عبد الله الجهوري
تطالعنا نظريات التأريخ بتقلبات النظرة العامة للإنسانية واستيعاب مقولة الإنسان الوجودية واللغوية، ليس عند العرب فحسب بل حتى عند الأقوام الأخرى، وهذا ما يؤيده رضوان السيد في مقاله (الإنسان وحقوقه لدى المسلمين والغرب والمسؤوليات المشتركة). حيث يستهل بإيراد رأي الراحل جورج مقدسي حول تبادل الأدوار بين المسلمين والغرب في مجال حقوق الإنسان. إذ إنّ العالم الإسلامي بدأ إنسانياً قبل أن يتحول إلى عالم يعتمد النقل (اسكولائي)، بينما الغرب انطلق من النقل ليصبح إنسانيًا.
وقد مارس العالم الإسلامي مقولة الإنسان لغوياً ووجودياً في فترات مبكرة من عمر الحضارة، قبل أن يتأثر بمؤثرات عدة منها سياسية واجتماعية. ويرى رضوان السيد أنّ الفقهاء هم الذين حملوا هذا اللواء وقادوا الأنموذج الإسلامي إلى النضج، فالجويني الذي عاش في القرن الخامس الهجري يرى (أنّ الشريعة إنما أنزلت من أجل خمس مصالح ضرورية لبني البشر هي: النفس والعقل والدين والنسل والملك). وكذلك طور هذه النظرة، بحسب السيد، الإمام الغزالي في القرن السادس الهجري، وفي القرن السابع الهجري كذلك أورد ما يشابه هذه الآراء العز بن عبد السلام، إلى أن وصلت نضجها عند الإمام الشاطبي، في القرن الثامن الهجري، في كتابه الموافقات في أصول الشريعة. ويرى الكاتب أن هذه المنظومة استمرت وإن بشكل أقل حيث ظهر ذلك جلياً في كتابات رفاعة رافع الطهطاوي الذي مزج الإرث الإسلامي العريق بمبادئ الثورة الفرنسية آنذاك وقد نقل عنه السيد قوله (إنّ شرائع الإسلام عنيت بصون النفس والعرض والمال)، وإنّ الممالك أسست (لحفظ حقوق الرعايا بالتسوية في الأحكام والحرية وصيانة النفس والمال والعرض على موجب أحكامٍ شرعية، وأُصولٍ مضبوطةٍ مرعية).
المتتبع لاستدلالات واقتباسات رضوان السيد يدرك أنّه انطلق من مسلمة (إنسانوية المجتمع الغربي)، لذلك فليس هناك حاجة لإثباتها، بيد أنّ الحاجة ملحة لإثباتها لدى المسلمين. ولعل تتبعه لها على مر العصور جاء مبينًا أنّ النزعة الإنسانية لم تكن عرضًا طارئاً بل هي جذر أساس في المكون الحضاري الإسلامي. إذاً ما المشكل في نظر رضوان السيد؟ لقد أحس الكاتب أن النزعة الإنسانية موجودة على مر العصور في نقاشات المسلمين والفقهاء منهم على وجه الخصوص، لكن عوامل ومؤثرات أسهمت في مواربتها، أو جعلتها تشيخ. وهنا بدأ في سرد أحداث متوالية تؤكد هذه النظرة فيقول: (لكنْ عندما أُقرّ ميثاق الأمم المتحدة عام (1945م)، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام (1948م)؛ كانت الأجواء الثقافية والنفسية والسياسية قد تغيرت كثيراً لدى المسلمين وفي العالَم. في العالمين العربي والإسلامي اشتعلت الحربُ العالميةُ الأولى (1914-1918م)، والتي كانت عبارةً عن صراعٍ بين القوى الأوروبية على مناطق النفوذ، وشملت العالَم كلَّه. وكانت نتائجها في الشرق العربي والإسلامي كارثية). ومن هذه النتائج الكارثية التي ذكرها الكاتب، إلغاء الخلافة الإسلامية، وظهور دول وطنية لم تكن تتحمس للأفكار الدينية. وهنا يعلق رضوان السيد على الأمر مبيناً أن تنكر المثقف العربي لجذوره لم يكن بدافع ذاتي بقدر ما كان تأقلماً مع المتغيرات الجديدة التي مست العالم الإسلامي، فظهر مصطفى تقي زاده في إيران وأتتورك في تركيا، وعلي عبد الرزاق في مصر. هذه الأحداث أدت إلى أمرين: الأول تنكر المثقف العربي لذاته، والثاني نشوء صراع عالمي (الحرب الباردة) لا يعترف بالضعيف. وعليه تمت صياغة ميثاق الأمم المتحدة في ظل غياب شبه تام للتمثيل الإسلامي والعربي، ومن ثم حتى هذا الميثاق لم يكن وفق الطموحات وبقي مهزوزا يتأثر بقواعد التقديم والتأخير في اللعبة السياسية العالمية. وللتأكيد على نظرته يورد السيد حدثين، الأول: (في العام (1947م) حيث أقرت الأمم المتحدة انفصال باكستان عن الهند، وعلّقت مسألة كشمير، ووقفت عاجزةً تُجاه التهجير والقتل بالملايين بين الطرفين). والثاني: (في العام (1948م) وقت أقرت الأمم المتحدة تقسيم فلسطين بين العرب واليهود، وعجزت عن إنفاذ القرار الجائر هذا بحيث سيطر الإسرائيليون على ضعف المساحات التي أعطاهم إياها القرار الدولي، الجائر أصلا، الذي وقف معه السوفيات والأمريكيون).
