داود سليمان
شهدتْ علاقة الغرب بالشرق على مرِّ التاريخ ضروبا من التنافر والتجاذب والتواصل، ولعلَّ التوتر والصراع هو العنوان الأبرز؛ حيث حاول كلا الطرفين السيطرة والامتداد على حساب جغرافيا وثقافة الآخر، ورغم الملايين من الشرقيين -المسلمين على وجه الخصوص- الذين يعيشيون في المجتمعات الغربية، إلا أنَّ الهُوَّة بين الطرفين وعدم الثقة والاطمئنان للآخر يزداد.. وهذا ما سنناقشه من خلال تلخيصي لمقال محمد القاضي التي تحمل عنوان "الإسلام والغرب بين ثقافة الحرية وتجسيد قم التواصل".
يبدأ محمد القاضي مقاله بالحديث عن أن الإسلام أصبح في الواجهة، خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ودول أوروبا الشرقية، وأنه أصبح الشغل الشاغل في الغرب، وأن أوروبا باتت خائفة من الإسلام، وأنه حتى نفهم هذا الاندفاع الغربي وإصراره على محاولة غزوه الحضاري لباقي بلدان العالم، لابد من الأخذ بعين الاعتبار الشعور بالخوف الذي يسيطر عليه، ويستدل على ذلك بظهور عشرات الكتب بعناوين تستخدم مفردة الخوف، والتي انتقلتْ لتصبح مفردة كثيرة التكرار والتردد في الصحف والمجلات وشاشات التليفزيون.
ويرى القاضي في حديثه عن جذور الصراع بين الشرق والغرب، أنَّ ظهور نجم الإسلام وقيام امبراطورية العرب الواسعة والمزدهرة، أوجد تحديات فرضت على الغرب خيارات أو مواقف مختلفة تجلت في التواصل والتبادل التجاري والتعايش كما حصل بالأندلس وصقلية أو في الحروب الصليبية سابقا وفي الهيمنة الإمبريالية واستعمار أوروبا لبعض الأقطار الإسلامية التي سبقت بعشرات الرحالة والدراسين الذين مهَّدوا بآرائهم واقتراحاتهم لدخول الجيوش لاحقا، فكانت ردة الفعل الأولى من قبل التيار الإسلامي الذي رفض هذا التدخل والاحتلال الأجنبي السافر، فدعا لمقاومته والوقوف في وجهه، ولعلَّ أقصى تعبير عنه في موقف التيار السلفي الذي لا يزال يرى في الغرب الخصم العنيد والقديم وهو مصدر الكفر والإلحاد الذي يحيك الدسائس والمؤامرات ليقضي على الإسلام، كما أنَّ الاستعمار الغربي لبلدان إسلامية وعربية قد أوْجَد نوعًا من التقوقع على الذات؛ حيث يعتبر المسلمون الإسلام هو أساس وأهم مصادر هذه الذات التي يجب أن يحافظ عليها، والذي يعني بالمقابل رفض التأثر بالآخر واعتباره عدوا.
ويرى القاضي أنَّ المكتسبات الحضارية والتقدم الهائل الذي أنجزه الغرب إنما هو نتيجة لتضافر حضارات الشرق معه في العصور القديمة والوسطى وأوائل العصور الحديثة في ميادين وحقول مختلفة. وكما يقول فؤاد زكريا، فإن الحرج الذي يعاني منه كثير من المثقفين العرب ينبغي أن يخف، لأن الحضارة الغربية قامت على عناصر قدمها الشرق للغرب، وأنه لا توجد ثنائية حضارية قاطعة؛ حيث يكون لنا خياران إمَّا أن نتمسك بالتراث أو نساير الحضارة الغربية.
