الفِرق اليهوديّة المعاصرة.. بين التمسّك بروح القديم والانفتاح على العقل والحداثة والتجديد!

أيمن البيماني

يعتبر سقوط مملكة يهوذا -القرن السادس قبل الميلاد- هو بداية مرحلة ظهور علم التفسير اليهودي، حيث أصبح النصّ التوراتي هو مركز الحياة اليهوديّة، وتطوّرت الدراسات والتفاسير التابعة له يوماً بعد يوم. ونناقش اليوم مقالة الباحث (عامر الحافي) حول "التأويل والشأن العام عند الفرق اليهودية المعاصرة".

الأثر الكبير في علم التفسير اليهودي تمثّل في الاتجاهين الفكريين اللذين ظهرا بين اليهود الفريسيين -أحد الأحزاب السياسيّة الدينيّة خلال القرن الأول داخل المجتمع اليهودي في فلسطين- وهما:

1. اتّجاه ظاهري يتمسّك بظواهر النصوص وتفاصيلها الفقهيّة دون الأخذ بالتأويل.

2. اتّجاه عقلي تأويلي يركّز على مقاصد الشريعة أكثر من الفروع الفقهيّة.

والتأويل هو إرجاع الكلام إلى مُراد المتكلّم، وذلك من خلال عدم وقوف المفسّر على المعنى البسيط والمباشر وإنّما التعمّق في المعنى الباطن للنص.

ظهرت حركات التنوير في القرن الثامن عشر ودعت لإعمال العقل ورفض أيّة فكرة دينيّة أو عقيديّة أو فقهيّة تتعارض معه، وطالبت بحريّة الفرد لاختيار العقيدة بعيداً عن أيّ تعصّب. وقد ردّت هذه الحركة الإصلاحيّة (الاستنارة اليهوديّة) على اليهوديّة التقليديّة التي تدعو للانغلاق والتزمّت. ويعتبر (موسى مندلسون) هو المفكّر الاوّل لهذه الحركة، فوضع الإصلاحيون التنويريون أسساً عامّة للتأويل وهي:

1. العقل: بينما قال موسى بن ميمون القرطبي (القرن الثاني عشر الميلادي) أنَّ العقل هو رديف الدين وتابع له؛ فقد رفض مندلسون أيّ عقيدة أو فكرة يهوديّة لا تقبلها الإصلاحيّة العقلانيّة ولا يستطيع العقل التثبّت منها.

2. التكيّف مع مقتضيات العصر: دافع مندلسون عن أفكاره الإصلاحيّة العقلانيّة المتحرّرة من قيود اليهوديّة التقليديّة المنغلقة، وأنَّ اليهوديّة عنده ذات نزعة علميّة متكيّفة مع حقائق العصر ومقتضياته، ولذلك ترجم التوراة للألمانيّة وأشرف على تفسير التلمود -كتاب تعليم الديانة اليهوديّة- بالعِبريّة مع تأويل نصوصه بما يتناسب مع الفكر الحديث.

3. الاندماج في المجتماعات الإنسانيّة: جاء (ديفيد فريدلاندر) ونادى بتغييرات جذريّة كانت نتيجة لمحاولته لتطوير منهج عقلاني يسقط القوميّة اليهوديّة سعياً لإقامة علاقات سويّة بين اليهود والمجتمعات الأخرى، فطالب بإلغاء كل صلاة يهوديّة قوميّة، واستبدال اللغة العِبريّة بالألمانيّة في جميع الصلوات، وبذلك غدت اليهوديّة من وجهة نظر الإصلاحيين أنَّها عقيدة دينيّة أخلاقيّة ليست فيها قوميّة تميّز اليهود عن باقي الأمم.

4. التأثّر بالمسيحيّة الإصلاحيّة: حفّزت الإصلاحيّة المسيحيّة الإصلاحيّين اليهود على التقرّب منها والاندماج مع المجتمعات الغربيّة، والخروج عن السلطة الدينيّة. فقام (إسرائيل جاكبسون) بتأسيس كنيسة تقام فيها الصلوات وفق الصيغ المسيحيّة، واستبدال السبت اليهودي بالأحد المسيحي.

5. النزعة الإنسانيّة: سعت إلى تجريد الديانة اليهوديّة عن الخصائص القوميّة، وإعطائها بُعداً إنسانيّا جديداً. وأسقطت كافّة الأدعية والصلوات القوميّة التي تطالب باستعادة بناء الدولة اليهوديّة في فلسطين. ومع هذا الغلو في التخلّي عن قدسيّة النصوص الدينيّة اليهوديّة فقد ظهرت تأويلات فردية مختلفة بين الإصلاحيين أنفسهم أدّت إلى نشوب الخلافات بينهم !

