أيمن البيماني
تعدّ العلاقة بين الحضارة والدين في أي مجتمع من المجتمعات ذات نواحٍ وأوجهٍ متعدّدة، فتطوّر الأولى مقترن بطبيعة الثانية، ولا يمكن فهم مصطلح الحضارة إلّا بفهم مصطلح الثقافة وربطهما معاً إضافة إلى مفهوم الدين. ونناقش هنا مقال (صابر حباشة) حول "الدين والحضارة بين الإسلام والغرب: تحدّيات الصراع وشروط الحوار بين النظرية والواقع".
في البداية لا بد لنا من التطرّق لمفاهيم (الحضارة، الثقافة، الدين)، والتي تعدّ المثلّث الذي يقوم عليه الحوار بين الأديان. فالحضارة في مفهومها العام هي أحد مظاهر الحياة الاجتماعية ومستوى الرقي الاقتصادي والمعرفي. ويطلق مصطلح الحضارة في أغلب الأحيان على الشعوب والمجتمعات ذات المستوى العالي من التقدّم والرقيّ. ولفهم مصطلح الحضارة نربطه بالثقافة؛ والتي تشمل اللغة والأفكار والعادات والتقاليد والقوانين والتقنيّات. ومن وجهة نظري أعارض ربط الثقافة وتفسيرها بأنّها سلوك خاص بالإنسان المفكّر فقط؛ فحتّى غير المفكّر له ثقافته الخاصة التي يعيش عليها، ناهيك عن تصنيف بعض الدارسين للثقافة إلى ثقافة بدائيّة وأخرى متطوّرة، فتنامي المستوى الثقافي من حيث السلوكيّات والأفكار والاختراعات والتقنيّات يمهّد لتنامي مجتمعٍ ما دونما غيره من المجتمعات الإنسانية.
أمّا في الغرب فقد تبلور مفهوم أوسع للثقافة ذو أبعاد مؤثّرة، فخلال الحربين العالمين ظهرت إيديولوجيات يمينية متطرّفة تتمثّل في النازيّة الألمانية والفاشية الإيطالية، وتصارعها يسارية راديكالية ماركسية شيوعية وستالينية. وقامت هذه المفاهيم بإغراء المتابعين بتعدّدية ثقافية وهمية لا دخل لها بالثقافة، فأطلق عليها بعض الباحثين مصطلح "خرافة التعدّدية الثقافية". كما أن مفاهيم "حرب الثقافات" و "صدام الحضارات" تنافي تطوّر ونمو الحضارات وهي في عزلة دون حوار مع الآخر، وهنا نقف أمام قضية حاسمة للغاية، فكيف نربط بين الأديان الداعية إلى العالمية، وبعض التوجّهات الحديثة الضيّقة لانكماش العالم وانغلاقه؟
ولزاماً لا بد من الحديث عن مفهوم "الدين". وأكثر تعريفاً شاملاً للدين هو ما يراه الإنسان مقدّساً أو روحيّاً أو إلهيّاً. وتتمثل مكوّناته في العبادة، وبعدها السلوك الأخلاقي والعقيدة الصحيحة والمشاركة في المؤسسات الدينية. وتزايدت في العصور الحديثة دراسة الدين بمعناه العلمي من حيث فهم أصوله ودلالاته، مع العلم أنّ ثراء الاختلاف الديني بين الناس يجعل من الصعب في بعض الأحيان إيجاد تعريفٍ مُرضٍ للدين، فعنصرٌ أساسي في تعريف دينٍ معيّن قد يكون هامشيّاً في تعريفِ دينٍ آخر!
