سيف الوهيبي
دائمًا ما كانت الحُرِّية ساحة حرب دافع فيها فلاسفة الحق عن الحق الذي سُلب بدعوى القانون والنِّظام على مر العصور. لسنا هنا لرفع الشعارات الزائفة التي تطالب الإنسان بالتَّحرر مثلما يريد فإذا كان هو يريد فالآخرون يريدون أيضًا لذلك له حق وعليه حق؛ فقد ارتبطت الحرية دائمًا وأبدًا بالأخلاق. وتُؤطَّر الحرية دوماً بالقانون أو الواجب الذي ينظم طريق الحرية، وقد أكد ذلك الفيلسوف السويسري الفرنسي الثورة جان جاك روسو بقوله: "حرية الفرد لا تكمن في أنّه يستطيع أن يفعل ما يُريد بل فى أنّه لا يجب عليه أن يفعل ما لا يُريد".
سنُغامر اليوم في مقال الدكتور عز الدين الخطابي والذي عنونه بــ(الأخلاق والحرية بين ضرورة الواجب وعقلانية التواصل الديموقراطي (من كانط إلى هابرماس) المنشور بمجلة التسامح، وسنبدأ من مفهوم الحرية وعلاقتها بالأخلاق لدى فيلسوف كرامة الإنسانية إيمانويل كانط، ومن ثم سننتقل إلى طبيعة العلاقة بين القانون كإلزام والحقوق كحريات، بعدها سنبحر في عالم الفيلسوف الألماني المعاصر يورغن هابرماس الذي فتح أعيننا على آفاق جديدة في ارتباط الحق بالأخلاق وربطه بعقلانية التواصل الديموقراطي بين الذوات داخل الفضاء العمومي والذي سنعرِفه تباعاً في هذا المقال، ثم إلى خطاب الحق وخطاب حقوق الإنسان الذي أسهب فيه هابرماس كثيراً، وسنختصره في سطور محدودة.
وضع كانط الأخلاق محور الارتكاز في مُعظم تأملاته الفكرية والفلسفية، فهي التي تُحدد الواجب فإذا تجرد الإنسان من أخلاقه يصبح حيوانًا؛ فما يُميزنا عن الحيوان هو العقل، والذي هو عبارة عن عملية مُعقدة يشترك فيها كل من العقل والحواس، يقول كانط معلقاً: (الحدوس الحسية بدون مفاهيم تظل عمياء والمفاهيم بدون حدوس حسية تظل جوفاء)، هكذا يبدو العقل لدى كانط بناء على المقولات أو الصور القبلية التي ستكون عديمة الفائدة، ولولا معطيات التجربة الحسية فالعقل هو الذي يضفي المعقولية على العالم وينظمه ويحوله إلى معرفة، فهو جدير إذن بأن يحول أو يصوغ الواجب بمعنى أدق؛ فالواجب يأتي بعد الحق الذي تُمليه عليه الأخلاق حسب توجه كانط الفلسفي والذي شاركه فيه عديد من الفلاسفة أمثال سقراط وجون لوك ووليفري وآخرين. يقول سقراط في هذا الصدد:( العدل هو إعطاء كل ذي حق حقه)، وليصل الإنسان إلى مرحلة صياغة الواجب الذي هو ابن الحق يجب أن يمتلك استقلالية الإرادة التي هي المبدأ الأسمى للأخلاق؛ فمفهوم الإرادة (الإرادة الخيرة) يرتد بنا إلى مبدأ الأفعال الأخلاقية للإنسان العاقل صاحب الإرادة؛ فبإرادته يستطيع خلق كرامته المستقلة.
يعول كانط دائمًا على مبدأ الإنسان الذي تصنعه أخلاقه بالمجمل والتي بطبيعة الحال تُملي عليه حقوقه النابعة من حريته الذاتية، من خلال قانون يعيش به. يقول كانط في كتابه أسس ميتافيزيقيا الأخلاق عن الطبيعة الإنسانية من زاوية الخير والشر ويجيب: (الإنسان خيّر من زاوية عقلانية وشرير من زاوية تجريبية)، وهو نفس ما طرحه في (الدين وحدود العقل) حينما يؤكد على مشكلة التربية فيقول:( إن الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي يجب تربيته)، فالتزام الإنسان بالقانون يجب أن يبدأ من حريته التي تؤطرها حقوقه وحقوقه ستصوغ قانوناً يهتدي به ويسير عليه؛ مما يخلق نظاماً عاماً شاملاً كاملاً، أمَّا التزام القانون على أنه قانون غير مقبول البتة لدى كانط؛ فعلى القانون أن يكون نابعًا عن حق يضمن له حياة كريمة عادلة وآمنة.
