الفتنة عند المسلمين: مفهومها وتاريخها وأحكامها

أيمن البيماني

تعدّد ذكر مفهوم الفتنة في النص القرآني، ففي مواضع جاء بمعنى الشقاق والخلاف، وأخرى بمعنى الاختبار الربّاني للخلق. وهذا ما سيؤول إليه نقاشنا اليوم مع مقال رضوان السيّد حول (الفتنة وأخواتها في النص والوعي والتاريخ).

{وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: 35]، هنا ذكر صريح من القرآن لمفهوم الفتنة بمعنى الامتحان والاختبار للنَّاس، كما تعرّض الكثير من السلف والعلماء للامتحان في عقائدهم وخاصّة في ثباتهم عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتبليغ رسالة ربّهم. ثم يقول عزّ وجلّ في موضع آخر: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 191]، في لمحة وإشارة إلى المعنى الآخر وهو الشقاق والخلاف والانقسام والحرب بين النَّاس والجماعات، وتاريخيّاً لعلّ أبرز فتنة حدثت هي الخلاف بين أصحاب الرسول (ص) الذين تجمعهم رابطة التوحيد والذي أفضى إلى مقتل ثالث ورابع الخلفاء الراشدين عثمان بن عفّان وعلي بن أبي طالب.

يقول العديد من الباحثين المُحدَثين إنَّ أصل هذه التجربة عند أصحاب رسول الله (ص) وقعت في أصل نشأة علم الكلام أو علم أصول الدين، فاختلف النَّاس والجماعات في الحكم على المسلمين المشاركين في فتنة قتل عثمان بن عفّان، حيث يرفض البعض الحكم عليهم تاركين أمرهم لله، وآخرون يبرّؤونهم، وغيرهم يخطّؤون فعلتهم هذه. وأمّا من حيث نشأة علم الكلام فتعدّى مفهوم الفتنة إلى مفهوم (الهرج)، وهنا لا يكتفى بالحديث عن الشقاق والفُرقة بل يتعدّاه إلى الانعدام للسلطة الضابطة والحامية للرعيّة. وقد ورد في المدينة بعد مقتل عثمان أنَّ الرعب الحاصل بسقوط السُلطة وانعدامها أدّى ببعض الميليشيات (بلغة عصرنا) إلى منع إخراج جثمان عثمان ودفنه ليوم وليلة كما أشار الطبري في كتابه (تاريخ الأمم والمُلوك). وتعقيباً على قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]؛ فيقول حذيفة بن اليمان إنَّ مقتل عثمان أسقط الباب الحاجز للفتنة ومزّق حبل الله بين المُسلمين. ونستنتج أنَّ تسمية أهل الشام لبيعة معاوية بن أبي سفيان عام 40هـ بعام الجماعة ليس إلّا خوفاً من الفتنة والفُرقة والانقسام، والتي ما لبثت أن تجدّدت مرّة أخرى بعد مقتل علي بن أبي طالب. ولنا هنا وقفة مع سلوك وقول حذيفة بن اليمان، فيبدو أنَّ انعدام السلطة عنده يضاهي سقوط وزوال الأمّة، وقد ورد عنه اهتمامه الكبير بالقضايا المتعلّقة بالفتنة ورعبه من الحروب الأهليّة، حيث إنَّ ربع أحاديث الفتنة مرويّة عنه!

أمّا في المبحث الثاني بعد تاريخ الفتنة؛ فلنا وقفة مع السلوك المصاحب للفتنة. فيُروى عن الإمام علي قوله: "كن في الفتنة كابن اللّبون، لا ضرعٌ فيُحلَب، ولا ظهرٌ فيُركبْ"، أي اسلك السلوك البريء وابتعد عن الشُبهات، ذلك لأنَّ الفتنة إذا أقبلت شبّهت وزيّنت وهي شديدة الإغراء، وإذا أدبرت تبيّنت، وهذا سبب الفتنة التي وقع فيها أصحاب الرسول (ص) بسبب اعتقاد كلّ جماعة أنّها على حقّ، ولذلك فإنَّ أغلب ما نقله حذيفة بن اليمان وأبو هريرة وأبو موسى الأشعري أنَّ حبس النفس في البيت هو السلوك الأمثل وقت حدوث الفتنة، بدلاً من الخوض فيها وسفك دماء المُسلمين الموحّدين.

وقد دخل الصحابة في نقاش عميق في ماذا لو اتّهم الفرد بالعجز والجُبن هاهنا؟ فيقول حذيفة بن اليمان إنَّكَ لو خيّرت بين العجز والفجور فاختر العجز. ويذكر لعلقمة بن الأسود أنّه يرى إذا ظهر أهل الحق على أهل الباطل فليس فيه فتنة، فيردّ عليه الصحابي الجليل أبو بكرة أنّه إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النَّار كما يقول شيخه ابن مسعود: كن عبد الله المقتول ولا تكن القاتل. ولا يلبث علقمة أن يجادل فيسأل هل نترك الباطل يُسيطر؟ فيذكّره أبو بكرة بحديث عبد الله بن عمر بن الخطّاب أنّه عليهم بالألفة، فإذا اختلف الناس فالقاتل والمقتول بمنزلة ابنيّ آدم، وهنا تأكيد منه على ألا داعي يذكر لممارسة العنف والقتل في الحرب الداخليّة، ولو كان المرء يعتقد أنّه يدافع عن الحقّ فليس دفاعه عن مبدئه بسفك دماء الخلق!.

