سُنَّة الله في أهل الذمة

أيمن البيماني

يبحثُ الكاتب هشام قريسة في مقاله "الحقوق المدنية للذميين من أهل الكتاب من خلال الفقه الإسلامي" حول الحقوق المدنية الأساسية والضرورية التي توفرها العقيدة الإسلامية وبلاد المسلمين للذميين الذي يستظلون تحت ظلها وحمايتها ورعايتها، وبحث أفضل سُبُل التعايش والتآلف بينهم.

جاء الإسلام ديناً سمحاً مُنصفاً لإنسانية الإنسان الذي كرمه الله -سبحانه وتعالى- وفضله على سائر المخلوقات، وهو تأكيد صريح لعالمية هذا الدين. وبما أنَّه رسالة عالمية فلا يمكن أن يحاكم ويقاضي ويبيد من لم يتبع هذه الملة، وإنما يهدي الناس للصراط المستقيم، وينصف المسلم وغير المسلم وفقاً لقواعد شرعية ودنيوية نابعة من عالميته وسماحته، فضَمَنَ حقوق المسلمين وغير المسلمين للحد الذي يُوفِّر لهم العيش الرغد والحياة الكريمة، بلا ذل ولا هوان أو ضعف وانكسار، وفي هذه المقالة نذكر للتحديد وليس للحصر الحقوق المدنية -بخلاف الدينية- كالحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية والتي أوجدها دين الفطرة العالمية للذميين من أهل الكتاب، وهم اليهود والنصارى الذين يعيشون في بلاد الإسلام والمسلمين. لذلك وجب على المسلمين إجابة الذمي عند طلب عقد الأمان وعدم نقضه بأي شكل من الأشكال، كما أن نقض الذمي للعقد لا يشمل باقي الأطراف بالجرم كالزوجة والأولاد لقوله تعالى: "وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى" (الزمر:7).

وكقاعدة عامة فأهل الذمة كالمسلمين لهم ما للمسلمين من حقوق، وعليهم ما على المسلمين من واجبات، باستثناء بعض الجوانب التي تشترط وجود العقيدة الإسلامية؛ فالزكاة تجب على المسلم فقط، بينما الذمي تجب عليه الجزية دونما المسلم.

1- الحقوق السياسية:

من منظور إسلامي، فإن الحقوق السياسية أقرب إلى أن تكون واجباً للدولة اتجاه الفرد أكثر منها حقوقاً وجب عليها توفيرها له، والحقوق عندما لا توجد فإنها تنتزع ولا تُطلب.

أ- حق العمل: أوجد الإسلام وظائفاً عديدة للذمي يمكنه شغلها كالتخطيط والعمران والتعليم والكتابة؛ فقال المؤرخ الغربي "آدم متز": "من الأمور التي نُعجب بها كثرة عدد العمال والمتصرفين غير المسلمين في الدولة الإسلامية". ولكن قد يتم منع الذمي من شغل بعض الوظائف التي تتطلب وجود المسلم فيها كالخلافة والإمارة على الجهاد.

ب- الحرية الشخصية في الإقامة والتنقل والمسكن: تمتد حرية الفرد سواءً كان مسلماً أو غيره إلى الحد الذي تبدأ عنده حرية الآخرين، ولا يجوز التعدي على حرية الذمي إلا بجرم أدانه القانون، ويمنع منعاً باتاً الاعتداء عليه في دار عبادته أو قتله في صومعته لقوله تعالى: "وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ الناسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لهُدمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا" (الحج:40).

وللذميين مُطلق الحرية في التنقل في بلاد المسلمين ما عدا دخول الحرم أو بيوت الله التي نجد أمامها لافتات تحذيرية مفادها: "يمنع الدخول لغير المسلمين". وإن كان التسامح الإسلامي حالياً قد بلغ أوجهاً أكبر من هذه النظرة الضيقة بسبب رغبة ولهفة بعض الأجانب في دخول المساجد الإسلامية ذات النقوشات والبناء الفاخر والتصاميم الجاذبة للنظر؛ لذلك ظهر حديثاً ما يسمى بالسياحة الدينية. ومن حيث المسكن فلا يجوز التعدي على حرمة مسكن ذمي إلا بإذنه؛ لأنَّ ذلك يُعدُّ تعديا على حريته الشخصية. كذلك لهم الحق في استخدام مرافق الدولة العامة كالمواصلات ومياه الشرب، وإن ضعف أو عجز أحدهم فإن الإسلام أوجد لهم حقاً في الانتفاع من بيت مال المسلمين.

