أيمن البيماني
بَعْد أن ازدادت المطامع الدنيوية، وتكالبتْ الصراعات الأيديولوجية، وتغيَّرت قِيَم الإنسان المعاصر؛ لم يجد البعض سوى الارتماء في أحضان "الصوفية" للحصول على الراحة النفسية والسعادة الوجدانية والقرب من الرب. ولنا وقفة هنا ومناقشة مع مقال جميل حمداوي حول "التصوف الإسلامي ومراحله".
بادئ ذي بدء، لا بد لنا من تعريف التصوف، ثم التطرق لمواضيعه ومراحله.. فالتصوف (لغةً) تتعدَّد مشاربه وتتنوع مصادره، ومصدر التصوف من الفعل الثلاثي المجرد "صوف"، وتصوف أي صار صوفياً وتحلى بأخلاق الصوفية المتعبدين، وترتبط به مصطلحات صوفيا، والصوفة، وأهل الصوفة، والصوف، والصفاء والصفو.
وبعد بحث عميق وتفنيد للعديد من الآراء والأقوال التي تُخرِج التصوف من معناه الحقيقي؛ وجدنا أن التصوف يرجع إلى لبس الصوف في اللغة؛ حيث يقول ابن خلدون في مقدمته المشهورة: "والأظهر إن قيل بالاشتقاق إنه من الصوف، وهم في الغالب مختصون بلبسه لما كانوا عليه من مخالفة الناس في لبس فاخر الثوب إلى لبس الصوف". وأول من أخذ لقب الصوفي هو أبو هشام الصوفي المُتوفى سنة 105 هـ، ويرى المستشرق ماسينيون أنَّ عبدك الصوفي المُتوفى سنة 210هـ هو أول من حظي بهذا اللقب.
أمَّا اصطلاحاً، فالتصوف عبارة عن رحلة عرفانية وجدانية روحانية متطهرة من الذنوب وأوساخ الدنيا ومتاعها وشهواتها وملذاتها، مُتوجِّهاً إلى الحضرة الربانية عبر المعراج النوراني الإلهي ليصل إلى المعشوق الرباني، متوجاً بالوصال والكشف الإلهي والقرب من الخالق. والصوفية ليست فرقة مستقلة بذاتها؛ وإنما يمكن الحديث عن معتزلي صوفي، ونصراني صوفي، ويهودي صوفي، ومسيحي صوفي...وغيرهم من المذاهب والمِلل الأخرى.
وحسب ابن خلدون، فإن للتصوف مواضيع أربعة.. هي:
1- المجاهدات ومحاسبة النفس على الأعمال.
2- الكشف والحقيقة المدركة عن عالم الغيب كالملائكة والوحي والنبوة.
3- التصرفات في العالم بأنواع الكرامات، وهي تختلف عن معجزات الأنبياء.
4- ألفاظ صدرت أثناء الانتشاء الذوقي للمتصوف، ويطلق عليها الشطحات، وقد يكون في مرحلة لا يعي ما يقوله ويردده، أو يكون متأثراً بفلسفة خارجية كما سنذكر من أمثلة لاحقا للحلاج وابن الفارض وغيرهم.
وبطبيعة الحال، لم يأتِ التصوف كالكتاب الذي أُنزِل دفعة واحدة؛ وإنما بدأ وتطور عبر مراحل عديدة كالتالي:
أ- مرحلة الزهد: انبثقت بوادرها في القرن الأول الهجري مع بداية الدعوة الإسلامية، وجاءت آيات تدعو للزهد والابتعاد عن ملذات الحياة والاستعداد للموت والآخرة: "أَلْهَاكُمُ التكَاثُرُ حَتى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ" (التكاثر: 1-2). وآيات أخرى تدل على الحب الإلهي: "وَالذِينَ آَمَنُوا أَشَد حُباً لِلهِ" (البقرة:165). ومن أمثلة هؤلاء الزهاد الخلفاء الراشدون، وسلمان الفارسي، وأبو ذر الغفاري.
ب- مرحلة التصوف السني: ظهر هذا التصوف في القرن الثاني الهجري، وذلك بعد انتشار الإسلام وتوسع الدولة الإسلامية، وانتشار الغنى والجاه والرخاء والرفاهية وانخراط الناس في الحياة. فظهرت مجموعة متصوفة من الزهاد السنيين الذين ابتعدوا عن الدنيا وانعزلوا عن الناس والسلاطين. ومن أمثلتهم الغزالي الذي حاول التوفيق بين الشرع والتصوف، ليظهر ذلك جليًّا في كتابيه: "المنقذ من الضلال" و"إحياء علوم الدين". وكذلك رابعة العدوية المؤسِّسة لأحد مذاهب التصوف الإسلامي، وهو مذهب الحب الإلهي. ولما كان الحسن البصري معروفاً بنزعة الخوف حتى قال عنه معاصروه: "إنه كان دائماً كأنه عائد من جنازة"؛ فإن رابعة العدوية معروفة بنزعة الحب الرباني، وقد قالت:
عـرفت الهـوى مذ عرفت هـواك...