ومّما لا شكّ فيه أنَّ الفتن الأربع الكبرى التي حدثت بين القرن الأول وبداية الثاني الهجري كان لها الدور الكبير في توجيه الفكر والسلوك عند المسلمين، فالفتنة الأولى بدأت بمقتل عثمان، ثم مقتل علي وحرب صفّين، والاختلاف على الحسن بن علي، والفظاعة في هذه الفتنة تمثّلت في قتل أربعة من أقرب الأصحاب للرسول (ص) وهم: عثمان وعلي وطلحة والزبير. الفتنة الثانية (72-61 هـ) بدأت بمقتل الإمام الحسين، ثم مقتل عبد الله بن الزبير على يد الحجّاج، والنزاعات بين المسلمين وغزو الأمويّة للمدينة، وتمثّلت فظاعتها في مقتل الإمام الحسين وانقسام السلطة التي حذّرنا من سوئها في بداية حديثنا. أمّا الفتنة الثالثة فسمّيت بثورة ابن الأشعث (82-84 هـ) والتي بدأت بالكوفة ضدّ الحجّاج بن يوسف فتطوّرت لتصبح ضدّ الأمويّين كافّة، وكانت فظاعتها في إمكانيّة انفصال العراق عن الشام. الفتنة الرابعة انطلقت شرارتها عام (125 هـ) بمقتل الوليد بن يزيد، ثم سقوط الأمويّين وقيام العبّاسيّين، والتي أدّت إلى سفك دماء المسلمين بغير وجه حق!.

ولا ينبغي أن تمرّ جميع هذه الفتن العظمى دون أخذ العبرة منها، فأبرزها حرمة سفك الدماء وحمل السيف ضدّ المسلم، كما أنَّ الخلاف مع الحاكم بطبيعة الحال ليس أمراً دينيّاً بل هو شأن سياسي بحت، وليست هناك حرمة بالمعارضة السلميّة بشرط ألا تصل لحمل السيف، ومقرونة أيضاً بعدم إعانة السلطة على الظلم والعدوان على المتمرّدين ضدّها، فلا إفراط ولا تفريط. وعندما لم يعد مبدأ سفك الدماء قادراً على احتواء الخلافات؛ لجأ فقهاء أصحاب الحديث في القرن الثاني الهجري لأمرين، أوّلهما فتح وإجازة باب المعارضة السلميّة، وثانيهما إتاحة المجال للذين قاموا بالعنف بالعودة لحياتهم. وفي أسوأ الأحوال؛ فإن اقتتلت طائفتان من المسلمين وأصرّوا على متابعة القتال فيحقّ للسلطة التدخّل بالإصلاح والعدالة والإنصاف وليس منتهاها القتل والسجن، بحيث لا يتعرّض السلطان للمعارضين إن تجمهروا دون سلاح، وإنّما إرسال من يستمع لهم ويناقشهم. ولكن إن تعذّرت السُبل وحملت المعارضة السلاح فاختلف الفقهاء، حيث قال الشافعي بألا يبدأ الحاكم حتّى يبدأوه، بينما يرى أبو حنيفة أنَّ للسلطان الحقّ في الهجوم عليهم درأًّ ووأداً للفتنة والانقسام الذي مآله تفتّت الأمّة وانهيارها. ولنا وقفة مع الخوارج الذين خرجوا على الإمام علي من الكوفة وانفصلوا عن جيشه، فذهب الإمام بنفسه وجادلهم وناقشهم ولم يقاتلهم أو يبدأهم إلّاعندما بدأوه بقتل عبد الله بن خبّاب صاحب النبي (ص).

ختاماً؛ لا ريب أنَّ النزاعات الداخليّة بين المُسلمين إبّان القرنين الأول والثاني من الهجرة أفضت لنتائج عديدة أبرزها ظهور أدبيّات مختلفة المشارب والتوجّهات لوصف الفتنة ومفهومها والحديث عنها والتحذير منها، والأثر الآخر هو ظهور مبدأ (الاعتزال في الفتنة) بواسطة العلماء والفقهاء، والذي أصبح بعد ذلك جزءًا من عقيدة أهل السنّة والجماعة. وكذلك فقد أصبح التفكير في شرعنة المعارضة السياسيّة السلميّة دون الوصول لسفك الدماء والانقسام المدمّر من أبرز نتائج تجارب الفتنة عند المسلمين، فليس الحلّ محصوراً دائماّ بين الثوران المسلّح أو الطاعة المطلقة !!!.

أخبار ذات صلة