داود سليمان
لطالما كانت قضية حرية الإنسان إحدى القضايا الكبرى التي أثارت ضجيجاً وجدلاً واسعًا في النقاشات الدائرة حول اللاهوت الإسلامي أو علم الكلام الذي يعنى بالعقائد منذ القرن الأول من الهجرة النبوية الشريفة. وانقسم المسلمون حول ذلك إلى مدارس شتى لا يمكننا فصلها عن سياق المعرفة الزمانية وقتها ولا حتى تأثير السلطة السياسية عليها، حيث إنّ تطور العلم لا يمكن فصله عن المجتمع والبيئة التي تعكس إرهاصاته واستجاباته للتحديات المحدقة به وتفاعل القوى الفاعلة بما يخدم مصلحتها حيث تمثل السلطة السياسية أبرز هذه القوة الفاعلة. وهو ما سنبحثه عبر مناقشة مقالة أحمد محمد سالم المعنونة بـ "قضية الجبر والحرية الإنسانية في علم الكلام (جدل الديني والسياسي)".
يرى أحمد محمد سالم أنّه قبل أن نذهب لعرض آراء المدارس الكلامية فيما يخص الجبر والحرية لابد من الرجوع إلى القرآن الكريم الذي نستطيع أن نجد فيه نصوصًا تستدل بها هذه المدارس في إثبات وجهة نظرها في القرآن مثل عرض للجبر في الآية (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) و كذلك (وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) كما نجد إشارة لامتلاك الإنسان حرية الاختيار وأن الأمر يرجع إليه مثل (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) و(كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) وهناك آيات أيضاً تجمع بين القدرة والمشيئة الإلهية النافذة وبين اختيار الإنسان وحريته مثل (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ).لا شك أنّ هذا التفاوت والاختلاف في التأويلات مرده لعوامل كثيرة منها المعرفة الزمانية المحدودة للمفسرين واختلاف الثقافات وتداخلها خاصة أنّ تلك الفترة شهدت فتوحات واسعة لشعوب لها إرثها الثقافي فضلاً عن تدخل السياسي في استخدام وتوظيف هذه المدارس أينما وجد مصلحته فيها. القرآن هنا يعرض لثلاثة مواقف هي الجبر والحرية والتوفيق بين الجبر والحرية. رغم ذلك لايمكن مقاربة البحث في نشوء هذه المسائل الكلامية بمجرد الرجوع لمصادر استنباطها دون معرفة تأثير العامل السياسي والاجتماعي في ازدهارها وتطورها أو حتى نكوصها واندثارها.
تعني الجبرية أن كل أفعال الإنسان مُسيرة وأنه مجبور لا قدرة له على الفعل والاختيار، وقد تبنى ذلك كثير من الأعلام كالجعد بن درهم وسعيد بن جبير والجهم بن صفوان الذي إليه تنسب الجهمية التي ترى أنّه لا فعل لأحد بالحقيقة إلا الله وحده، وأنّ العبد ليس بقادر البتة، وقد ظهرت الجهمية الجبرية في عهد الدولة الأموية.
استغلت الدولة الأموية هذا الفكر في سبيل استقرار حكمهم وترويض النّاس ومنعهم من الخروج عليهم، فهم مشيْئة الله وعلى الناس أن يرضوا بمن اختارهم ليحكموهم وإن أذاقوهم الظلم والقهر، فهذا معاوية يقول في الناس "أنا عامل من عُمال الله أعطي ما أعطى الله وأمنع ما منع الله" في تبنٍّ واضح لعقيدة الجبر، لكن الغريب في الأمر أنّ الدولة الأموية اتخذت موقفا سلبيا من علماء الجبرية. يعزو أحمد محمد سالم ذلك إلى أن الأمويين كانوا يشككون في إسلام العجم والموالي وتعللوا بذلك وفرضوا عليهم نصف الجزية؛ لذلك لا نستغرب عندما تكون هناك دعوات للخروج على بني أمية كما فعل ذلك سعيد بن جبير، فقتله الحجاج كما قتل الجهم بن صفوان الذي كان يُناصر الحارث بن سريج الذي خرج على الدولة الأموية، ولعل هذا يفسر أن الجبرية كانوا يرون أنّ الخلافة ينبغي أن تكون بالاختيار ولا يشترط بالحاكم أن يكون قرشياً.
