الدين كفاعل إيجابي في التنمية.. (المغرب نموذجا)

داود سليمان

يُمثِّل الإسلام -بتعبير أركون- الرأسمال الثقافي أو الروحي والرمزي الأعلى للمجتمعات العربية والمسلمة؛ فهو يحتلُّ مكانة متميزة ومحورية من حيث قوة ونظام مشكل لنسق القيم والسلوك لدى أفراد هذه المجتمعات؛ لذلك كان من الأهمية بمكان عدم إهماله أو تجاهله وتجاوزه، بل إشراكه في عملية الدمقرطة والتنمية المجتمعية، تماشيا ومواكبة مع النقلات والتطورات الكبرى التي شملت مختلف المستويات الحقوقية والسياسية والثقافية والاجتماعية، والتي تفرض على هذه المجتمعات العمل على إيجاد خطة متكاملة نحو التفاعل والمواءمة مع مفهوم الدولة المدنية الحديثة، التي تضمن حقوق الناس وتحفظ كرامتهم وتحقِّق قدرا كافيا من العيش الكريم والعدالة الاجتماعية؛ فالفشل في هذا يعني صعودَ الخطابات الأصولية وازدهار الحركات السلفية المتشددة، وارتماء شريحة واسعة من الفئات المهمشة والمسحوقة إلى هذه الجماعات.. نُناقش في ضوء هذا تجربة المغرب في معالجة هذه المشكلة؛ من خلال مقال سابق لحسن لشقر معنون بـ"تدبير الشأن الديني في المغرب".

 

شهد المغرب اختلالات كبرى على مستوى نسيجه الاجتماعي، أدت لبروز خطاب ثقافي متطرف؛ حيث قفزتْ إلى الواجهة بقوة ظاهرة الإسلام الراديكالي، الذي رافقته موجات من التعصب والعنف المادي والرمزي وصلت أقصى تمظهراتها في تفجيرات الدار البيضاء؛ لذلك اتجهت الحكومة المغربية إلى وضع خطة لتدبير الشأن الديني في سبيل إنتاج ثقافة دينية معاصرة، تساهم وتكون رافدا أساسيا في عملية التنمية المنشودة. ومن هنا، كانت الحاجة إلى تأهيل الشأن الديني؛ فلا مناص عن البدأ في تأسيس فكر نقدي حقيقي لإنتاج مناعة ثقافية، تقي المجتمع من ردود فعل متطرفة تشوه القيم والمبادئ الإسلامية السمحاء. تروم الخطة التي اعتمدتها وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في المغرب إلى تهيئة مندمجة وفعالة للشأن الديني في أفق العودة بالمرجع الديني إلى الواجهة في التعبير عن آراء في الشأن الفردي والعام، وتقديم صورة الإسلام المتسامح مع الذات والآخر، والمنفتح على العصر ومستجداته؛ من أجل ترسيخ البناء الروحي السليم المنسجم مع التوجهات العامة لسياسة الدولة. ولأجل تأهيل الشأن الديني وعقلنته في المغرب كي يحقق غايته وتكون نتائجه أثمر وأطيب وأنضج؛ كان لزاما أن يكون متزامنا ومقرونا بترتيبات وشروط تساعد على ضخ قيم التسامح والتأزر والتعايش في شرايين المجتمع، كما أنها تدعم تحقيق تنمية مستدامة شاملة. يذكر حسن لشقر هذه العوامل: كتجديد الثقافة الدينية التقليدية، وتجديد البرامج العلمية، وإشاعة ثقافة الديمقراطية، وتحسين الشروط الاقتصادية والاجتماعية للمواطن.. وسنناقش كلًّا منها على حدة.