 

2- الحقوق الاجتماعية:

تنشأ هذه الحقوق بسبب طبيعة العلاقات والتعاملات بين الأفراد داخل المجتمع وعلاقتهم واحتكاكهم ببعضهم البعض.. ونذكر منها:

- حقُّ الحياة الزوجية والاجتماعية: لا يتدخل الإسلام في حقوق الزواج والطلاق بين أهل الذمة، بل يمنحهم الحرية حسب ما جرت عليه عاداتهم الدينية، إلا إذا حدث الزواج بين مسلم وذمية أو ذمي ومسلمة، وإن استشاروا مسلماً في أمرهم فله الحرية في توجيههم للراهب أو أن يحكم بينهم بالقسط كما أمره الله تعالى في كتابه العزيز: "فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُروكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِن اللهَ يُحِب الْمُقْسِطِينَ" (المائدة:42)، كما وجب إلقاء السلام عليهم ورد التحية عليهم لقوله تعالى: "وَإِذَا حُيِيتُم بِتَحِيَةٍ فَحَيُوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُوهَا" (النساء:86).

- التهنئة والعيادة، التعزية والجنازة: ليس هناك حرج في التهنئة في أمور الحياة اليومية كالزواج والولادة، إلا أن تكون شعائرهم تتعارض مع ملة الإسلام كأعيادهم المختصة بهم، وتجوز عيادتهم اقتداءً بالرسول الذي عاد جاره اليهودي أثناء مرضه. ولم يرد شيء عن السلف الصالح حول التعزية، ولكن لا حرج في ذلك أيضاً، ويمكن للمسلم حضور جنائزهم إذا كان ذا قرابة مع المتوفي.

- طلب العلم: طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، ولكن يمنع المسلم من أخذ علومهم الدينية التي يجب أخذها من المسلمين، ويباح له أن يأخذ من علومهم الدنيوية كالصناعة والتخطيط...وغيرها، وإنني شخصيًّا لأؤكد هنا على ضرورة الاستفادة من علومهم إذا برعوا فيها وتمكنوا منها كما يحدث للعالم الغربي الآن، فباب المعرفة مفتوح للجميع والحضارة الإنسانية لا تتوقف على ديانة أو مذهب أو عرق.

كذلك -وبديهياً ومن المسلم به- عدم الامتناع عن بر الوالدين، ولو كان أحدهما ذميًّا؛ فتوجيه الخالق للإنسان للعناية بوالديه والبر بهما جاءت مطلقة، ولم تقتصر على المسلمين فقط. يقول تعالى: "وَقَضَى رَبُكَ أَلَا تَعْبُدُوا إِلَا إِيَاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا" (الإسراء: 23). أما من حيث ذبائح أهل الكتاب، فيمكن للمسلم أن يأكل من ذبائح أهل الكتاب التي ذكر اسم الله عليها ولم يذكر عليها المسيح.

 

3- المعاملات والحقوق المالية:

يجوز للمسلم مشاركة الذمي في المشاريع والبيع والشراء ما لم يعترِ هذه المعاملات نوع من الربا المحرم في الإسلام. أما من حيث العمل فهو حق للإنسان وفي أي مكان من أجل كسب لقمة العيش الطيبة، ولم يأتِ الإسلام معارضاً لبحث المسلم عن قوت يومه من خلال عمله مع أهل الذمة، ولكنه شدد على أنْ لا يتعارض العمل مع شرع الله مثل بناء الكنائس وبيع لحوم الخنزير من ناحية، وعدم الخدمة لديهم لما فيه نوع من الإذلال للمسلم من ناحية أخرى؛ لذلك فهو إجازة للعمل لا إجازة للخدمة.

وفي الميراث، اختلف العلماء حول الحقوق بين المسلم وأهل الملل الأخرى؛ فبعضهم أيَّد، وعارض بعضهم الآخر.. وشخصيًّا أرى من الإجحاف وعدم الإنصاف -كمثال- أنْ لا يرث الابن المسلم من والده الذمي، أو الزوجة من زوجها!

كما يخضع الذميون للضريبة التجارية وخراج الأرض حالهم من حال المسلمين، ففيما يدفع المسلم زكاة ماله فإن الذمي يلزم بدفع الضريبة للدولة. وفي المجتمعات المعاصرة أصبحت الضريبة واجبة على الجميع؛ وذلك نظير ما توفره الدولة للمسلم والذمي وغيرهما من خدمات ومرافق عامة، وإن لم توجد الضريبة بمعناها الحقيقي فهي تؤخذ على شكل مبالغ مالية عند إتمام أي إجراء أو معاملة داخل الدولة؛ فالجميع سواسية تحت راية دولة الإسلام ولا مجال للتفرقة إلا في بعض الاستثناءات الشرعية، وهذا ما يليق بدين الفطرة العالمية والرسالة السماوية.

أخبار ذات صلة