أيمن البيماني
قبل أكثر من ستّة قرون، قال ابن خلدون في مقدّمته المشهورة حول تفسيره للتاريخ: "إنّ أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقرّ، إنّما هو اختلاف على الأيام والأزمنة، وانتقال من حال إلى حال". وهذا الانتقال لا يكون إلّا بالعقل والفعل والحركة، ولذلك فقد أغرى ابن خلدون القرّاء على سبر أغوار المقدّمة الخلدونية بسبب حديثه عن العقل والعقلانية والمعنى والمنطق والتي تؤثّر في سير التاريخ البشري من حين لآخر، وهو ما حمل في الوقت ذاته الكثير من الباحثين على إخراج ابن خلدون من عالمه المعرفي، وسياقه الديني، ووجوده التاريخي. وهنا يقدّم لنا الكاتب "سعيد بنسعيد العلوي" ونناقش معه مقاله المنشور في مجلّة التسامح حول (المصطلح الأصولي في الخطاب الخلدوني).
الحقيقة أنّ المقدّمة لم تكن بمنأى عن العقل والمعقولية اللّذين يعتبران محكومين بالأسس الإبستمولوجية التي اعتمد عليها ابن خلدون، ونودّ الإثراء هنا أيضاً بمصادر ابن خلدون ومرجعياته وخاصّة المصادر الأصولية كأصول الدين وأصول الفقه، وهو ما يقودنا إلى أهمية المصادر الإسلامية في الفكر الخلدوني، وكذلك اللغة الأصولية التي تعتبر الباب أمام القارئ لولوج المقدّمة، ولا نزيد هنا على التذكير ببعض المفاهيم الكلامية والأصولية فيها حيث نقسّم الحديث لثلاثة أقسام عند أبي زيد:
أولاً: فن التاريخ في الخطاب الخلدوني:
رغم أنّ التاريخ يعتبر العماد الذي قامت عليه مقدّمة ابن خلدون، لكنّه في تصنيفه للعلوم ذكر الآتي: "اعلم أن العلوم المتعارفة بين أهل العمران على صنفين: علوم مقصودة بالذات كالشرعيات من التفسير والحديث والفقه وعلم الكلام وكالطبيعيات والإلهيات من الفلسفة، وعلوم هي وسيلة آلية بهذه العلوم كالعربية والحساب وغيرهما للشرعيات كالمنطق للفلسفة". وهنا نلاحظ أنّه لم يرد ذكر التاريخ بين العلوم، فلو كان ابن خلدون بالفعل قد أقصى التاريخ من مقدّمته لغدت كتاباتها عبثاً، ولكنه ذكر في موضع آخر: "فن التاريخ من الفنون التي تتداولها الأمم والأجيال". ولذلك كان ذكره ضمنياً وليس صريحاً في تصنيف العلوم، وهكذا فلا يُحمل أن يخرج التاريخ من دائرة العلوم الكلية والأولية، وإنما هو علم مقصود بالذات.
ثم ندخل هنا في جدل آخر؛ فهل التاريخ يتّصل بالشرعيات أم ينسب للطبيعيات والإلهيات؟ وللموقفين ما يبررهما في المقدّمة؛ فمن جهة تحدّث عن طبائع الأشياء والعمران البشري مما يجعل التاريخ في عداد العلوم الطبيعية والفلسفية، ومن جهة أخرى فإنّ حديثه يتطرق للمعارف والقضايا والعلوم الإسلامية، ولذلك نرى الأفضل الأخذ بقول أهل الفكر السياسي في الإسلام كالماوردي وغيره بأنّ التاريخ ينسب للشرعيات والعلوم الطبيعية والفلسفية معاً.
ولما كان ابن خلدون يملك وعياً حاداً؛ فقد استحدث علماً غريب النزعة، عزيز الفائدة، وهو العمران البشري الذي يتسارع ويمتزج مع العلمين الإسلاميين الساميين: أصول الفقه وأصول الدين.
