داود سليمان
واحدة من التحدِّيات الكُبرى التي تواجه الفكر الإسلامي اليوم، هي نظرته للمرأة وحقوقها ودورها في البناء الحضاري، في ظل اتهامات كثيرة ترى أن الإسلام ومنظومته الفقهية قد أساءتْ للمرأة، وحقَّرت دورها، واختزلته في حدود الأسرة والأمومة، فضلا عن اعتبارها جنسًا آخر ثانويًّا وتابعًا. وفي هذا السياق، نناقش من خلال تلخيصنا ونقدنا لمقال سعاد حكيم "المرأة المسلمة نحو تأصيل لنموذج عالمي"، إمكانية تقديم نموذج عالمي للمرأة المسلمة يستند للرؤية الإسلامية ويزاحم النموذج الغربي المهيمن.
حيث ترى سعاد الحكيم أنَّ قضايا المرأة المسلمة بدأت تأخذ حيزا في تداولات الكتاب والمفكرين العرب في بداية القرن العشرين، في شكل نزاع بين تيارين تمثل بقاسم أمين الذي كان يَرَى أن العادات والتقاليد تمنع المرأة من التقدم والتحرر كالحجاب مثلا الذي يعتبره عادة اجتماعية وليست عبادة. وفي الوقت نفسه، كان هناك تيار آخر يرى العكس كما هو عند رشيد رضا الذي يقول إنَّ النساء المسلمات بدأن يتجاوزن الشريعة وأحكامها تحت تأثير الثقافة الغربية.
وفي منتصف القرن العشرين، خرجتْ مسألة حقوق المرأة من حدودها الإقليمية؛ حيث باتت قضيتها قضية عالمية تحت تأثير مؤسسات الأمم المتحدة التي عقدت المؤتمرات والمعاهدات والاتفاقيات الدولية التي تسعى لتحقيق المساوة بين النساء والرجال في جل الميادين: السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية؛ في اختراق واضح للثقافة الغربية ونموذجها النسوي لأغلب ثقافات العالم -بمن فيها المسلمون- دون أية مراعاة لخصوصية حضارتهم وثقافتهم. ومن هنا، تحاول سعاد تأصيل فهم جديد لنموذج إسلامي عالمي أصيل للمرأة المسلمة يُنافس إنسانيا النموذج الغربي المعزز بالعولمة.
ويقوم نموذج سعاد الحكيم على مبدأ الشراكة؛ حيث تقول إنَّ المرأة في الإسلام هي شريكة الرجل في كل ميدان، وهي هنا لا تبتعد كثيرا عن المفهوم الغربي القائم على المساواة من ناحية رفض كل أشكال التمييز ضد المرأة. وتوضِّح سعاد الحكيم النموذج الذي تدعو إليه من خلال أربعة أفكار أساسية؛ فهي تنفي تهمة أن الإسلام يعيق المرأة من تحقيق هذا النموذج العالمي، وتدعم ذلك بحقيقة أن نساء كثيرات حصلن على شهادات علمية عالية، وبعضهن يشغلن مناصب وزارية وإدارية ونيابية وجامعية في أغلب أوطان المسلمين، وهن نساء يعتززن ويفتخرن بانتمائهن والتزامهن بالإسلام، وهُن خير دليل على أن الإسلام لا يحظر تقدمهن علميا وعمليا. الفكرة الثانية هي انتقادها للفلسفة الغربية؛ كونها فلسفة تنبني على الفردية حيث تراها أرضا خصبة تنمو فيها الأنانية والخصومة وصراع الحقوق والمصالح الفردية القائمة على روابط وقيم مادية لا تثمن التضحية والإيثار، وهي تقرر بالأخير أن الفردية تفكك الاجتماع البشري وتؤسس للصراع مع الآخر في معركة الحقوق والمساواة والتهميش والتفعيل. وفي حين أنَّ الفلسفة الإسلامية تنتج مفهومَ الشراكة في إطار التكامل الإنساني لا التماثل المواجهاتي، يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "إنما النساء شقائق الرجال".
الفكرة الثالثة هي حديثها عن العائلة؛ من حيث هي توليفية إنسانية تمتلك بنية بشرية تتمثل بالأب والأم والأولاد، ولكل واحد منهم دوره ومشاركته وحقوقه وواوجباته. أما في الغرب، فالأسرة تشهد أشكالا جديدة كالعائلة المثلية وعائلة الوالد المنفرد، فضلا عمَّا يشهده الغرب من تفكك أسري، وهو لا يُبشر بالخير لا على المجتمع ولا على المرأة.
