الطريق الثالث: أناشيد الحرية الجديدة

عبدالله الجهوري

بعد أن تخلَّص العربُ -جزئيًّا- من الاستعمار، وبدأ كلُّ فريق منهم يُعدُّ العدة للهجرة من الخيمة إلى الوطن، شدوا الرحال إلى المدنية الحديثة، ترافقهم ترانيم الحرية والأمل بمستقبل أفضل مما خلَّفه أجدادهم. لكنهم اصطدموا بتجارب لم تكن مثالية، أو على الأقل لا يمكن الجزم بأنها الطريق الأنجع لتطبيقها على المنظومة الاجتماعية العربية؛ لذا انطلق المنظِّرون العرب والدارسون يتتبَّعون هذا التطور بالدراسة والتحليل؛ علَّهم يستدركون بذلك شيئا مما فاتهم منذ رحيل ابن خلدون إلى يومنا هذا. ومن بين هذه الدراسات التي سعت جهدها للبحث عن النظرية الأنسب والأقدر على إدارة التجربة الاجتماعية العربية المتوشحة بتجارب ديمقراطية خجولة: دراسة "المجتمع المدني.. جدل الحرية والتنوع والاستبداد في النظريات السياسية"، لصاحبها مُحمَّد عثمان الخشت، وهو أكاديمي وباحث من جمهورية مصر العربية. حيث سنتناولها بشيء من التفصيل.

والدراسة من عنوانها لا تَعِد بالكثير، وإنما تقدِّم قراءة موجزة لتطور المجتمع المدني عبر النظريات السياسية المتعددة؛ فيبدأ الخشت مقاله باستنكاره تركيز كتب الفكر السياسي على مفهوم الدولة، في حين يرى أنَّ مفهوم المجتمع المدني أولى بالاهتمام والمناقشة، لكنه يعود سريعا ليبرِّر توجه الدارسين هذا بعدم وجود مفهوم مُحدَّد وبدقة للمجتمع المدني.. مشيرا إلى ربط بعضهم لهذا المفهوم برؤية شمولية "مستبدة"، بينما يربطه آخرون برؤية ليبرالية عائمة بلا "ضفاف". وعليه؛ سيسعى الخشت للكشف عن هذه المغالطات؛ ليؤكد أثر الأيديولوجية المنحازة التي تحكم كثيرا من المفكرين السياسيين وتوجه مفهوم المجتمع المدني.

 

إنَّ التطرفَ -بكل أنواعه- سبب الفشل في المنظومة السياسية في نظر الكاتب؛ فالهيمنة المطلقة للدولة ثبت فشلها، كما "سيثبت" تلاشي السلطة وانعدامها فشله أيضا؛ لذا فالحلُّ يكمن في الشراكة بين الدولة والمجتمع المدني والقطاع الخاص؛ بحيث تكون هذه الشراكة للتنوع والتكامل، للجميع المؤتلف لا للواحد المطلق. شراكة توزع فيها السلطة وتقتسم الصلاحيات والمسؤوليات.

وعن ظهور مصطلح "المجتمع المدني"، يبيِّن الكاتب أنَّ المصطلح نشأ في العصر الحديث، في نسخته الغربية؛ للدلالة على منطقة تتوسط المسافة بين الأسرة والدولة، وأن المجتمع يتشكل بناءً على العقد الاجتماعي. وبما أنَّ الكاتب تطرق للعقد الاجتماعي، فلابد أن يعرج على جون لوك للحديث عن نظريته السياسية. حيث تبنى جون لوك ثلاثة حقوق للفرد؛ هي: الحق في الحياة، والحق في الحرية، والحق في الملكية الشخصية، وهي حقوق لا تعد موضعا للتفاوض أو حتى المناقشة. وتنصُّ نظرية العقد الاجتماعي على طبيعة العلاقة بين السلطة والأفراد؛ فصاحب السلطة يستمد شرعيته من تفويض الأفراد، بينما يتنازل الأفراد عن جزء من حرياتهم من أجل حفظ الأمن وتحقيق المصالح العامة المشتركة. إنَّ فكرة العقد الاجتماعي -بحسب الخشت- جاءتْ لما يُسمَّى بالحق الإلهي للحكام والملوك؛ لأنَّ الله خلق الناس سواسية. وكانت الفكرة إيجاد حل ثالث بين الفوضى والاستبداد.. "إنه الحكم الدستوري الذي يمنع الفوضى والاستبداد معا". ثمَّ يتطرق الكاتب إلى توماس جيفرسون الذي استلهم أفكار لوك؛ مما كان له الأثر في إدراج هذه الأفكار في "إعلان الاستقلال" الأمريكي عن التاج البريطاني.

