الخيار الصعب: تحقيق مبدأ حكم القانون في الدولة الحديثة

عبد الله الجهوري

تسعى النُّظم السياسية الديمقراطية -الناشئة منها على وجه الخصوص- إلى ترسيخ مبدأ حكم القانون، لما له من أهمية في تثبيت دولة المؤسسات، وضرورة العودة إلى دستور مكتوب تحتكم إليه أركان الدولة الرسمية والشعبية ويكون نقطة التقاء لكافة الأطياف السياسية، لاسيما وقت الاختلاف. وللاطلاع أكثر حول هذا المبدأ نستعرض للقارئ الكريم مقال بوشعيب أوعبي (مبدأ حكم القانون في إطار الحقل الدستوري).

في مستهل مقاله يقارب بوشعيب مفهوم (حُكم القانون) ليوضح أنَّ مبدأ حكم القانون من المبادئ القديمة نسبيًا، ولا يحق الغلو بعدِه أحد مبتكرات الحضارة الغربية الصرفة لأنَّ مواصفاته تسمح بظهوره في كل مجتمع تواق للحرية والعدالة الاجتماعية. هذا من حيث المُمارسة غير المنظمة إن صح القول، أما في إطار التنظيم والتنظير، فلمبدأ حكم القانون مرادفات منها مبدأ الحكومة المقيدة، ومبدأ سيادة القانون. ولا يهم كثيرًا تنوع المصطلح بقدر ما للمفهوم من أهمية في جعل القانون فوق الجميع، وهو جوهر مقولة (مبدأ حكم القانون). وهذا المبدأ بحسب بوشعيب "مبدأ مرن نظرًا لكونه ذا بعد ديمقراطي سليم يخدم المصلحة العامة وفقًا لما يوصي به القانون الذي هو ذاته في الأخير نتاج اجتماعي نفعي".

في مبدأ حكم القانون تحدث التحولات الكبرى في العملية السياسية، حيث يتحوَّل الرأي الأوحد إلى آراء مُتعددة، والقطب المُتماهي مع ذاته إلى أقطاب تعمل وفق منظومة شاملة، توفر العدل والحرية وتطبق القانون بشكل متساو على الجميع دون استثناء، ولمصطلح حكم القانون استخدامات خارج إطار الأمة الواحدة، على سبيل المثال، يشيع في أدبيات رجال القانون الدولي العام مشيرا إلى ضرورة احترام ما يصدره مجلس الأمن والمنظمات الدولية من معاهدات وأطر قانونية. ولمبدأ حكم القانون أهمية بالغة في ترسيخ آليات الديموقراطية الحديثة، وفرض مبدأ الشرعية القانونية على الجميع بمن فيهم أقانيم السلطة الثلاثة (التشريعية والتنفيذية والقضائية) ومن في حكمهم.

ويعود بو شعيب مرة أخرى لاستنكار تحقيب مبدأ حكم القانون في عهد الثورة الفرنسية وما بعدها، مستدلاً بوجود إشارات في الحضارات القديمة تؤكد عكس هذا الاتجاه. ويُدلل على ذلك بألواح حمورابي ومحاولات أفلاطون في دولته الفاضلة، ومحاولة النظام الإسلامي لترسيخ هذا المبدأ ولو ضمنيا مدفوعاً بضمانات كنص القرآن والسنة على التحديد الواضح والدقيق للحقوق والواجبات، وكذلك تشجيع الأفراد ليس دنيويا بالحصول على حقوقهم بل دينياً كونهم سيثابون على ذلك، بحسب رأي بوشعيب. لكن الكاتب يرى أن مبدأ آخر غير مبدأ حكم القانون كان يستحوذ على الاهتمام وهو مبدأ حكم الشريعة، بيد أن هناك من سخر حكم الشريعة وأطره بأطر دستورية.

