عبدالله الجهوري
إشكاليّة العلاقة بين العقل والوحي التي ذكرها محمد السماك في مقاله الموسوم "العقل والإيمان في الإسلام" لم تكن وليدة زمانها، بل هي قضية قديمة تجذرت في أطروحات الديانات الشرقية الكبرى، اليهودية والمسيحية والإسلاميّة، ولا تكاد تخلو أي حقبة من نقاش جاد حول الموضوع، لاسيما حوار الفلاسفة والمتكلمين، وقضايا الجبر والاختيار وغيرها. إنّ العقل أداة أو ميزة امتاز بها الإنسان عن سائر مخلوقات الله، تكاد تكون هذه من المسلمات، لكن الإشكالية تبدأ حين يقرر الوحي ما لا طاقة للعقل بالإحاطة به، هنا نشأ الاختلاف، وتعمق الخلاف حول طبيعة العلاقة بين العقل والوحي، أو قل العقل والإيمان إن شئت. ومن ثم التساؤل الأهم ما هو حجم هامش العقل في حدود الإيمان؟
يقول ابن رشد في كتابه تهافت التهافت: "كل ما عجز عنه العقل أفاده الله الإنسانَ من قبل الوحي". بالنظر إلى قولة ابن رشد للمرة الأولى، يظن المرء أن ابن رشد قدم الوحي على العقل، والأمر ليس كذلك تماما في الحقيقة، فالأصل في الأمور تقديم العقل، على أن يُعنى الوحي بما وراء ذلك. أما محمد السماك الذي آثر تقديم الخلاف بطريقته الخاصة ملخصا لأقوال السابقين ومقدما لآراء الأولين، فيبدأ بتعريف العقل في اللغة ومدلولاته عند أهل الاختصاص. فيرى العقل أساس الإيمان، يقول: "يقوم الإيمان في الإسلام على قاعدتين أساسيتين هما الحرية والمسؤولية، فالإنسان حر في الاختيار وهو محاسب أمام الله عن خياراته". إن العبارة السابقة لا تلخص رأي السماك في طبيعة إشكال العلاقة بين الدين والإيمان فحسب بل تشكل امتداد النظرة التي تبناها تهافت التهافت في تقديم العقل دون تجاوز الوحي، وهي الملمح العام الذي يجمع أغلب الفلاسفة المؤمنين بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم. لذا فلن يبدو غريبا أبدا أن يطل علينا عدنان إبراهيم في خطبه مناديا بتقديم الوحي في أمور حاسمة وهو الرجل عينه الذي لطالما دعا لتقديم العقل وإعماله في المسائل الدينية والدنيوية على حد سواء. بمعنى أن هذه الفكرة أصيلة في الفكر الفلسفي الإسلامي.
يتساءل السماك في مقاله عن الفرق بين حريات ثلاث، الحرية الدينية وحرية التفكير وحرية الاعتقاد. لذا يشرع في الحديث عن مفهوم الحرية، التي هي بطبيعة الحال ناتج الأهلية أو العقل. إن الحرية في رؤية السماك هي المعادل الموضوعي للمسؤولية، فلا مسؤولية بلا حرية، ولا تكليف بلا حرية، ولا اختيار بلا حرية، ولا حتى حساب إذا سلبت الحرية. إن السماك يستعيد قوله تعالى (أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) ليقول أن التعارف لا يكون إلا بين متباينين، وهذا التباين –حسب السماك- لا يتأتى إلا بالاختلاف والاختلاف لا يحصل إلا بالحرية. وهو هنا يريد أن يمهد الطريق لأمر بيته في نفسه وأرجأه لنهاية المقال.
