مراحل الخلافة الإسلاميّة من المؤسّسيّة إلى العلمانيّة!

أيمن البيماني

تعتبر العلاقة بين حامل الرسالة وبين الشريعة الناتجة علاقة متماسكة ومترابطة، حيث يرى (بوبي س. سيّد) في مقاله المنشور في مجلّة التفاهم أنَّ مؤسّس الخطاب هو جهة شارعة، بينما العمل الناتج من هذه الدعوة يعتبر شريعة، ونرى بذلك أنَّ الشارع يمثّل الشريعة ويتمثّلها في الوقت نفسه.

يتحدّث بوبي أنَّ غياب المعنى السياسي للمنصب في نهايات القرن الرابع وبدايات القرن الخامس الهجريّين أدّى إلى الاستغناء عن الخلافة كمؤسّسة باستثناء الحقبة الأولى من موت النبي عام 632م إلى منتصف القرن العاشر الميلادي. ولنا في موت النبي (صلى الله عليه وسلم) خير دليل ومثال على صحّة الكلام السابق؛ فموت النبي هو الذي أسّس للإسلام وللشريعة، حيث نقل موته فكره ومبدأه من شخصه إلى رسالته الخالدة، فهنا غاب الشارع ولكن بموته ظهرت شريعته، وتمثّل هذا الظهور في البدء بجمع القرآن الكريم وترتيبه، ثم جمع الأحاديث النبويّة، وتشكيل سنّته التي هي من صلب عاداته ومبادئه. وخوفاً من تفكّك المجتمع السياسي آنذاك بغياب الشارع وظهور الشريعة؛ ظهرت مؤسّسة الخلافة بما جلبته معها من هيكل إداري وتنظيمي، وجلبت معها وظائف جديدة منها: وظيفة القيادة (الخلافة)، ووظيفة شرح العقيدة والاجتهاد، وهذا ما كان بمكان أن يحدث إلّا بموت النبي وظهور شريعته الخالدة.

وهنا لا يمكن القول بأنَّ الخلفاء ورثوا السلطة التنفيذيّة عن النبي وذلك لأنَّ الخليفة لا يستطيع أن يشرّع، ولكنّه يقوم مقام القاضي والحاكم، فهو من يختار الأكفاء للتحدّث بدل الشارع، واختيار من يستطيع تفسير الشريعة والاجتهاد فيها. استمرّ التناحر قروناً في النقاشات السياسيّة والسلطويّة مّما أدّى إلى تضاؤل نفوذ الخلافة، ففي عام 929م أعلن عبد الرحمن الثالث نفسه خليفة متلقّباً بلقب (الناصر) فأصبح هناك خليفتان للمسلمين، وعام 1258م قتل هولاكو الخليفة العبّاسي ببغداد فأقام المماليك عام 1261م خليفة آخر في مصر، وفي عام 1517م استولى العثمانيّون على مصر والخلافة، فأصبح الخليفة مجرّد صورة شكليّة فقط في بلاد الإسلام والمسلمين! وبهذا نرى أنَّ الخلافة ليست مهمّة سياسيّة لجرّ الجيوش وفرض العقوبات بقدر ما هي الرابط المتين بين الشريعة والشارع المؤسّس، والتي تشكّلت بسببها الهويّة الإسلاميّة العالميّة.

يعتبر عام 1924م نقطة تحوّل عظيمة في مسار الخلافة الإسلاميّة؛ فقد قام المجلس الوطني الكبير للخلافة بإلغاء مؤسّسة الخلافة نهائيّاً بسبب ضغط وإصرار من التركي مصطفى كمال أتاتورك آنذاك، فكانت أولويّته القضاء على الخلافة لتشكيل سلطته بدلاً عنها. وخلال الفترة بين 1923م عند إعلان الجمهوريّة إلى عام إلغاء الخلافة (1924م) قام أتاتورك بشغل الرأي العامّ وتشويه سمعة الخليفة بكلّ السبل المتاحة وتلفيق التهم عليه لضمان نجاح مخطّطه والتخلّص من الخلافة! ودافع أتاتورك عن أفعاله بثلاث حجج:

1. وجود الإسلام لا يقتضي وجود خليفة له.

2. ارتباط الخلافة بالسّلطة يقود لدولة متعدّدة الإثنيّات والأعراق وهو ما يخالف قيام الدولة الحديثة.

3. الخلافة تجرّ معها عادات وتقاليد وأعرافا وأفكارا تعارض العلم الحديث والحضارة.

وتلقّى أتاتورك عدّة عروض مغرية للرجوع عن فكرته ومنها أن يكون هو الخليفة نفسه، أو أن يكون الخليفة هو رمزاً وصورةً فقط بدون سلطة، أو أن يقوم هو بنفسه بتعيين خليفة عربي شريف، فرفض إقامة دولة إسلاميّة وأقام دولة قوميّة تركيّة.

