لنظهر الحَق وَلو كَرِه الكَافِرُون!

إيناس ناصر

منذ شهر تقريبًا وصلني مقطع فيديو على هاتفي المحمول فيه رجل أجنبي مسلم يمر على مجموعة من الأجانب غير المسلمين ليسمعهم القرآن الكريم، ويسألهم بعدها عمّا أحسوا به، فكان رد الأغلبية أنّهم أحسوا بسلام وانسجام وراحة نفسية، رغم أنّهم لا يعلمون ما كان ذلك فعلا، حزنت حينها كثيرًا وقلت في نفسي كيف ستكون ردة فعلهم إن عرفوا أنّه قرآن الحق أو فهموا ما يقوله القرآن الكريم حقا، وسرحت بعيدا لأتخيل أفواجًا عظيمة تنطق الشهادتين وتُسلِّم أمرها إلى الله لإيماني بسحر كلمات القرآن وقوة معانيها.

قمت من هذه الخيالات والأحلام لأقرأ مقالة الكاتب ياسر عبد الرحمن الليثي بعنوان " اللغة العربية ودراسات الاستشراق الإسلاميّة" ووجدت تساؤلاتي تشبه تمامًا ما تساءل عنه الكاتب في أول مقالته، يا ترى لو كانت اللغة العربية تحتل اليوم مكانة الإنجليزيّة على الصعيد العالمي فكيف سيرى الغرب الإسلام؟

يحاول الكاتب في مقالته هذه معرفة العلاقة بين اللغة العربية بدراسات الاستشراق والإسلام، ليجلي أهميّة اللغة العربية ودورها في رد كل التهم التي وجهت إلى الإسلام والمسلمين والتي شوهت حقائقهم الحميدة إلى حقائق سوداوية لا تعرف سوى الدم والقتل والكره.

وبغصّة حزن بدأت أقرأ كيف حاول ويحاول كتاب الغرب طمس الحق والمماطلة في رسم صورة مغالطة عن الإسلام سواء المستشرقون منهم أو من أقحم نفسه على هذا المجال، وذكر الكاتب أنّه لا هدف من ذلك سوى النيل من دين وحضارة دارت عليهما الدوائر فصار التباس الفهم بشأنها (دراسة) وسمي التشويه بكليهما (بحثا).

فعبر عصور طويلة بدأت الدراسات الشرقية بتعليم اللغة العربية ولغات أخرى لأغراض تبشيرية فقط وبهدف تنصير المسلمين، وتأليف أدبيات ناقدة للقرآن الكريم، ففي عام 1143م أعد روبرت كينيت ترجمة لاتينية للقرآن الكريم، التي كان من شأنها أن تصحح العديد من المفاهيم الخاطئة عن الإسلام ونبيه عند الغرب، وللأسف وقعت هذه النسخة بيد وحشية لرئيس دير كلوني أبهرته عظمة القرآن ومحتواه ليشن بطغيانه هجومًا شرسا على القرآن، ويحاول بكل ما أوتي من قوة شيطانية منع وصول هذه الترجمة إلى أيدي الناس ويتحدى الجبار الذي توعد بقوله: "هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ".

لقد استغل الغرب الإعلام - الذي يحتل مساحة كبيرة ومهمة في غرس أفكار ومبادئ وتغيير موجة الرأي العام- في تكوين مرجعية مشوهة عن الإسلام، وهذا ما نراه واقعا إلى يومنا هذا من انتهاكات لحرمات المسلمين في بلدانهم ونسب التفجيرات الإرهابيّة إليهم، حتى قبل أن يتبيّنوا الصواب وحتى بعد تبينه، وبشراسة مدروسة استخدموا وسائل الإعلام المختلفة كسلاح في ضخ مفاهيم مغلوطة وأحكام خاطئة عن الإسلام، ولقد أرجع الكاتب بعض هذه المهاترات ضد الإسلام إلى تبني بعض الغربيين للقيمة الدلالية للفظ دون الأخذ بعين الاعتبار القيمة الدلالية اللغوية فهناك الكثير من الكلمات مثل "الجهاد والكفر" التي باتت تعج بها صفحات مجلاتهم وشاشات التلفاز حتى أصبحت توصيفا لواقع علاقة الإسلام بغير أهله لأنهم "كفار" وجب القضاء عليهم عبر "الجهاد".