وحديثاً يعرض لنا بوشعيب التجربة الفرنسية لتأسيس المفهوم الحديث لمبدأ (حكم القانون)، حيث سعت الثورة الفرنسية لصقل مفهوم السيادة بعيداً عن "هاجس" الدين، وهو ما اصطلح عليه السيادة الوطنية، حيث نص عليها الدستور الفرنسي 1791، لكن في الدستور التالي 1793 تم إدراج مصطلح "السيادة الشعبية" في إشارة صريحة للتخلص من هيمنة الكنيسة وكل ما يتعلق بإرثها الأبوي. ومهدت الثورة في رأي بوشعيب –على مراحل- لمبدأ (حكم القانون) وذلك بتبني مبادئ سيادة الدولة بدل سيادة الحاكم، وتمثيل الحاكم للدولة لا للفئة التي ينتمي إليها فحسب، كذلك تبنت مبدأ فصل السلطات وإقرار الحُريات العامة وحقوق الإنسان وممارسة الحكم عن طريق مبدأ التمثيل الانتخابي. وبعدها تمّ تبني فكرة فصل السلطات والقول بحاكمية الشعب، وهو الجهة الوحيدة المخولة بمراجعة الدساتير والتعديل فيها. كل هذه التمهيدات – في نظر بوشعيب- قادت إلى مبدأ سُّمو القانون، وألا حق لأيّ أحد بتجاوز القانون أو القفز عليه. ثم بعد ذلك جاء دور الفلاسفة بقيادة الألماني فيخته، الذي أسس لفكر حر يتبنى مبدأ حكم القانون، وقد كان له دور ريادي بتأصيله لمفهوم حكم القانون في الفلسفة السياسية الأوروبية الحديثة، وهو صاحب الفضل الأكبر في نقل هذا المفهوم من القارية والإقليمية إلى العالمية.

لكن السؤال الأهم: كيف ترسخ مبدأ حكم القانون؟ لم يكن هذا المبدأ مادة كتبت بل كان جوهرا أو ما يسمى بالقيمة المضافة النوعية التي أتت بها الدساتير الحديثة حيث أصبح لهذا المبدأ وجاهة ومصداقية أثبتها انعكاساته الإيجابية على المواطنين والمصلحة العامة. وهنا أصبح في كل قانون مبدأ أساسي هو احترام القواعد والإجراءات والنظم، مما حدا بالفقهاء الدستوريين لاستخدام مبدأ حكم الدستور كمادة في أغلب الدساتير الحديثة. ويرى بوشعيب أن الديمقراطية تعني منظومة قواعد قانونية وسياسية تسودها قيم المساواة والعدل وحقوق الإنسان، والكافل لكل هذه الحقوق هو مبدأ حكم القانون. ويضيف الكاتب: "إن العمل بمبدأ (حكم القانون) هو التزام بإحدى موجبات الديمقراطية ولن تستقيم هذه الأخيرة ما لم يسبقها التزام المسؤولين بالمبدأ أعلاه، شكلاً باحترام سمو القانون على الجميع وجوهراً أيضاً بأن يكفل ذاك القانون مسألة الحريات العامة وحقوق الإنسان، وهذا في حد ذاته إحدى الواجهات التي تناضل من أجلها الديمقراطية. ولهذا يمكن اعتبار مبدأ حكم القانون أحد أهم أركان إحقاق الديمقراطية".

لكن القول بالحرية يبقى حلما ورديا ما لم تتوافر الضمانات بهذا الصدد، وقد سعى المشرعون لإيجاد بيئة توفر هذه الضمانات لتحقيق مبدأ حكم القانون منها على سبيل المثال: مبدأ فصل السلطات الذي من شأنه توزيع الصلاحيات بما يضمن عدم استئثار إحدى السلطات بصلاحيات قد تؤثر على الحريات فيما بعد. ومن هذه الضمانات أيضاً، مبدأ دستورية القوانين، حيث يسود سمو الدستور على كل ما يتعارض معها، وبالتالي تصبح نافذة لا سلطة عليها. ومن هذه الضمانات مبدأ رقابة دستورية القوانين، الذي يضمن آليات تطبيق هذا الدستور عن طريق إنشاء مؤسسة دستورية مهمتها تتبع مدى احترام كل من البرلمان والحكومة لموجبات الدستور نصًا وروحًا. وقد أكد إعلان دلهي الصادر عن المؤتمر الدولي لرجال القانون عام 1959م، على (أنَّ الدولة القانونية هي دولة تؤكد المساواة بين المواطنين في التزامهم بقانون ينظم العلاقات الاجتماعية ويحمي القيم والمبادئ الأساسية ويعهد إلى محكمة عليا أو محكمة دستورية متخصصة بالرقابة على تحقيق هذا الهدف). كما يمكن ضمان مبدأ حكم القانون عن طريق تقديم انتخابات حُرة ونزيهة، وتعزيز القضاء الإداري، وضمان حقوق الأقليات، وضمان حقوق المواطنين بالمشاركة السياسية.

لكن كل هذه الضمانات لا أراها كافية ما لم تبتكر النظم الديمقراطية المتطورة وسائل تشكل ضماناً حقيقيًا، لا سيما في الدول الناشئة، حيث يمكن الآن متابعة ما يحدث في شتى أنحاء العالم من تعطيل للدساتير أو استغلالها بطريقة غير حرة مما يُسهم في إشاعة الفوضى في دول جعلت الديمقراطية شعارا لها.

أخبار ذات صلة