الفكرة الرابعة والتي توليها سعاد الحكيم حيزا أكبر في مقالتها هي النضال من أجل الشراكة؛ من خلال دعوتها النساء لإبداع آليات تضمن شراكتها في كل مجال وتمنع من استعبادها في أي أمر. وتقترح سعاد الحكيم ابتكار هندسة جديدة للمساجد تكون ثنائية مزدوجة العمارة مساوية لمساحة الرجال؛ لأنه إذا حصل ذلك فهي ستكون الشريك في كل شأن. الأمر الآخر الذي تدعو إليه سعاد الحكيم هو نقد الثقافة الخاصة بالمرأة من قبيل أنها مخلوق ضعيف ناقص القدرات أو اعتبارها قنبلة جنسية قابلة للانفجار في أي وقت؛ لذلك وجب وضع القيود والحجب عليها وهو أمر يبدأ من التربية الصحيحة، وتكافؤ الفرص من قبل العائلة. كما تقترح سعاد الحكيم أيضا أن تكون هناك أماكن محفوظة للنساء في المجالس والهيئات في مختلف الميادين حتى تكون شريكة في صناعة القرارات والسياسات.
ولا شك أنَّ كل هذه الفعاليات والدعاوى للإصلاح الديني والمجتمعي فيما يخص وضع المرأة، هو ردة فعل للحداثة الغربية وقيمها التي وضعت كثيرا من المجتمعات المتخلفة أمام تحدٍّ أخلاقي وحضاري حقيقي وصادم؛ لذلك وإن كانت سعاد الحكيم تدعي أن نموذجها العالمي للمرأة المسلمة يستند لفكر إسلامي أصيل، إلا أن السقف الذي تسير تحته هو سقف الحداثة الغربية في معنى الانتصار للمرأة وحقوقها وتخليصها من هيمنة وسيطرة الرجل واستلابها الاقتصادي والجنسي والفكري. هذا من جانب، ومن جانب آخر هذا الطرح يعترض أو يصطدم مع كثير من النصوص الدينية المتأثرة بسلطة المجتمع الذكورية النافذة إبان عصر التدوين ونشوء المدارس الإسلامية المختلفة، والتي أغلبها يرى للمرأة وظيفة واحدة هي الأمومة، والتي تبخس أيضا إمكانيات وجدارة المرأة بالشراكة مع الرجل في كل الميادين.
والإشكالية الحقيقية برأيي -والتي تشكل عائقا حقيقيا في عملية إخراج أو ولادة هذا النموذج العالمي للمرأة المسلمة القائم على مبدأ الشراكة- هي التخلف الاجتماعي والثقافي لهذه المجتمعات المحكومة بالنظام الأبوي التسلطي الذي يُقدِّم الرجل على المرأة، ويعمل على ترسيخ هذا التفوق، ويعيد إنتاج هذه التراتبية بين مسيطر وخاضع، والتي تحكم العلاقة بين الجنسين؛ لذلك في حديثها عن النضال واقتراحها فكرة هندسة جديدة للمسجد تعطيها من المساحة ما للرجل -بالرغم من طرافة هذه الفكرة- للرمزية التي تحملها؛ فبدلا من أن يكون مجرد ملحق هامشي بالمسجد وكأنه إسقاط لحجم دورها ومكانتها الهزيلة بالمجتمع، يكون لها الشق الآخر من المسجد مناصفة معه كمصداق لهذه الشراكة. ومع ذلك، يبقى هذا مجرد تنظير لن يقبله الناس ما لم يكن هناك تغير حقيقي في وعي الناس وفي ثقافتهم أو بالأصح تربيتهم وتنشئتهم الاجتماعية على قبول واحترام حريتها والاعتراف بحقوقها ومساواتها بالرجل. وهذا التغيُّر في وضعية المرأة الاجتماعية والثقافية، كما يقول إبراهيم الحيدري في كتابه "النظام الأبوي" لن يتأتى إلا بشرط أساسي هو تغيُّر وعي المرأة وتغيُّر قابليتها للرفض والمقاومة بالتوازي مع تغيير وعي الرجل وتحرره من قيود أسره وأبوته واستلابه.
"المرأة إنسان، وليست جنسا آخر" بتعبير سيمون دي بوافوار، ومواهبها العقلية لا تقل شأنا عن الرجل، وهي جديرة بشراكته بمختلف الميادين بأن تكون حاضرة وفاعلة ومنتجة. يقول الشاعر العراقي جميل صدقي الزهاوي:
((إنما المرأة والمرء سواء بالجدارة...
علموا المرأة فالمرأة عنوان الحضارة)).