ثانياً: مكانة الأصول في التاريخ:
لعل علم الكلام هو أبرز ما يوضح لنا الاعتقاد الكلامي الخلدوني، حيث يقول معرّفاً علم الكلام: "علم يتضمّن الحِجاج"، وهو ما يمكن اعتباره العماد النظري لعلم الكلام. وقول أبي حامد الغزالي بأن أصول الدين هو العلم الكلّي من العلوم الدينية، ولذلك فالعلوم الدينية الكبرى مرجعها وأساسها علم الكلام. وتتفرّد في علوم الكلام أصول الاعتقاد، وكلّيات العلوم الدينية ومبادؤها، والقول بالإمامة العظمى (الخلافة).
كما أنّ الصلة بين علم الكلام وعلم التاريخ حاضرة في المفردات الأصولية عند أبي زيد، ونذكر منها للتنبيه وليس للحصر والشمول التالي:
1. عند حديث أبي زيد عن أخطاء المؤرّخين عند نقلهم للأخبار أنّهم لم يعرضوها على أصولها، ولم يقيسوها بأشباهها، ولا حتّى سبروها بمسبار الحكمة والعقل، ولذلك فنحن هنا أمام آلية أصولية كبرى وهي آلية القياس، ولا نكتفي بالقياس فقط وإنما كذلك نقوم بتفصيلها وتقسيم المسألة إلى أجزاء صغيرة يتم سبر كل جزء منها بدقة كبيرة.
2. غاية القياس الأصولي وثمرته هوالتمييز بين المتفق والمختلف وتعليلهما والغوص في أصول كل خبر وعرضه على القواعد والأصول، ولذلك فالشروط الواجب توافرها عند المجتهد في كتابة التاريخ هي نفسها المفروضة على المؤرّخ عند عرضه للأخبار.
ثالثاً: التاريخ البشري ومستقر العادة:
جمع ابن خلدون بين رأي ابن رشد أنّ لكل حادثة سبباً، ورأي الغزالي أنّ الأسباب تقع على مستقر العادة. بمعنى آخر أنّ لكل حادث سبباً، ولهذا السبب أسباب أخرى، وهكذا ترتقي تلك الأسباب لتصل لمرجعها وهو الخالق مسبب الأسباب وموجدها جميعها، وتفسيراً لهذا نقف على الأمثلة التالية:
1. العصبية موجودة وتتفاوت بين القوة والتأثير من جهة، وبين الظهور والضمور من جهة أخرى، ولذلك فهي قوة كامنة ليس لها أن تعمل بذاتها، وإنّما فاعلها الجماعة بذاتهم ومدبّرها وموجدها إرادة الخالق عزّ وجلّ. ولذلك نقول إنّ المُلك -كمثال- يحصل بالتغلّب، وإنّ التغلّب يحصل بالعصبية، وهكذا فالعصبية هي الدعامة الأساسية للحكم. والعصبية أو العصبة عند ابن خلدون ليست مطلق الجماعة، وإنّما هي رابطة الدم أو رابط الولاء بين مجموعة من الأفراد من أجل التفاعل الاجتماعي فيما بينهم، وتستمر وتتفرّع باستمرار حياة هؤلاء الأفراد وذريتهم، فينشأ منها تعصّب الفرد لأهل عصبته بحيث يشعر أنّه جزء لا يتجزّأ من الجماعة، فتذوب شخصيته في شخصية الجماعة، وهي القوة التي تمنح أولئك الأفراد القدرة على المطالبة والمواجهة.
2. الأثر الحاسم لقضية العصبية في مقدّمة ابن خلدون هو الفصل المعنون (الدعوة الدينية من غير عصبية لا تتم)، فكل أمر تجعل عليه الكافّة فلا بد له من العصبية.
وهكذا فمستقر العادة أن الله أجرى الأمور بحيث تصبح شيئاً نألفه، ويقبل المعرفة من خلال سنن الله التي أوجدها في هذا الكون، يقول تعالى: (سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً) (سورة الفتح: 23)، ويقول كذلك: (سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً) (سورة الإسراء: 77).
وفهم مستقر العادة في المقدّمة الخلدونية وقيام العلّة من جهة، وإرادة الله من جهة أخرى؛ جميعها تؤدّي إلى سبر أغوار طبائع الأشياء وخبايا التاريخ دون التعدّي على المشيئة الإلهية وسننه في هذا الكون. فالفهم يقتضي حضور العقل، والتعليل يستدعي الآلية الأصولية التي تكسب ذلك العقل المعنى والفكر، وهذا ما يحكم بنية الخطاب الخلدوني ويوجهه.