أثارت أطروحة هابرماس الجدل في قسم السوسيولوجيا بجامعة ماربورغ بألمانيا عام 1961 والتي عنونها بـ(الفضاء العمومي، حفرية العمومية (publicité) كبعد مكون للمجتمع البورجوازي)، يعرف هابرماس الفضاء العمومي كفضاء لأشخاص خاصين مجتمعين على شكل عموم، هؤلاء الأشخاص يدافعون عن هذا الفضاء العمومي المُنظم من طرف السلطة، وهم في نفس الوقت ضدها، وذلك من أجل نقاش القواعد العامة للتبادل في ميدان تبادل السلع والعمل الاجتماعي (المجال الذي بقي خاصاً وأهميته ذات بعد عام)، وسيط هذا التعارض بين الفضاء العمومي والسلطة هو وسيط أصلي لا سابق تاريخيًا، إنّه الاستخدام العمومي للعقل، ويؤكد فيها هابرماس على أنّ التواصل يجب أن يكون بين فاعلين يُريدون التفاهم حول مسألة معينة بدعوى إصلاحية يريد كل طرف أن يقرنها بخطابه، وترتكز على معايير نذكر منها:
- تساوي كل المتداخلين المحتملين في المناقشة.
- توفرهم على نفس الفرص في التعبير عن مواقفهم.
- الانفتاح على المواقف الأخرى والاستماع لها.
- الإنصات للآخر والاعتراف به، بدون البحث عن القيمة الكونية داخل التَّعبير الذاتي لاختيار ما.
- التفاعل بين أفراد المُجتمع كأشخاص لديهم روابط والتزامات مُتبادلة.
وهي كلها تنازلات مُتبادلة في الخطاب الديمواقراطي، بين الأفراد تنم عن التراضي العقلاني في عملية التواصل على حد وصف هابرماس.
ينطلق هابرماس في صياغته لأنموذج الديمقراطية من ثلاثة مفاهيم أساسية وهي العقلانية، والسلطة، والرأي العام؛ فيجب أن يكون لدى الأخير الحق في صياغة حقوقه على الشكل الذي يرضي الثاني، والحُكم يكون بميزان الأول. وانتقد هابرماس الأنموذج الليبرالي الذي تقوم نظرته على سلطة الدولة المنبثقة من الشعب، وتجعل من الدولة مجرّد أداة لخدمة الشعب أو المصلحة العامة، وتحصرها في جهاز ضيق هو الإدارة العمومية التي تكون في مقابل المجتمع كنسق من العلاقات بين الأفراد، كما انتقد الأنموذج الجمهوري لكونه ينطلق من جعل المُمارسة السياسيّة مُجرد ممارسة تهدف لتخليق العلاقات بين المواطنين داخل الدولة، باعتبارهم مواطنين أحراراً متساوين فيما بينهم، وبالتالي فهذا الأنموذج يختزل التفاهم والتوافق في البُعد الأخلاقي فقط، ويجعله ذا بعد قطري، يرتبط فقط بالهوية الجماعية المشتركة والمُتفق عليها، ويقترح في المُقابل مبدأ المناقشة كأساس للمبدأ الديمقراطي، والذي يعتبره الأداة المثلى لتكوين حقوق الإنسان على الشكل الذي يرضي جميع الأطراف، ليتجاوزوا معاً أزمات العالم المعاصر.
وبين هامبرماس وكانط هنالك الإتزان المطلوب لجعل مثلث الحرية حقيقياً وعصرياً، بل يجب على الإنسان ألا ينطلق بحريته كيف ما يشاء مثلما يُثير بعض الفلاسفة فهنالك حريات الآخرين التي قد تؤطر حريته أحياناً كثيرة. ويجب أن تكون هنالك سلطة ولها قانون ودستور واضح مع مراعاة احترام حقوق من يسري عليه هذا القانون، ويجب أن تعي هذه السلطة أنَّ الجمهور له حق المشاركة في صياغة حقوقه وأن تنطلق هذه الحقوق من مبدأ الأخلاق الإنسانية وألا تحابي حزبًا على آخر أو مذهبًا على آخر بل يجب أن يكون مبدأ الحرية والمساواة مكفولاً للجميع. وهنا قد نقع على مصطلح الانفرادية الذاتية فالقانون قد يحكم بعدم تعديك على الآخر، ولكن يجب ألا يقيدك في تفكيرك أو توجهك، وأعتقد أننا اليوم في حاجة ماسة لعدم التعدي على تفكير الآخرين خاصة في توجه الطرف الآخر، بل يجب أن نهيئ لخلق بيئة خطابية عقلانية تجر النقاش إلى وادي الحب والوئام والسلام.