لاقى الأمر معارضة شديدة من العالم الإسلامي كون فعل أتاتورك قضى على إمكانيّة تأسيس حيّز إسلامي غير قومي، فحاولوا جميعاً إعادة الخلافة ومنهم فؤاد ملك مصر، والهاشميّون، والتونسيّون، والمسلمون الهنود ولكن بدون جدوى. وفي عام 1926م نظّمت مجموعة العلماء مؤتمراً في القاهرة بهذا الشأن ولكن بدون نتيجة! فسلّم محمد إقبال بسقوط الخلافة ورسم فكرة تحويل العالم الإسلامي إلى (عصبة أمم) بدلاً من النواح على الخلافة. وبإلغاء الكماليّين للخلافة قضوا على العلاقة بين الإسلام وسلطة الدولة وأنهوا علاقة متينة امتدّت لأكثر من 1000 عام!!!

أفعال أتاتورك قامت بتحديث العديد من الأشياء في الإسلام، وقد وضح من خطاباته وأفعاله أنَّه يريد مطاردة الإسلام بحيث لا يشكّل أيّ خطر عليه لاعتقاده أنَّه عقبة أمام التقدّم وقيام الدولة الحديثة، وكثيراً ما وصف أتاتورك الإسلام بأنَّه رمز الظلام والجثّة التي تسمّم حياتنا! فتمّ وضع المؤسّسات التعليميّة تحت إشراف الحكومة، ثمَّ ألغيت المحاكم الدينيّة، ثمَّ صدر قانون تحريم لبس الطربوش والحدّ من لبس الحجاب، وحُلّت الطرق الصوفيّة، وتمَّ تطبيق النظام السويسري، وكان عام 1928م هو القشّة التي قصمت ظهر الخلافة بسحب اعتراف الدولة بالإسلام، فلم يعد في الدستور هو دين الدولة، وفي المجال التشريعي تمَّ تحريم بناء أكثر من مسجد في الحيّ الواحد، فلم يبن أيَّ مسجد في تركيا حتّى الخمسينيات. وقال الكماليّون إنَّهم يريدون تأسيس تركيا على أربع استراتيجيّات: (العلمانيّة - القوميّة - التحديث- التغريب)

وهكذا قامت القوميّة التركيّة، فكانت وسيلة للقضاء على التعدّديّة الإثنيّة، ففي الوقت الذي اعتبر فيه العثمانيّون أنَّ التعدّديّة محمودة؛ رآها الكماليّون طريقاً للتفكّك فحاولوا القضاء عليها، فتمَّ اختراع التركي بدل المسلم، ولكن استعصى عليهم استيعاب الأكراد، فكانت الهجرة إلى الأناضول فعلاً جهنّميّاً للقضاء على الأكراد وتوطين الدولة القوميّة "التركيّة". كما أنَّ التحديث في الإسلام العثماني أرادوا به تقوية الدولة في وجه الغرب من حيث الجيش والإدارة مع الأخذ في الاعتبار الهويّة الإسلاميّة، بينما أراد الكماليّون استنساخ الغرب بحذافيره ليحلّ محلّ الهويّة التقليديّة الإسلاميّة والتي اعتبروها رمزاً للتخلّف والرجعيّة!!

امتدّ تأثير الكماليّة ليصل إلى خارج الحدود الجغرافيّة التركيّة، فقلّد رضا خان بإيران الكماليّة بحذافيرها، وظهرت معالم الكماليّة عند إعادة تكوين بعض الدول الإسلاميّة بعد الاستعمار، واتّخذت الأنظمة الإسلاميّة منحنيين رئيسيّين في هذا الشأن:

المنحنى الأوّل تبنّته الأسرة البهلويّة في إيران بقيادة رضا خان الذي يعتبر الإسلام استثماراً غريباً وتحريفاً للهويّة الآريّة العريقة بإيران، ولكنَّ استراتيجيّته فشلت بسبب استيلاء العرب الساميّين على إيران وتقييدها بالإسلام.

المنحنى الثاني كان منحنى الإستيلاء والتحويل أو شبه الخلافة، ومثله أن ينسب الحاكم نفسه للنبيّ (صلى الله عليه وسلم)، أو أن يتسمّى بأمير المسلمين، أو ادّعاء اتّباع الشورى بدلاً من الديموقراطيّة.

وهذان النمطان للتوضيح وليس للحصر من محاولات طرد الإسلام من المفاهيم السياسيّة للدولة، ومن سوء حظّ الكماليّين أنَّ طرد الإسلام من النظام السياسي أدّى إلى إعادة تعبئته في الثقافة العامّة، فأصبح قابلاً للعودة وبالفعل أصبح أقوى مما سبق كما يقول شريف ماردين. وبهذا تستمرّ الصراعات بين الإسلامويّة والكماليّة، وذلك لأنَّ النظام الاجتماعي بعد الإسلام يصبح فوضويّاً للغاية، ولذلك تصبح الخطابات القائمة حول الإسلام هي الوحيدة القادرة على إعادة النظام للمجتمعات.

أخبار ذات صلة