ليس لأحد في كتاب الله ولا في سنة رسول الله أمرٌ، ولا رأي إلا إنفاذه والمجاهدة عليه. وأما ما حدث من الأمور التي تبتلى الأمة بها مما لم يحكمه القرآن ولا سنة النبي ؛ فإن والي المسلمين، وإمام عامتهم لا يقدم فيها بين يديه، ولا يقضى فيها دونه، وعلى من دونه رفع ذلك إليه، والتسليم لما قضى".

أمَّا النص الأول لعُمر بن العزيز، فيذكر محاولة من جانب السلطة الأموية للسيطرة على أحكام القضاء في الأجناد (المناطق العسكرية التي أنشاها الفاتحون العرب)، والأمصار (المدن) وعمر الثاني لا يذكر طبيعة الذي أراد الأمويون السيطرة من خلاله؛ لكنهم أرادو السيطرة من خلال الأوامر الإدارية المباشرة.    المحاولة فشلت، وقد تركوا في النهاية للقضاة الحكم بالأعراف المختلفة السائدة بكل مصر. ويعود عمر الثاني في الفقرة (ب) لتحديد الصلاحيات التشريعية للسلطة السياسية، فيعتبر الكتاب المصدر الأول في التشريع والسنة هي المصدر الثاني للتشريع. ويعتبر الخليفة نفسة مصدرا ثالثا في الأمور التي لم يُشرع فيها الكتاب (القرآن الكريم).

لم تحدث خلافات عميقة وجوهرية في عهد الخليفة العادل عُمر بن العزيز؛ بحكم العدل والإنصاف والزهد، بخلاف من سبقوه من ولاة بني أمية؛ فقد عاشت الدولة الأموية أزهى فتراتها في عهد عُمر بن العزيز، الذي كان يحذو حذو الفاروق رضي الله عنهما.

ثانيا - نص عبدالله بن المقفع:

"أما إثباتنا للإمام الطاعة فيما لا يطاع فيه؛ فإن ذلك في الرأي والتدبير والأمر الذي جعل الله أزمته وعراه بيدي الأمة، ليس لأحد فيه أمر ولا طاعة من الغزو والقفول، والجمع والقسم، والاستعمال والعزل، والحكم بالرأي فيما لم يكن فيه أثر، وإمضاء الحدود والأحكام على الكتاب والسنة، ومحاربة العدو ومهادنته، والأخذ للمسلمين والإعطاء عنهم...".

إنَّ النصوص التي أوردها ابن المقفع، والتي سُقْتُ منها نصا واحدا فقط يتعلق بالمجال السياسي، هي فقرات من الرسالة المنسوبة إليه باسم "رسالة الصحابة". وابن المقفع كان من موظفي الديوان أو الإدارة في العصر الأموي، وهو من موالي العباسيين؛ ولذلك صار من المستشارين في الدولة الجديدة. ورسالته تعكس النقاشات التي كانت دائرة في أوساط النخب السياسية. وهي قريبة من كلام عُمر بن عبدالعزيز في علاقة السلطة السياسية بالتشريع. وكلها كانت نقاشات حول شرعية الخليفة وصلاحياته، مع العلم أنْ يكون الخليفة فقط مجتهدا أو باعتباره الراعي الأعلى للعدالة؛ بحيث لا تختلف الأحكام بين مصر ومصر. وفي هذه الفترة التاريخية فشلت كل المحاولات في توحيد الأحكام من الأمويين والعباسيين على أن يكون الحاكم بمثابة السلطان.

وأخيرا.. التجربة السياسية في الدولة العثمانية التي تغيَّرت تغيرا جوهريا عن الأزمنة السابقة؛ فقبلها كانت هنالك مؤسستان (الدينية والسياسية)، ولم تكونا متسقتين. والأخطر من ذلك أن الفتوى والاجتهاد الشرعي أصبحا فيما بعد قانونا لا يمكن تغييره. ولكن الدولة العثمانية أيضا كانت لها مؤسستان -دينية وسياسية- وكانتا متسقتين ومتجانستين؛ لذا فقد أمكن حل النزاعات ومراعاة الاحتياجات المستجدة، بتشاور بين المؤسستين. ولا ننسى أن سبب التناسق بينهما كان بفضل السلطان حيث كان يُشرع ويعدل في المؤسستين.

أخبار ذات صلة