تأثير الدين في الثقافة قد يبدو غامضاً، فالاعتقاد بوجود حياة أخرى - كمثال- جعلت البعض يستهين بالحياة الدنيا، وجعلت الآخر يسعى ويعمل للحياة الأخرى، وإيمان الإنسان بأنّه تابع لقوّة أعظم منه تسيّر أمور الحياة وتدبّرها جعلت أحدهم يتكاسل، وحفّزت الآخر لبذل مجهود أكبر وعمارة الأرض. أمّا الاعتقاد الديني فيدفع الناس في بعض الأحيان لتفسير ظواهر طبيعية وبشرية؛ فكثرة الأمراض والموت والجفاف وانقطاع الأمطار قد يُرجِعها البعض لكثرة المعاصي والذنوب، والأجواء الطيّبة والزراعة النافعة الخصبة ينسبها البعض الآخر للعبادة وطاعة الإله. الصلاة هي بحدّ ذاتها ثقافة اتّجاه المعبود من حيث كلماتها وأحاسيسها، ومعظم الأديان تتمايز على مستوى الشعائر الدينية، ولكنّها تتفق في وجود رموز دينية ومعبودٍ مقدّس. وهذه هي أغلب المقاربات الفلسفية الغربية للظاهرة الدينية.
لبّ القضية ومحورها يدور في كيفية إبراز الدين لرسالته السماوية المتينة والمتسامحة مع الآخر، في حين يقوم بعض أتباعه بتكفير الآخر المختلف معهم سواءً مذهبياً أو عِرقياً أو إيديولوجياً؟ وتشويه الاختلاف بينهم وتدنيس قبول الآخر لتعزيز العنصرية بينهم! والحقيقة أنَّ الاختلافات بين البشرية والشعوب موجودة في كتاب الله عزَّ وجل: (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) هود: 118-119. ويذهب بعض المفسّرين إلى القول بأنّه اختلاف في الأديان، والبعض يرجح القول أنَّ منهم للجنة وآخرون للنار، ولو شاء ربّك لجعل الناس أمّة واحدة ولكنَّ مقتضى الحكمة الإلهيّة هو الاختلاف، وكما يقول (سيد قطب): "وكل أمرٍ لحكمة، ولكن حكمة الغيب العميقة قد لا تتكشّف للنظرة الإنسانية القصيرة".
ولذلك فالاختلاف ما هو إلا معطى كوني، وبه يتمّ التعايش والتحاور وتبادل المنافع والمصالح بين بني آدم، فكيف ينشأ حوار بين طرفين ما لم يوجد مجال للاختلاف يتمّ على أساسه التناقش وتبادل الحجج والأدلّة؟ ولذلك يجب على الفرد عند حواره مع الآخر إعطاؤه فرصة ومساحة للاختلاف معه وعدم حصره في قالب معيّن وفق ما يراه ويريده ويناسبه هو فقط! كما أنَّ الإنسان لا يمكن أن ينغلق على نفسه ويعيش في عزلة مميتة بعيداً عن الطرف الآخر، فسبل الحياة الحالية تفرض التعايش والحوار مع الآخر أياً كان وبقدر الإمكان لتحقيقِ نوع مهمّ وضروري من المصالح وتبادل المعارف والمنافع الدينية والدنيوية.
ومن شروط دخول المسلم في فلك التحاور مع الغربي هو عدم رفضه استخدام سبل البحث العلمي والمنهجي، والابتعاد عن العنصرية المقيتة والتطرّف إن أردنا اللحاق بركب الغرب في مضمار الحضارة والتقدّم والرقي والازدهار والتطوّر العلمي والتقني والصناعي وغيرها، فلا حياة ولا حوار بدون اختلاف، ولكن بشرط ألا يجعلنا الاختلاف نميل وننزع لجهة معيّنة بعنصرية وبدون حيادية لينسف كل أوجه الحوار وقبول الآخر.
وبالرغم من صعوبة التعايش نوعاً ما بين الأديان في الماضي، والغلوّ في الأديان الذي حدّ كثيراً من سهولة الحوار مع الآخر؛ لا شكَّ أنَّ التقنيات الحديثة ووسائل الاتَّصال أصبح لها دور الريادة في تقريب العالم والشعوب، والأمل واسع وكبير في أبناء الجيل الحالي من الشعوب والديانات بالتعايش مع بعضهم البعض في المجالات ذات الاهتمامات المشتركة وليس فيما لا قيمة له، دون التأثّر بالفئة التي تريد الغلو في دينها والانغلاق على نفسها ونبذها للآخر وإقصائه بسبب أو بدون سبب، فليس هذا هو الهدف الذي خلق الله البشرية من أجله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) الحجرات: 13