وأغـلـقـت قلـبـي عـمـن سـواكَ
وكــنت أناجيـــك يـــا من تــرى...
خـفـايـا الـقـلـوب ولسـنـا نـراكَ
أحبـــك حـبـيــن حـب الهـــــوى...
وحــبــــاً لأنـــك أهـــل لـــذاكَ
ج- مرحلة التصوف الفلسفي: بزع نجم هذه المرحلة إبان حكم الدولة العباسية؛ وذلك بسبب اختلاط المسلمين مع الشعوب الأخرى كالفرس والهنود والروم. ولا عجب من ذلك الاختلاف الفكري، خاصة عند تأسيس بيت الحكمة بأمر من الخليفة "المأمون" لنقل وترجمة الفكر اليوناني الإغريقي القديم، كما أنَّ انتشار المدارس الدينية والفلسفية ساعد على تلقيح التصوف الإسلامي بملامح خارجية أبعدته عن الصواب، وجعلته فكراً منحرفاً وخطيراً، فيقول أحمد أمين: "ولكن لما فتحت الفتوح الإسلامية واختلطت الثقافات المختلفة وكانت تموج في المملكة الإسلامية الفلسفة اليونانية، وخاصة الأفلاطونية الحديثة والنصرانية والبوذية والزرادشتية، وجدنا أن هذا الزهد وهذا الحب الإلهي يتفلسفان، وتتسرب إلى التصوف بعض تعليمات من كل هذا".
د- التصوف المذهبي أو الطرقي: ظهر كسلوك اجتماعي بعد أن كان نزعة ورغبة فردية؛ فكان من الصعب على الصوفي أن يتحمل السفر ومشقة الطريق لوحده؛ فظهرت الفرق والطرق الصوفية المنسوبة لشخص معين وله أتباعٌ كثيرون، وينتقل هذا المشعل من شيخ لآخر عند وفاته؛ ومنهم: الطريقة الأحمدية والتي تنسب إلى أحمد البدوي إبان الظاهر بيبرس في مصر، والطريقة التيجانية والشاذلية والجيلانية...وغيرها.
وعند الحديث عن أبعاد التصوف المنهجية؛ فإنَّ منهج الصوفيين هو الحدس والوجدان والقلب في تفسير وتأويل النصوص، خلافاً للفلاسفة والعلماء الذين يعتمدون على العقل والمنطق، والفقهاء الذين يتجهون لظاهر النصوص. يقول تعالى: "وَلَوْ رَدُوهُ إِلَى الرَسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ" (النساء: 83). فهذا العلم المستنبط هو العلم والمعنى الباطن لأهل التصوف؛ لهذا لا يكتفي المتصوفون بظاهر النصوص كالفقهاء الذين يخافون التأويل خشية إثارة الفتن في المجتمع، وإن كان في ذلك مخاطرة كبيرة على المتصوف كالحلاج القائل بنظرية الحلول بأن الله حل في الإنسان، واللاهوت حل في الناسوت، فقال: "أنا الله، وما في الجبة إلا الله". ليتم صلبه أمام الناس بسبب تأويله الصريح للنصوص!
ومن حيث مصادر التصوف، فإنها فئتان؛ الأولى: هي مصادر داخلية من القرآن والسنة وظروف الدولة الإسلامية السياسية والاجتماعية، وظروف خارجية من الفكر الغنوصي والهرمسية والفلسفة الإغريقية، والتيارات الهندية والفارسية والمسيحية واليهودية. وإن كان المتصوفون الذين تأثروا بمصادر خارجية قد شطحوا كثيراً كأمثال جلال الدين الرومي، وابن عربي، وابن الفارض، والحلاج.
وأخيراً وليس آخراً: هل قيمة التصوف في المجتمع العربي الإسلامي إيجابية أم سلبية؟ هناك فريق يرى أنها سلبية الأثر والتأثير كالدكتور محمد عابد الجابري، الذي يؤمن أن الحقيقة عند الصوفية هي رؤية سحرية للعالم تكرسها الأسطورة فتصبح فكراً خرافيًّا. بينما يرى آخرون بإيجابية الفكر الصوفي، فهو وسيلة للخروج من أزمات الحياة، وحل مشكلاتنا الأخلاقية والأزمات الروحية، ناهيك عن أن التصوف أصبح علاجاً سيكويولوجيًّا ليخرج الإنسان من عزلته الاجتماعية، ويحرره من الأمراض العضوية والنفسية ويداويه من القلق والكآبة والوحدة.