هذه الأحداث عوضاً عن دفعها المثقف في العالم الإسلامي إلى مقاومة هذا الظلم، أسست لنمط يرى عدم وجود قيم إنسانية مشتركة. لكن الكاتب يبدو أن لديه وجهة نظر أخرى، تتعلق بنظرتنا إلى القيم العالمية وحقوق الإنسان "(ورمْزُها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان) باعتبارها قيم الآخَر المسيحي أو الغربي. وهي في أحسن الحالات (نسْبية)، وخاضعة لإعادة النظر في كل مرةٍ استناداً إلى سلوك المؤسسات الدولية، وسلوك القوى الكبرى الغربية، تجاه قضايا العرب والمسلمين". إنّ هذه المشكلة مزمنة ولا حل لها في نظر الكاتب إلا بتحسين المزاج العام والارتقاء بالشعور النفسي ليصل مرحلة الندية والقدرة على الإسهام في صنع القرار العالمي، أو على الأقل الإسهام "في صنع قيم العالم المعاصر الثقافية، وسياساته". وقبل أن يختم مقاله، يظهر رضوان السيد متفائلاً كالعادة، ليُبشر القارئ الكريم: "هناك تقدمٌ لجهة الاحتكام إلى القيم العالمية في التعامُل مع العالم". كما أنّ العالم الإسلامي أيضًا فيه محاولات جادة للعودة إلى الموروث الحضاري وتحمل المسؤوليات الجسام الملقاة على عاتق أحفاد حضارة كانت إنسانية في مراحل الجذور والشباب قبل أن تشيخ قيمهم بفعل عوامل تظافرت، فقدمت مسخًا حضارياً بلا هوية يغزو المطاعم ومحطات القطارات والطائرات، يستمتع بمناظر الدم وتسكنه الرغبة في رؤية الأشلاء والدماء. لقد بقي شيء واحد في نظر رضوان السيد، هو أن ندرك تمامًا أنّ هناك دائماً مشتركاً إنسانيًا دعانا إليه الشاطبي حين قال (مراعاة في كل أمة).
حقوق الإنسان إذن ليست حكرا على الغرب، كما أنها ليست دعوة محضة لاستغلال الثقافات والأمم المهمشة لحساب الهيمنة العالمية، لكنها أيضاً، لن تمنح للضعيف الذي لم يسهم فيها، ولم يلعب دوره الحضاري. والإرادة وحدها لن تفي بالغرض، إن لم يصاحبها الوعي التام بأهمية الآخر المختلف وحقه في العيش. وأن هناك دوما مشتركا بين كل الملل يمكن الانطلاق منه، شريطة أن يكون الموقف موقف قوة لا ضعف. وخلاصة الحديث أن الغرب والعالم الإسلامي يتحملان معا مسؤولية عدم إيمان الأفراد بوجود حقوق إنسان على الواقع، وذلك بتبني الغرب لبعض الممارسات التي تضيق على الجاليات الإسلامية هناك في الغرب، وتضييع حقوق المغلوبين في بلاد العالم الإسلامي، وكذلك بسبب عدم تبني العرب أنفسهم لموروثهم الحضاري الذي يحمل في طياته القدرة على تقبل الآخر ومراعاة جوانب الاتفاق.