 

1- تجديد الثقافة الدينية مدخل مهم من مداخل التنمية البشرية:

يُقصد بها أنْ تكون الثقافة الدينية منسجمة مع التحولات الكونية العظيمة التي تعصف بالعالم اليوم، وليست عاملَ كبح لها. وهذا يتم كما يقترح لشقر من خلال قراءة الفكري الديني قراءة فاحصة، وتأويله تأويلا صحيحا بما يفيد ويسهم في انتشار قيم وأفكار العقل والحرية والتقدم، وتحرير الخطاب الثقافي ككل من الخطاب الديني الماضوي في شكله المتطرف من بعض جوانبه، وتجاوز ما علق فيه من شوائب وممارسات خاطئة؛ في سبيل تحقيق تنميتنا الإنسانية وإيجاد الخطاب الثقافي القائم على الحوار والرحمة الذي يحكمه العقل والمنطق. وحتى يتحَّق هذا التحول، لابد من إعادة الاعتبار لمؤسسات المعرفة؛ من خلال أن يُؤسَّس لها مكان في المؤسسة التربوية: البيت، والكتاب، والمدرسة؛ لإشاعة قيم التسامح واحترام الثقافات المختلفة والقبول بالآخر المختلف دينيا وعرقيا؛ فالفضاءات التربوية تقوم بتأثيث ما هو جميل؛ وذلك بعنايتها بالموسيقى والمسرح والتشكيل والشعر كآليات للتعبير عن المحبة وترسيخ قيم المواطنة. كما أنَّ العمل على تجديد البرامج التعليمية وتشجيع الفكر العلمي والنقدي والتاريخي والفلسفي، وتطهير هذه البرامج من كل ما من شأنه أن يُسهم في انتشار أفكار التطرف والتعصب. من هنا تأتي أهمية الاعتناء بالمؤسسة التربوية في تنشئة الفرد على قيم المحبة والقبول بالآخر، وهذا الشرط حتى يتحقق لابد من إشاعة الديمقراطية والقبول بالآخر.

 

2- إشاعة ثقافة الديمقراطية والقبول بلغة الاختلاف في خطاب الدولة:

هذا يعني قبول الدولة بخطاب الآخر -قوى المجتمع من أحزاب وجماعات معارضة- المختلف معها في نهجها السياسي وبرنامجها العملي، بالتعاطي معها بمنطق المصلحة العامة والمصير المشترك. إنَّ تكريس ثقافة الديمقراطية من شأنه أن ينمي ويرسخ قيم التعايش ويضمن الأمن للبلاد ويحصن وحدتها بالتركيز على ثقافة التنمية المجتمعية والتربية على المواطنة. وينبغي أن يوازي هذا الشرطَ شرطٌ ثالثٌ حاسمٌ وفعَّال؛ وهو:

 

3- تحسين الشروط الاقتصادية والاجتماعية:

يرى حسن لشقر -كما يرى ذلك كثيرون أيضا- أنَّ الحركات الأصولية تزدهر في الحواضن الشعبية المهمشة من قبل الدولة الأكثر فقرا والأقل حظا من التنمية؛ من هنا تأتي أهمية تحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعي، كما تفرض ذلك التطلعات المجتمعية التي تقتضي دعم دولة الحق والقانون ومواجهة تحديات العولمة الكاسحة بشتى أصنافها ومتطلبات التنمية المستدامة من محاربة البطالة والفقر والأمية وتبذير المال العام والرشوة والمحسوبية. وإيقاف نزيف هجرة الأدمغة والأموال إلى بلدان أوروبا وأمريكا، هذا إضافة إلى ضرورة الإصلاح القضائي والإداري وحسن تدبير المجال.

ويُؤكِّد حسن لشقر -في ختام بحثة- أنَّنا لا نستطيع أن نستمر في تعاملنا مع قضايا مجتمعنا والعصر الذي نعيشه بكل متغيراته بالعقلية الدينية التقليدية ذاتها، التي لا تواكب التطورات الراهنة. وبناء عليه، نحن بحاجة إلى تأهيل الشأن الديني ليكون في مستوى التطورات والتحديات الراهنة ضمن إطار فكر نقدي حقيقي يشمل كل المكونات الثقافية والسياسية والاجتماعية، وبالأخص الفكر الديني في جانبه المتخلف، إلى إنتاج ثقافة دينية متجددة تستنتير بقيم التسامح والتآزر والتعايش؛ بحيث تخرج المجتمع من حالته التى حاول بعضهم حبسه فيها، إلى تلك الرحابة اللامتناهية التي يطلقها ديننا الحنيف للعقل والتفكير والإبداع.

أخبار ذات صلة