ويذهب القاضي بعيدا، ويقول إنَّ الروابط التي تجمع بين عالمينا هي أقوى بكثير من العوامل التي تفرق بيننا؛ فالمسيحية والإسلام هما ديانتان لهما أصل واحد يشتركان في فكرة التوحيد والبعث والحساب والجنة والنار، كما أنَّ لهما قيما مشتركة رئيسية كالعدل والعطف على الفقير والمستضعفين. رغم أنه يميز بينهما في أن الإسلام يدمج بين الدين والسياسة، والمسيحية ترى أن الدين منفصل عن السياسة، وهذا الاختلاف في الرؤية هو أساس الخلاف بين التوجه السياسي النفعي في الغرب، إضافة إلى أنَّ الغرب يقف بوجه كل ما هو أجنبي تماما كما يحصل في أوساط الأمة الإسلامية. رغم أنه يوجد ملايين المسلمين -موزَّعين في الدول الغربية- يعيشون في هذه المجتمعات، إلا أنَّ الخوف لا يزال مستمرا، وسوء الفهم ما زال حاضرا بقوة، وكان أن أدى تزايد الحضور الإسلامي في الغرب إلى تنامي التيارات اليمينية المتطرفة؛ فهناك من يتنبى مثل برنارد لويس أن أوروبا ستصبح جزءا من المغرب العربي لأنَّ المسلمين سيتحولون إلى أغلبية مع ارتفاع معدل الولادات والزواج المبكر لدى المسلمين، وانخفاضها وتأخر الزواج لدى الأوربيين؛ لذلك ينبغى التنبه لهذا وإيقافه، فضلا عن أنَّ المسلمين ما زالوا متمسكين بهويتهم ولم يذوبوا في هذه المجتمعات، ومن العناصر التي ضاعفت من كراهية الغربي للإسلام والمسلم هو ما تعاني منه المرأة في بعض بلدان الشرق، وقطع يد السارق وتعدد الزوجات واستفراد الرجل بالعصمة وجلد الزاني، كما قدمتها جريدة "لوموند" الفرنسية. فكلمة مسلم تستدعي في ذهن الغرب الجهل والصحراء وحياة البداوة.
وينتقل القاضي بعدها للحديث عن نبي الإسلام في الكتابات الغربية؛ حيث يرى أنَّ الدراسات الإسلامية في العصور الوسطى كانت تتم تحت إشراف الكنيسة، والتي نقلت صورة مشوهة ومغلوطة عن النبي محمد -عليه السلام- لكن هذا شهد انعطافة مهمة في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر الميلادي مع دخول علم الاستشراق مرحلة جديدة لمحاولة فهم الشرق والعقيدة الإسلامية وترجمة أمَّات الكتب الإسلامية، ولا يمكن تجاهل فضل كثير من المستشرقين في البحث وكشف ما هو غامض في التاريخ الإسلامي والسيرة، خاصة وأن وجهة نظرهم هذه كانت موضوعية. وظهرتْ مؤخرا أيضا في منتصف القرن العشرين دراسات معتبرة تمجِّد من محمد النبي كما نجد ذلك في الدراسة التي قدمها المستشرق الإنجليزي "مونتغمري واط".
ويختم القاضي بالتأكيد على أهمية الحوار والتفاعل الإيجابي بين الحضارات والثقافات في سدِّ الفجوات وترميم الصدوع، وأن الإسلام قدم أمثلة كثيرة في الماضي على قدرته على التعايش السلمي مع الآخر من غير المسلمين، وأنه لديه القابلية للتعاون والتفاهم والحوار الذي يُمكن أن يخفف من الاحتقان، خاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وبعد الرسومات المسيئة، وغزو العراق وأفغانستان، ومن ثم تفجيرات لندن ومدريد وباريس وبلجيكا.
سأبدأ من حيث انتهى القاضي في دعوته للحوار بين الحضارات، الذي أرى أنه قائم بين طرفين غير متكافئين: بين طرف متفوق مقتدر ذي نزعة إمبريالية هي جزء من بنية دولته الحديثة، ومن النظام الدولي القائم على معيار القوة، وبين آخر مجروح في ذاته العميقة، يرى أنَّ الغرب بتفوقه العسكري والمعرفي والتقني واعتدائه واستعماره لبلدانه، قد ألجأه للاحتماء بذاته العميقة، كيف يمكن حينئذ لحوار من هذا النوع أن ينجح ويُؤتي أكله قبل أن تكون هناك بوادر حُسن نية كأن يُسهم جديا في حل مشكلة إسرائيل التي زرعها في قلب العالم العربي، وعن دعمه للحكام المستبدين الذين لطالما يؤمِّنون مصالحه ويلبون فروض الطاعة، لكن كيف يمكن أيضا بالمقابل للغرب أن لا يخاف من الإسلام السياسي -كما تظهره أدبيات الحركات الإسلامية- الذي يرى أنه يرفض قيم الحداثة باعتبارها صناعة غربية بحتة، وأن لديه مشروعا إمبراطوريا للسيطرة وفرض رؤيته على العالم؛ لذلك ينبغي عليه أن يبقيه مقطَّع الأوصال ومشتَّت الذهن ليحافظ على مصالحه ويواصل هيمنته.
كل هذا يقترح أنه لا يوجد أفق لتغيير حقيقة الصراع غير المتكافئ القائم الآن، وإن كان مُؤهَّلا للاستمرار. على الغرب أن يغير من سياسته المزدوجة ومن غطرسته ورغبته بالهيمنة وفرض نموذجه ورؤيته كرؤية وحيدة للعالم، كما أنَّ للمسلمين ورشة عمل كبرى لابد من إنجازها في مراجعة وإعادة فهم دينهم كما هو روح العصر.