ولا يخفى على القارئ تكلف الكاتب في تأويل الآية السابقة، على الأقل هناك الكثير من المسالك لإثبات فكرته القديمة الجديدة دون الاعتماد على هذا الشاهد أصلا. أما الفكرة فهي قديمة لأن كثيرا من فلاسفة المسلمين ناقشها، بل ناقشها كثير من الفلاسفة التوفيقيين أمثال ليبنتيز الذي قدم فلسفة تفسيرية لوجود الشر في عالم "الخير" تشبه تماما تلك التي يحاول السماك تمريرها عبر مقاله بشأن حرية الاعتقاد والحرية الدينية. وللسبب عينه يرى السماك تجنب الشرائع لدعوة الإكراه، التي هي دعوة البشير حينًا والنذير حينًا آخر، والمذكّر أحيانا، ولعل هذا سر اقتباساته المتتالية من القرآن الكريم التي وردت على النحو الآتي: قال تعالى" إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا"، "لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ" وكذلك قوله تعالى: "وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذَرِينَ" و "إنَّا أَرْسَلْنَاك بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَاب الْجَحِيم". فالسماك يرى نبذ الإسلام للإكراه واحترامه لحرية الاختيار، انطلاقا من "خيرية" التعدد والتنوع، وهي الوجه الآخر لفكرة ليبنتيز في تقديم الشر، وإن كان ليبنتز أكثر وضوحا وصراحة.
وفي الجزء الأهم من المقال، يرى الكاتب ضرورة التمييز بين النص الديني وفهم النص، فالنص القرآني، هو كلام إلهي، يمتاز بثلاث صفات: القدسية، والإطلاقية، والديمومية. وكل هذه الصفات فوق إنسانوية متعلقة بالوحي، وترتبط ارتباطًا مباشرًا بفكرة ابن رشد القائلة باحتياجنا للوحي لفهم ما وراء العقل، أو ما وراء الإدراك البشري. وفي المقابل فإن فهم النص، هو الجزء البشري من التجربة الدينية لذا سيتصف بثلاث صفات متناقضة تماما مع سابقاتها وفق رأي الكاتب: الإنسانية، والنسبية، والتغييرية.
إنّ هذا التمثل للتجربة الفلسفية القديمة وتقديمها بطرح قشيب لم يكن هدف الكاتب، لذا كان من الطبيعي أن ينتقل إلى ما هو أهم، ألا وهو أهمية تنمية الاجتهاد والنظر في الفهم الديني، لأنه باختصار ليس حكرا على أحد وهو متاح للجميع، طالما لم يمس الجزء المتعالي من الدين، الجزء المقدس، المتعلق بالنص. فالمولى جل وعلا -بحسب الكاتب- أنزل الذكر وتعهد بحفظه، لكنه لم يتعهد بحفظ تفسيراتنا وتأويلاتنا واجتهاداتنا. ويسأل الكاتب: كيف لعلماء الأمة السابقين أن يتوصلوا لما توصلوا إليه لولا اجتهادهم وحريتهم واستقلاليتهم؟
ويمعن الكاتب في ذم المقلدين والإنكار عليهم سيما وأن تقليدهم وإنكارهم ناتج عن كسل، وتخاذل عن القيام بواجب الخلافة في الأرض، فهو يرى الأمانة التي حمّلها الله الإنسانَ دون غيره في الآية: (إنا عرضنا الأمانة...) إنما يقصد بها العقل، ويسرد الآيات الداعيات إلى التدبر والنظر في الكون كقوله تعالى: "كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ" وغيرها مبينا أن القرآن ذكر ألفاظا للعقل ومشتقاته ومترادفاته أكثر من ثلاثين مرة. وهو يرى أن هذا التكرار ما هو إلا دعوة لإعماله وتفعيله. ولا يفوت الكاتب التنويه لبعض المعوقات التي قد تواجه المصلحين والمجددين لكن لابد من تجاوزها والتغلب عليها، داعيا إلى تجنب الصدمات الاستفزازية للمسلمين مثل الإسلام الجديد أو إصلاح أحوال المسلمين، وقد بين السماك أن نبل الهدف لا يسوغ استخدام مصطلحات سلبية قد تنفر الجمهور من المشروع عموما. وقد بين أن القواعد والأصول ثابته، مع الاحتفاظ بهامش في الفروع، مرن، يتكيف مع ثنيات الزمن وتطوره.
