النزعة الإنسانية في الفكر العربي والإسلامي

أيمن البيماني

تكتسبُ دراسة النزعة الإنسانية في الفكر العربي والإسلامي أهمية بالغة بسبب محدودية ما تم كتابته عنها، ويؤكِّد الدكتور محمد أركون أنَّ هذا النقص لا يقتصر على كتب التراث والفكر العربي والإسلامي، وإنما يتعدَّاه إلى الكتب العلمية والاستشراقية. وهذا ما سنناقشه في مقال زكي الميلاد المعنون "الفكر الإسلامي والنزعة الإنسانية"، والمنشور في مجلة "التسامح".

حريٌّ بنا ابتداءً الإشارة إلى ثلاث محاولات حاسمة تناولت هذه القضية؛ هي:

أولاً: رد الدكتور علي شريعتي بكتاب "الإنسان في الإسلام" على موقف الحضارة الغربية التي ترى أنها ميَّزت الإنسان بطريقة مغايرة عن جميع الأديان والحضارات السابقة التي استحقرته وجعلته قربانا للآلهة، وعاجزا عن التعبير أمام الله، مسلوب الإرادة، محطم الشخصية. ويرد شريعتي بأنه لا يجوز اعتبار ما جاء في الديانات السابقة من ظلم للإنسان وتعميمه على الإٍسلام، وأكد أن الإسلام منطلق من كون الإنسان أساساً لحركته، وأن الإيمان بالإسلام لا يعني القبول بسلبية الإنسان وعدم جدواه كبعض الديانات السابقة.

ثانياً: مقال الدكتور هشام جعيط حول "النزعة الإنسانية والعقلانية في الإسلام"، ويذهب جعيط إلى تطابقه مع الرؤية الأوروبية والتطور التاريخي للنزعة الإنسانية في الفكر الأوروبي الحديث، ولكنه يُؤمن في الوقت ذاته بوجود النزعة الإنسانية في دول العالم الثالث والإسلام. كما يُؤمن أيضاً بمكانة الإنسان في القرآن المنزَّل من الله -عزَّ وجل- فالإنسان له مكانة مركزية من القرآن، وهو الذي اختاره الله في أرضه، وبذلك فالخطأ كل الخطأ للمستشرق الفرنسي فان غروبناوم الذي اعتبر أن الإسلام ومنذ بدايته أظهر قليلا من الاعتبار للإنسان !

ثالثاً: صاحب المحاولات الأعمق والأقوى والأسبق في التركيز على النزعة الإنسانية في الفكر العربي والإسلامي الدكتور محمد أركون. كتب كتابين؛ الأول كرسالة دكتوراه بعنوان "نزعة الأنسنة في الفكر العربي.. جيل مسكويه والتوحيدي"، ثم صدر له بعد ذلك كتاب آخر بعنوان "معارك من أجل الأنسنة في السياقات الإسلامية". في هذين الكتابين تتضح ملامح التغيير في نظرة أركون للنزعة الإنسانية كالتالي:

1- في الكتاب الأول كانت عقلية أركون محكومة باستكشاف فترة ظهور النزعة الإنسانية والتبجيل فيها، وفي الكتاب الثاني كانت أفكاره مدافعة عن الإنسانية في السياقات الإسلامية.

2- في الكتاب الأول كان اهتمام أركون بالتعريف بالأنسنة، وفي الكتاب الثاني انشغل بقياس أين وصلت فكرة الأنسنة!

3- في الكتاب الأول كان أركون باحثا في التاريخ ومناظرات الفلاسفة، وفي الكتاب الثاني أصبح مهتماً بالحاضر والسياقات الإسلامية المعاصرة.

4- في الكتاب الأول كان أركون محكوماً بالبحث الأكاديمي كون الكتاب رسالة دكتوراه في جامعة عريقة وهي جامعة السوربون، وفي الكتاب الثاني تحرر من القيود الأكاديمية فقد أصبح أستاذاً ذا مكانة مرموقة بدلاً من كونه طالب دكتوراه.

5- في الكتاب الأول برهن أركون على وجود نزعة إنسانية إسلامية مشابهة لتلك النزعة في الفكر الأوروبي، وفي الكتاب الثاني لفت النظر إلى وجود عدة أنواع من النزعات الإنسانية.

ولذلك؛ جوهر أطروحة أركون يقوم على أمرين مهمين؛ هما:

* الأمر الأول: برهنته على وجود نزعة إنسانية عربية إسلامية خلال القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي بعد تشبع المسلمين بالفكر الإغريقي وفلسفته القديمة.