كما أن تنظيم داعش الإرهابي ونظيره بوكو حرام ساهما في الآونة الأخيرة في دفع مثل هذه الافتراءات حينما بثوا سموم أفلامهم وهم يحملون علم لا إله الإ الله وجعلوا من مظهر اللحية الطويلة رمزا للتصديق بأنّهم مسلمون وهم يقتلون ويذبحون بعضهم بعضا والإسلام بريء من هذا كله.

ربما كانوا مسلمين كما صورت وسائل الإعلام وقد تكون حربا إعلامية جديدة، ومهما يكن فربما اللبس المعنوي لبعض كلمات القرآن الكريم وضعف وصول معانيها لهم حال دون ذلك وحارت بهم الظنون والأفكار، فلم يكن اللبس المعنوي  مقصورا على الأجانب بل حتى العرب المسلمين أنفسهم بات جهلهم باللغة العربية سبيلا مقلقا لعدم فهم النص القرآني من قبل شريحة ليست بالقليلة في مجتمعات العرب المعاصرين فصاروا ينسبون إلى الدين ما ليس فيه بل ويجرؤ بعضهم إلى تحريف تأويل آيات الله البينات بما يشبع هواه، ويحسبونه هينا وهو عند الله عظيم. فيا ترى ما سر هذا الجفاء للغة العربية بعد تاريخها العريق حيث وجد عرب كثر من الذين حفظوا وترجموا وشرحوا وأضافوا الكثير إلى علوم تراث الإغريق القديم ثم قدموا بكل ثراء الشرق وتجربته الحضارية إلى أوروبا لتنهض بفضلهم من سبات التخلف والتراجع. ولكن أوروبا كعادة جفائها كانت كالطير الجريح المنتشل من سبات الظلام لتضمد جراحها بعلوم العرب، ولما اشتد ساعدها ألقت بكل شراسة بسهام الغدر لما قدمته لها الحضارة العربية حيث هُمِشت وقُلصت دورها وأصبحت تحاربها بكل ما أوتيت من قوة في حين أنّ العرب لم تكن العنصرية في قاموسهم فقد كانوا يتّسمون بالتسامح والإيثار والانشغال بتهذيب النفس الإنسانية في دينها ودنياها دون تحيّز لدين أو بلد.

واتفق تمامًا مع الكاتب الذي يرى أنّ بعض مناهجنا التعليمية في كثير من البلدان العربية كانت سببًا في جهل العربي للغته، فأحياناً تنتقي هذه المناهج نصوصا قد يفوق مستوى تراكيبها ومفرداتها العصر الذي نعيشه، ليجد القارئ نفسه أمام متاهة كبيرة من المصطلحات التي سيمر عليها حتمًا دونما فهم، وهذا بلا شك سيؤثر على نفس المتلقي في تنفيره من لغته الأم، وهنا يوجب التوازن في عرض المواد بلغة سلسة بسيطة مفهومة في زمن وصف بالسرعة في ظل وجود التقنيات الإلكترونية واستخدام العامية فيها بشكل واسع.

والذي يجعلني ابتسم لهذه الحروب التي يشنها الغرب في تشويه صورة الإسلام ونبيه الكريم صلى الله عليه وسلم هو أنها لم تزد المحيطين بالمسلمين من الغرب سوى أنّها جعلتهم أكثر بحثا وتلهثا لمعرفة الحقيقة المغيبة عنهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي وغيرها، وما جعلني أذيب ابتسامتي هو أنّه ماذا لو لم يجدوا ما يروي عطش معرفتهم من ترجمات العرب لكتبهم الدينية والفكرية والمعرفية حتى يتبيوا الحق، فلقد أرجع الكاتب إهمال العرب للترجمة سببا مهما في جهل الآخر لحقيقة الإسلام والمسلمين.

ويختم الكاتب مقالته في المناشدة بضرورة وجود دعم لأقسام اللغة والدراسات العربية في دول الغرب لفهم ديننا وحضارتنا على أسس صحيحة، وهنا أشيد بدور السلطنة في دعم مثل هذه المراكز وتوسيع تعليم الغرب للغة العربية، وإنشاء كليّة السلطان قابوس لتعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها خير دليل وبرهان على اهتمام جلالته في دعم اللغة العربية وتوسيع فهم الآخر للعرب المسلمين.

ولهذا وجب علينا الاتحاد جميعا لمحاربة هذه الانتهاكات ليست بالهتافات والاستنكارات والإدانات أو بحرق أعلام الآخرين وإنّما بمحاربتهم بالعلم والمعرفة والترجمة الموضوعية للفكر الإسلامي، ولنظهر الحق ولو كره الكافرون.

 

أخبار ذات صلة