جزيرة النساء ورحلتي لاستكشاف غموضها

إيناس ناصر

لم أكن أتوقع يوماً أن أجد نفسي في جزيرة غامضة بأحداثها وغرابة من فيها كجزيرة النساء، التي ربما لم يسمع عنها الكثير منِّا، فرحلتي إليها أغرقتني في الخيال وكأنني أمام مشاهد فيلم من أفلام هوليود العجيبة، وأجزم أنّ غرابة هذه الجزيرة بأساطيرها ستكون فيلما ناجحًا لعشاق صانعي السينما.

ثمة تساؤلات لمعرفة الكثير عن هذه الجزيرة وماهي قصتها؟ وأين تقع؟ وكيف استمرت الحياة فيها بوجود النساء فقط؟ وقراءتي لمقالة حاتم الطحاوي المعنونة بجزيرة النساء بين الجغرافيا والأسطورة والأنثروبولوجيا تشي بفضل كبير في مغامرتي إلى هذه الجزيرة، التي تعد ضرباً من القصص والحكايات الأسطورية التي خلفتها عقليات ذكورية بحتة، واتسمت بأحداث غريبة يغرقها الخيال وهو ما ضاعف متعة التشويق لمتلقي هذه القصص.

 لقد ذكر الطحاوي أنّ أسطورة جزيرة النساء تكررت في التراث اليوناني والعربي والصيني من خلال ما نقله المؤرخون والجغرافيون وخصوصاً في العصر القديم والوسيط منذ بدايات الاتصال الثقافي والتجاري أو من خلال الحروب.

ومن الملاحظ أن العقليات الذكورية التي صنعت هذه الأساطير تبالغ في قيمة الرجل وعقله وتساهم في إقصاء النساء وعزلهن في جزر بعيدة ومظلمة وتختزل أدوارهن إلى مجرد أدوات لإرضاء رغبات الذكور الأعلى شأناً وقيمة.

وحكاية الشيخ الأندلسي التي أشار إليها بزرك بن شهريار تقول: إنّ الأندلسي تزوج من إحدى نساء جزيرة النساء، وذكر أن زوجته حكت له فيما بعد حقيقة هذه الجزيرة وقالت له: إنها جزيرة تقع في المحيط الهندي تحت نجم سهيل لا يصل إليهن أحد لأنّه لن يعود سالمًا، وإنهن لا يغادرن الجزيرة خوفًا من الغرق في المحيط، وأن نساء هذه الجزيرة كن يعشن في الأصل مع الرجال في جزيرتهم فلما زاد عددهن عن عدد الرجال قام الرجال بطردهن من الجزيرة، وهنا يذكر الكاتب الطحاوي أن  قرار عزلهن إلى هذه الجزيرة هو قرار قسري، ويمثل نظرة شرقية دونية للمرأة باعتبارها سلعة فائضة يمكن طرحها جانباً في أيّ مكان آخر، وأتفق مع الطحاوي تماماً فإنّ قصة وأد البنات في جاهلية ما قبل الإسلام فاقمت واقعهم ووشت بخزي الحال في تعاملهم مع المرأة.

كما أنّ دلالة شكل الجزيرة الجغرافي في استخدامه في هذه الأساطير له أبعاده المُحددة والضيقة فهي كدائرة تسهم في إحكام حالة حصار النساء داخل حيز جغرافي ومناخي محدد وهذا يجعلنا نتأكد من تلك النظرة الدونية التي كان ينظر فيها الرجل للمرأة وربما لا زال، كما أنني أرى إطار الجزيرة في وقتنا الراهن لا يعني الجزيرة أبدًا بمفهومها الحقيقي وإنما حصار المرأة بفكرها وإيمانها وبقدرتها على خدمة مجتمعها في أي مجال تشتهيه.