ينقسم دعاة الحرية في الفكر الإسلامي كما يذكر أحمد محمد سالم إلى القدرية الذين ظهروا في عهد الدولة الأموية والمعتزلة الأوائل الذين ظهروا في أيام الدولة الأموية وازدهروا لاحقاً في الدولة العباسية. تقول القدرية والمعتزلة بالحرية وأن القدر خيره وشره من العبد. اتخذت القدرية موقفاً سلبياً من الدولة الأموية، لذلك تم قتل أغلب رموزهم كعمر المقصوص ومعبد الجهني وغيلان الدمشقي الذي قطعت يداه ورجلاه ولسانه بأمر هشام بن عبد الملك بعد أن اتهمه بالزندقة والخروج على تعاليم الإسلام مع أنّ عمر بن عبد العزيز كان قد عينه على توزيع الأموال التي أخذها بني أمية ظلمًا فكيف يستقيم أن يُعين ابن عبد العزيز زنديقاً خارجًا عن تعاليم الإسلام ليوزع الأموال التي أخذت ظلماً ويردها للناس عدا أن يكون ذلك عذرا اتخذته السلطة الأموية للفتك بأحد خصومها. يعتبر المعتزلة أشهر الفرق الإسلامية الكلامية التي تنسب أفعال الإنسان إلى نفسه، وقد كانوا بعيدين عن السياسة في عهد الأمويين. يذكر أحمد محمد سالم أن كثرة الموالي والعجم في الدولة العباسية تزامن مع انتشار العقائد الباطنية والملاحدة حيث كانت تُهدد الدولة العباسية آنذاك من دعوات للخروج والتمرد إضافة إلى سلطة الفقهاء التي كانت أيضاً عبئا آخر على الدولة العباسية التي وجدت في المعتزلة خير معين لها، وكان ذلك هو الظهور السياسي الأبرز للمعتزلة الذين رأوا هم أيضاً أنهم بذلك يحمون أنفسهم من الاضطهاد ويجدون من يعينهم على التعبير عن آرائهم بلا خوف. كان عصر المعتزلة الأبرز إبان المأمون الذي قربهم إليه وتبنى معتقداتهم وآراءهم بل حتى استخدم السيف في إجبار الناس على الاعتزال ولعل فتنة خلق القرآن هي أبرز ما يُدلل على ذلك، وهي مفارقة غريبة إذ كيف لمن يدعو للحرية الإنسانية أن يتعاون مع السلطة على جبر مخالفيهم بالقهر والقوة على اعتناق عقيدة المعتزلة مع أن كلا من فهمي جدعان والجابري يرى أنّ المعتزلة كانوا ضحية السلطة السياسية التي استخدمتهم مطية لمصالحها، كما أنّه لم تكن هناك حاضنة شعبية للمعتزلة كما هي لغيرهم كخصومهم الحنابلة مثلاً. لذلك عندما تخلت عنهم السلطة السياسية لم يجدوا بعدها من نصير.
التوفيق بين الجبر والحرية يمثل الآيدولوجيا الأكثر انتشاراً للفرق الإسلامية الكلامية مثل الإباضية والزيدية والشيعة والأشاعرة الذين تبنوا نظرية الكسب حيث تقول "إن الفعل البشري من خلق الله، وإن العبد يكتسب ما يسأل عنه" فهو مكتسب لأقواله وأفعاله دون الأجساد والأعراض. وهم يفرقون بين الأفعال الاضطرارية والأفعال الاختيارية ."فالأولى من الله لا راد لها والثانية يقدم عليها العبد لكنها مسبوقة بمشية الله في حدوثها واختيارها" وهم بهذا التوسط كما يقترح أحمد محمد سالم يعملون على الأخذ بالمروي والموروث كما فعل السلف وبالعقل كما فعل المعتزلة مما أدى إلى تسكين حالة الصراع في الثقافة العربية الإسلامية.
يبدو جلياً أنّ مقاربة ثنائية الحرية والجبرية يمكن أن تكشف عن دلالات ومضامين أخرى عند بحثها ضمن سياقها السياسي الذي نشأت فيه. مع أنّي أنقد أحمد محمد سالم بأنّه لم يعرض الأصول التاريخية للجبرية التي لديها جذور في المنطقة منذ الحضارة البابلية، كما أنّه لم يشر هنا - وإن كان قد فعل على استحياءـ إلى دور الفلسفة الأغريقية التي وسمت مذهب المعتزلة وأثرت في جدلهم الكلامي وانحيازهم إلى الحرية الإنسانية وأنّ الإنسان مسؤول بالكامل عن اختيراته. كما لم تكن هناك إشارة إلى الرؤى الجديدة التي يمكن أن تثري علم الكلام وتضفي عليه حيوية وتفتح آفاقاً ومناطق لم تكن مفكرًا فيها.