* الأمر الثاني: تحليل كيف اندثرت تلك النزعة بعد مجيء السلاجقة في القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي، ومهمة المفكر في توضيح أسباب ذلك الضمور عند المسلمين وتنامي النزعات الإنسانية في الفكر الأوروبي منذ عصر النهضة الحديث.

أراد أركون أن يقدِّم نفسه مفكراً ذا شأن خاص بقضية النزعة الإنسانية، وهو ما دفعه إلى ابتكار مصطلحه الخاص في هذه القضية وهو مصطلح "الأنسنة"؛ وذلك لإحياء عهد الفكر العربي والإسلامي المرتبط بقضية النزعة الإنسانية وفتح باب المناقشة حول هذا الموضوع.

والحقيقة أننا لسنا هنا أمام مشكلة لفظ أو مصطلح جديد يجب ابتكاره، وإنما أمام تحد لتوليد النزعة الإنسانية داخل منظومتنا الفكرية وممارستها اجتماعيًّا. كما أن أركون ربط دائماً بين النزعة الإنسانية والفلسفة العقلانية، وهو ما فسره بازدهار النزعة الإنسانية في الفكر العربي والإسلامي خلال القرن الرابع الهجري بسبب التشبع من الفلسفة الإغريقية، واضمحلال هذه النزعة بعد القرن الخامس الهجري بسبب تراجع الفسلفة من الفكر الإسلامي وموت التراث العقلي.

ورغم أنَّ أركون هو أعمق من قدَّم كتباً ونصوصاً في قضية النزعة الإنسانية، وكان أكثرهم نضالاً؛ إلا أنه واجه بعض النقد كالتالي:

أ- نزعة أركون كانت محكومة بالنزعة الغربية للأنسنة والتي قامت بسبب هجوم الناس على اللاهوت وإسقاطه وإحلال الإنسان بدلاً منه ليمارس كافة حقوقه وحريته، ولذلك النزعة الإنسانية في السياق الغربي مختلفة تماماً عن ظروف النزعة في الفكر الإسلامي بدايات القرن الرابع الهجري.

ب- النزعة عند الأوروبيين جاءت ردة فعل عنيفة للغاية ضد اللاهوت والدين؛ وذلك بإحلال الناس مكان اللاهوت، وهو ما قام على أساسه عصر النهضة منذ القرن السادس عشر الميلادي بفصل الدين نهائياً والعداء المستميت ضد الكنيسة، فأصبح العقل مكان الدين، وصرخ نيتشه صرخته المدوية في القرن التاسع عشر "لقد مات الإله". لذلك؛ يجب التعامل مع نزعة الأوروبيين بشيء من الحذر بسبب العداء بينها وبين الدين، وينبغي التعاطي بطريقة نقدية لتصفيتها من عداوتها للدين.

ج- يحاول أركون إثبات أنه ضد الإيدولوجيا وأنه يقف في صف الموقف المعرفي، ولكن تبجيل أركون للعلمنة يجعلها بمثابة العقيدة للأنسنة، فلا يمكن الوصول للأنسنة بدون العلمنة وهذه هي الأيدولوجيا بحذافيرها!

د- قال الدكتور محمد إقبال في كتابه "تجديد التفكير الديني في الإسلام" إنَّ الفلسفة اليونانية القديمة أغشت عيون فلاسفة المسلمين، وحجبت عنهم روح القرآن والاستلهام من معارفه الصافية، وهذا ما وقع فيه أركون أيضاً بترك القرآن والتمسك بالمعنى الغربي باستماتة، ومحاولة إسقاطه على الفكر العربي والإسلامي. هذا النهج جعل أركون يسلك طريقاً لم يسلكه الآخرون الذين استلهموا من القرآن ومعارفه كالدكتور علي شريعتي والدكتور هشام جعيط، فالقرآن فيه نزعة إنسانية واضحة؛ فهناك سورة كاملة باسم "الإنسان"، كما بدأ بكلمة "اقرأ" تشجيعاً لطلب العلم، واختتم بكلمة "الناس" في سورة الناس.

هـ- أعطى أركون إيحاءات في كتاباته أنها الوحيدة التي تستحق القراءة، وليس هناك من يستحق القراءة له في هذا المجال، ناهيك عن أن كتاباته حفلت بأسماء المفكرين والمستشرقين الغرب، وخلت من مفكري العالم العربي والإسلامي إلا عندما يذكرهم في موضع النقد والتقليل من جهدهم.

والخلاصة هنا أنَّ المجال مفتوح لنا وواسع ورحب للبحث والاطلاع والكتابة عن النزعة الإنسانية في المنظور العربي والإسلامي.

أخبار ذات صلة