 اختلف المؤرخون والجغرافيون في تحديد موقع الجزيرة بشكل حاسم بسبب انتقال الرواية من بقعة إلى أخرى بشكل متواتر، فنجد أنّ التراث اليوناني الحديث تحدث عن وجود جزر للحوريات تقع بالقرب من نهرالدون في روسيا، وأن بعضهم ذكر أنّها تقع في البحر المتوسط، وأن أبا التاريخ هيرودوت في القرن الخامس قبل الميلاد أشار إلى وجود مجتمع نسوي من النساء الأمازونيات يعتمدن على أنفسهن فقط ويتمتعن بالبسالة والشجاعة، ويذكر أنّه بعد انتصار الإغريق عليهن عند نهر الترمدون قاموا بجمع عدد كبير من الأسيرات الأمازونيات وأبحروا بهن نحو بلاد اليونان، وهنا تبدأ حبكة الأسطورة في مقدرة النساء الأمازونيات على القيام بثورة ضد آسريهن من البحارة الإغريق وقتلهم ومن ثم الإمساك بمقاليد الأمور على متن السفن، وبعدها بدأن في مفاجأة السكان السكيث الذين تعجبوا من قوتهن إذ حسبوهن في أول الأمر رجالاً محاربين، وما كان منهم إلا أن تقبلوا هذا الفوج النسوي المحارب، وبدأوا بعدها في نصب خيام فتيانهم أمام مخيماتهن بهدف اتصالهم بهن ومن ثم إنجاب جيل جديد بارع في أعمال الحرب والقتال.

 في الحقيقة استوقفني هذا المشهد وأنا أقارنه بواقعنا الراهن، فحين يغيب سند المرأة من الرجال تبدأ الأخيرة بالتنازل عن بعض أنوثتها التي من المفترض أن تكون عليها لتبدأ الاعتماد على نفسها في تدبير شؤونها حتى وإن لم تكن مهيأة لذلك جسديًا أو اجتماعيًا، وأنه مهما طال قهر الرجل للمرأة في تهميشها في حياته أو سلب حريتها في العيش فإنّها تنتصر دائماً بقوة صبرها وتحملها للألم أكثر من الرجل، وربما سيساعدها كيدها العظيم في أن يكون سببًا في انتصارها في كثير من الأحيان، ليتحقق لها ما سلبه منها الرجل.

ولإضافة التشويق في حكايات جزر النساء عمد مؤلفوها إلى إضافة مكان منفصل للرجال أيضًا في مكان يقع بعيداً عن أماكنهن، كما حاولت العقليات الأسطورية تبرير عدم انقراض سكان جزيرة النساء التي لا يوجد بها رجل على الإطلاق عبر اللجوء إلى عدة صياغات للإخصاب منها:طبيعية، ومنها أسطورية والتي استوقفتني كثيرًا للضحك.

فهناك العديد من الجغرافيين المسلمين الذين أوردوا العقلانية في التكاثر كأبي عبيد البكري الذي أوضح تدخل الرجال الأدنى مرتبة من النساء، ويقول: إنّ نساءها يحملن من عبيدهن فإذا وضعت المرأة ذكرًا قتلته، وهنا إشارة إلى وجود بعض الرجال في جزيرة النساء ممن يعملون كخدم لهن فقط، ونلاحظ هنا سيطرة أنثوية على الرجل بظهوره على أنّه عبد مملوك لديها يقوم بخدمتها فقط، وربما كان ذلك انعكاساً لما تحلم به المرأة الشرقية بأن تعامل معاملة الملكة من قبل الرجل، وأن تختلف حكاية البعض في واقعنا الذي يعتقد فيها الرجل بأنّ المرأة هي عبد مملوك لديه ليس لها دور سوى خدمته وإشباع رغباته مع انتفاء كل أحلامها.

 فالإدريسي يؤكد ما ذكرته سابقًا ويذكر أنّه في فصل الربيع من كل عام يتوجه الرجال إلى نسائهم ليقصد كل رجل منهم امرأته فيواقعها ويبقى معها أياماً ثم يرتحل عنها إلى العام المقبل، وهذا ما جعلني اتخيل أنّهم حيوانات لا تتكاثر سوى في مواسم معينة، أما الاتصال الأسطوري فيعتبر حلاً لمحاولة المصادر العربية والأجنبية تناول عمليات الإخصاب بمعزل عن الرجل تمامًا وإن لم تكن عقلانية، فيذكر ابن الوردي بأنّ نساء الجزيرة يلقحن ويحملن من الريح ويلدن مثلهن، وقيل أن بأرض الجزيرة نوعاً من الشجر فيأكلن منه ويحملن، ومنهم من جعل حبلها من مياه البحر، مثل ما ذكرت المصادر الصينية في القرن السادس.

رحلتي عبر مقالة الطحاوي جعلتني أكتشف بأنّ جزيرة النساء لم تكن تضم النساء فقط بل كانت تحتضن الذهب بكميات خيالية لا يمكن تصورها، ولأني امرأة فسأقول وبحسن ظن، إنّ المخيلة الذكورية الأسطورية صورت النساء بكنز غامض ككنوز الذهب الثمينة التي لا يستطيع أحد الوصول إليها إلا الذي عرف أين يجد مفاتيحها.

 

أخبار ذات صلة