جاءت بعد هؤلاء الإصلاحيين المستنيرين فرقة يهوديّة محافظة حاولت الجمع بين التقليد والموروث اليهودي مع مقتضيات العصر. ومن أهم الأفكار التي نادى بها هؤلاء المحافظون:

1. الجمع بين حداثة العصر (الأفكار التحديثيّة) والتراث اليهودي (الروح التراثية)، والتعامل مع الدين بمقتضيات العصر وحاجة الشعب دون التصادم مع العلم الحديث، كدراسة الدين اليهودي بأساليب البحث العلمي الحديثة مع الاستناد للأسس التاريخيّة، كما سمحوا مثلاً بإقامة الصلوات والخطب اليهوديّة باللغة التي يفهمها الناس.

2. التوفيق بين الثالوث اليهودي (الله - التوراة - الشعب)، في حين قدّم الإصلاحيّون الشعب على التوراة والله، بينما وضعه الأرثوذكس في المرتبة الأخيرة.

وهنا أدان اليهود الأرثوذكس حركة الإصلاح اليهوديّة باعتبارها عملاً آثماً يجرّدهم من خصوصيّتهم، وأنَّ الاندماج مع الآخر يمثّل تهديداً عظيماً للشعب المختار، وأبانوا عن سخط كبير للعلمانيّة الغربيّة وحركات التنوير.

تأثّرت اليهوديّة الأرثوذكسيّة بعد انتصار الصهاينة في حرب الأيّام الستّة (بين إسرائيل وكل من مصر وسوريا والأردن عام 1967م) كدولة علمانيّة استعادت أرض الميعاد وموطن أجدادهم -كما يعتقدون-، حيث اتّخذ الأرثوذكس موقفاً دينيّاً باعتبار الصهيونيّة حركة مسيحيّة، رغم مقت الاتّجاهات التقليديّة للصهيونيّة باعتبارها وليدة عصور التنوير وموطن القوميّات العلمانيّة، وهنا يدّعي الصهاينة أنَّ دولة إسرائيل هي نتيجة التدخّل والمشيئة الإلهيّة من أجلهم !!! ونشطت تماشياً معها حركة (أغودات يسرائيل) التي تسعى لتكون المظلّة لليهود المتديّنين الذين يدينون العمل الصهيوني والعنف في فلسطين.

وخلال التأويلات المسيحانيّة العنفيّة ظهرت حركة غوش ايمونيم - من إفرازات حرب أكتوبر 1973م- لتطوير بعض الأفكار المسيحيّة العنفيّة تمهيداً لقدوم المسيح، ودعوة اليهوديّة إلى فلسطين وتوطين اليهود فيها.

وهناك أيضاً التأويلات الحسيديّة التي تعتبر امتداداً لحركة التصوّف اليهودي الموجّهة لليهود البسطاء، والتي تسعى لتجاوز المعنى الظاهري والوصول للمعاني العميقة والسريّة للألفاظ، وبلوغ الحقائق الروحيّة من خلال علاقة انفعال اندفاعيّة صوفيّة وليست علاقة معرفيّة سطحيّة، كما ترفض الحسيديّة الحركات الصهيونيّة بكلّ أشكالها. وانتشرت الحسيديّة المعاصرة بشكل كبير بسبب انفتاحها على العقل وإزالة التناقض بينه وبين القلب وفق رؤية تأويليّة توفيقيّة، وأنَّ الفهم العميق للتوراة والقوى الروحيّة متاحاً لكل إنسان أيّاً كان.

ختاماً؛ نستخلص ما يلي كنظرة عامّة على هذه الموضوع:

1. حاولت حركة التنوير اليهوديّة تأويل المعتقدات اليهوديّة مع مقتضيات العصر ونبذ الفوارق بين اليهود وغيرهم، مع العلم أنَّ أغلب تأويلات النصوص اليهوديّة كانت انعكاساً إمّا لظروفٍ سياسيّةٍ - حربيّة 1967م و1973م- أو اجتماعيّة - وجودهم داخل المجتمع الفلسطيني- أو فكريّة أو دينيّة معيّنة.

2. تأويل الظواهر الطبيعيّة والاجتماعيّة بأنّها غضب الله أو رضاه دلالة على استمرار الإيمان بالتأثير المباشر للقوى الغيبيّة في العالم.

3. تأويل الأحداث بما يحقّق الآمال لليهود، مع استخدامه كطريقة توفيقيّة تعطي النصّ كيانه وحقيقته في ظلّ سطوة العقل والمعارف الإنسانيّة.

أخبار ذات صلة