وبعد أن يفرغ من جون لوك، ينتقل الكاتب إلى التنويري الأسكتلندي آدم فيرجسون، الذي يراه صاحب الفضل الأكبر في انتشار اصطلاح "المجتمع المدني". وقد قسَّم فيرجسون مراحل التطور الثقافي الاجتماعي إلى ثلاث مراحل: يتصرف الإنسان في الأولى تحت تأثير الغريزة "الوحشية"، أما في المرحلة الثانية فيتصرف الفرد فيها وفق مبدأ المصلحة الذاتية، وفي الثالثة ظهر المجتمع المدني، وهي المرحلة التي تظهر المجتمع المتمدين. ويجزم الكاتب اطلاع كانط وهيجل على كتاب فيرجسون، كما يجزم أيضا بدور هيجل المحوري في "بلورة مفهوم المجتمع المدني فلسفيا"؛ حيث ميَّزه عن باقي المفاهيم الأخرى، متأثرا بالواقع السياسي الاجتماعي الذي كانت تعيشه أوروبا. ويرى الخشت أنَّ المجتمع المدني عند هيجل يقوم على مبدأين مهمين؛ الأول: الذاتية الأنانية؛ حيث تصبح الذات هدف الفرد الأول، خاضعة لرغباته، مستسلمة لحاجياته الخاصة. والمبدأ الثاني: التبادلية؛ حيث تتقاطع الذاتية الفردية مع ذوات الآخرين، كما لا تشبع حاجات الفرد إلا بالتكامل مع الآخرين. وعليه، يكون المجتمع وسيلة لتحقيق الذات الفردية، والمجتمع المدني ما هو إلا وسيلة لابد منها لتحقيق الرغبات الفردية. ولعلاج هذا التشظي في التركيبة الاجتماعية كان الزواج والنقابات المنقذين والمخلصين للفرد من بؤسه. وهذا المجتمع المدني يمر بثلاث لحظات كما يسرد لنا الخشت:

1- "لحظة.. منظومة الحاجات"؛ حيث يسعى الإنسان لتلبية حاجاته الذاتية، وفي سبيل تحصيل هذه الحاجات يحقق حاجات غيره.

2- لحظة تحقيق العدالة القانونية.

3- لحظة رعاية وضمان أمن ورفاهية أفراد المجتمع المدني.

وبعد ذلك، يعرِّج الخشت على التصور الليبرالي؛ فيعرِّف الليبرالية بأنها مذهب "رأسمالي" ينادي بالحرية ويؤمن بالتعددية. ويأخذ الفرد في التصور الليبرالي دور المركز أو القطب في الاهتمام والرعاية. وفي ختام تطوافه، يقدِّم لنا الكاتب ما يسمى بـ"الطريق الثالث". والطريق الثالث -كما شاع عنه- عنوان لكتاب ألفه الفيلسوف وعالم الاجتماع أنتوني غدنز، وسمه في عنوان فرعي: تجديد الديمقراطية الاجتماعية، وكأنه يقدم حلًّا -طريقا وسطا- بعد فشل الرأسمالية والشيوعية معا. الخشت تتبع مصطلح الطريق الثالث فيعرفه -مقتبسا من غدنز- بأنه نهج جديد يُشير إلى الإطار المرجعي للتفكير، وصناعة السياسات التي تهدف لمواءمة الديمقراطية الاجتماعية مع المتغيرات العصرية. ويذكر الكاتب أنَّ المصطلح نشأ عشية انتهاء الحرب العالمية الثانية، لكن الإعلان عنه صراحة تأخر حتى العام 1951م. كما يذكر الكاتب اهتمام توني بلير وبيل كلينتون بالطريق الثالث، وقد فات على الخشت أن يذكر منزلة غدنز عند بلير باعتباره مرشده الأيديولوجي كما تشير المصادر الصحفية.

والطريق الثالث يهدف إلى تجاوز التجارب الديمقراطية ما قبل الحرب العالمية، مقدِّما "المركب الذي يتجاوز القضية ونقيضها" (الكاتب نقلا عن هيجل). حيث تقوم فلسفة الطريق الثالث على التعاون بين الحكومة والمجتمع المدني، هذا التعاون يتبادل فيه الفريقان الرقابة، وأن لكل فرد حقوقا مكفولة وواجبات مفروضة عليه يجب أن يؤديها في سبيل الوصول إلى عيش مشترك. فالدولة مسؤولة عن التوزيع العادل للثروة، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وتنمية المؤسسات الصغيرة وحماية الأفراد من الصراعات، كما على الفرد أن يتحمل مسؤوليته الاجتماعية تجاه مجتمعه. والحقُّ أنَّ هذا المبدأ يمثل أسمى ما في النفعية البراجماتية من قيم مبنية على المصلحة المشتركة في رأيي. ورغم أن الطريق الثالث واجه انتقادا من بعض المنظرين والنقاد، غير أنه بدا -ولفترة طويلة من الزمن- الوسيلة الأنجع لتجاوز أزمة الفردانية والمصالح الذاتية لضمان عيش مشترك للجميع. وللمزيد حول هذه القضية، أنصح القارئ العزيز بأن يطلع على كتاب غدنز الموسوم "الطريق الثالث" الذي ترجمه محمد محيي الدين وأحمد زايد لصالح، مشروع مكتبة الأسرة في جمهورية مصر العربية.

أخبار ذات صلة