إيناس ناصر
مضى سيدنا إبراهيم عليه السلام أياماً عديدة وهو يبحث عن فتيل صغير يضيء له طريق الإيمان، ويرشده إلى الخالق الأعظم لكل ما حوله، في وقت انتشرت فيه عبادة الأوثان التي لا حول لها ولا قوة في نفع الناس أو ضرهم، ولم يستخدم سيدنا إبراهيم عليه السلام قلبه للوصول إلى ذلك بل استخدم عقله الذي أخبره بأنّه لا شمس ولا قمر ولا حجارة ولا غيرها تستحق العبادة سوى الله الذي ليس كمثله شيء، والمقال الذي بين يديّ للكاتب جمال رجب سيدني بعنوان "العقل والدين في النسق الكلامي" أوضح فكرة الصراع الفكري لكثير من المذاهب الكلامية التي باتت تبحث عن الله وتبحث عن حقيقته وفرائضه في مستويات عقولهم والنصوص الدينية التي بين أيديهم.
عزيزي القارئ إنّ مسألة البحث عن الله هي مسألة صحية تمامًا في الدين الإسلامي حتى وإن ولدنا عليه، فمن الجميل أن نعرف الله حق معرفته حتى نعبده بحب وإيمان بلا تبعية عمياء، ولا تقييد لحواسنا التي خلقها الله لنا حتى نصل إليه، وفعلا هذا ما ذكره الكاتب جمال في مقالته عن مكانة العقل في النظر الإسلامي حيث أكد أنّ المحافظة على العقل من الغايات العليا للشريعة الإسلامية التي تنبذ التقليد المعطل لوظيفة العقل ونبَّه إلى خطورة هذا الطريق "وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ" ونظرة حجة الإسلام الغزالي للعقل تختصر الكثير من الكلمات التي أراد البوح بها حينما قال "إنّ العقل أنموذج من نور الله".
لقد ذكرت آنفاً كلمة المذاهب الكلامية التي استَنكرتُ معناها في أول قراءة لي لمقال الكاتب جمال والتي ربما استنكرها بعض منكم، وما إن أكملت القراءة حتى اتضح لي معناها، فلقد ذكر الكاتب أنّ ابن خلدون عرف علم الكلام بأنّه علم يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية والرد على المبتدعين المنحرفين في الاعتقاد عن عقائد أهل السنة، حيث ظهر هذا العلم في مذاهب مختلفة، ومن هذا المنطلق ظهرت هناك مساحات واسعة تتعارك فيها الأفكار وتتصارع بين المذاهب المختلفة أو داخل المذهب الواحد في كثير من الأحيان، وكل ذلك لأجل الوصول إلى غاية برهنة صحة معتقداتهم من الشريعة.
وبمتابعة القراءة لمقال الكاتب جمال أحسست بالصراع الفكري بين المذاهب المختلفة في هذا الشأن، وكأنني بينهم في منتدى عالمي يسابق كل واحدٍ منهم الآخر لإثبات فكرته وتأييدها بالبراهين أو النصوص الدينية أحيانًا،وظللت أنا بين مؤيد ومعارض للأفكار التي عرضوها بتأملِ تطغى عليه صبغة العقلانية مسترجعة ما تختزنه ذاكرتي من نصوص قرآنية.
من هذا المنطلق أولت المذاهب الكلامية على اختلاف توجهاتها العقل مكانة مرموقة في المعرفة والتدليل على الأصول الاعتقادية حيث يرى التفتازاني أنّ أسباب العلم ثلاثة: الحواس السليمة، والخبر الصادق، والعقل، وأنا أتفق تماماً مع ذلك فبتفعيل حواسنا في التفكر والتأمل والتحليل لما جاء في القرآن والسنة أو لكل ما حولنا سيوصلنا حتماً إلى حقيقة قطعية في معرفة الله وعبادته حق العبادة.
وتعتبر الماتريدية أنّ العقل يدرك حسن بعض الأفعال وقبحها لا حسن وقبح جميع الأفعال وهي بالتالي تختلف عن المعتزلة التي ترى أن العقل مستقل بذاته بوجوب المعرفة في حين أن الماتريدية يقولون إنّ العقل آلة لوجوب المعرفة بعون الله وإن كانت معرفة الله واجبة بالعقل ففي الأمور التكليفية الأخرى لا يستقل العقل بنفسه بل بمعونة الشرع.
كما ذكر الكاتب في مقاله أن علماء الكلام لم يقتصروا على استخدام العقل في التحليل والتفسير للنصوص الدينية بل تعدوا ذلك إلى تبني علم قياس الغائب على الشاهد الذي جعلهم يسقطون في هوة كبيرة من الأخطاء لأخذهم مفهوم القياس بمعناه الأصلي وطبقوه في مواضع تخص صفات الله بنسبهم له صفات من صفات بني البشر، ولا أخفيكم أعزائي القراء أن ذلك أحزنني كثيرًا، أو ربما جعلني أشفق على أصحاب العقول الكبيرة للوقوع في هذه الشبهات، ومن الجميل أنني وبعض منكم لسنا الوحيدين الذين رفضوا هذا القياس فهناك العديد من المذاهب الكلامية التي تصدت له منها الإباضية التي اعتبرته قياساً قائماً على غير صحيح من العقل والشرع، ونور الدين السالمي نفى الأشباه عن الله سبحانه بقوله : "ليس له شبه ولا نظير"، وبرهن لنا ذلك بقوله : "لو أن للمولى عزّ وجلّ مشابها في ذاته لجاز عليه جميع ما يجوز عليه مشابهة".
ومع ذلك يختلف مذهب عن مذهب آخر في إقرار أصول المعرفة فالمعتزلة يقرون أصولهم بدلائل العقل ثم يقدمون النصوص تأييداً لها، وإذا تعارضت النصوص مع أصولهم أولوها لتتوافق معها بعكس الماتريدية والإباضية والأشاعرة، الذين يثبتون عقائد أهل السنة بالنصوص ثم يبرهنونها بالدلائل العقلية، وبذلك أنا أؤيد ما سار عليه كل من الماتريدية والإباضية والأشاعرة، فالقرآن الكريم نص ديني نزله الله المتصف بالكمال المنزه عن النقص، وبالتالي فإن الانطلاق منه إلى الاستنباط العقلي في تفسير ما ورد عنه سبحانه؛ سيؤدي إلى توازن الحياة البشرية في تطبيق الشريعة، بخلاف المعتزلة التي تنطلق من العقل البشري القاصر وغير المدرك للأمور الخفية، ونتيجة ذلك بالتأكيد ستكون اتِّباع المفكر هواه في قهر النصوص حتى تتواءم مع ما يريده عقله وما تشتهيه نفسه باستخدام التأويل اللامنطقي، ودون استناد إلى قوة معرفية سابقة للعقل، وهم بالتالي يكابرون بحجج واهية ليس لها من الصحة شيء.
وهكذا كان للعقل الدور الكبير في اكتشاف الطريق إلى الله سبحانه وتعقل ما فرضه علينا في نصوصه الشرعية دون متاهات الآخرين ومغالطاتهم.
