أوقافنا باتت مسكونة بالأشباح

إيناس ناصر

مَشْهد جميل من التكافل والتعاون اللا محدود في كل بقعة من أراضي الأمة الإسلامية؛ فمرافقها الموقوفة من قبل مُحبِّي الخير في تلك الدول تأبى إلا أن تحتوي الضعيف والفقير وعابر السبيل؛ لتتحدث بشموخها عن شهامة الإسلام والمسلمين دون مقابل، وبلا عنصرية حتى وإن كانت في الديانات؛ فالأوقاف في تلك الحقب متعددة الأصناف ولأطياف مختلفة لا حصر لها، ولكن كل ذلك كان "كان يا ما كان في قديم الزمان"، ولكن ماذا عن زماننا هذا؟

في الحقيقة.. لقد شدَّني ما كتبه الكاتب محمد مرسي محمد في مقاله "الوثائق الوقفية ودورها في إثراء تاريخ الحضارة الإسلامية"، وهو يعرض من خلاله لحقائق رائعة باتت مُغيَّبة عن ماهية الأوقاف الفعلية في التاريخ الإسلامي عبر العصور المختلفة ومساهمتها فعليًّا في تتبع تلك الحضارات ومعرفة تفاصيلها من خلال هذه الأوقاف.. فيا تُرى، ما معنى الأوقاف كما صوَّرها السابقون؟

لقد أعجبني رد ابن حزم على القائلين بأنَّ الوقف هو الحُبس؛ أي إخراج الأموال من ملك الواقف إلى غير مالك، ويقول لهم: إنَّ الحبس ليس إخراجا إلى غير مالك، وإنما إلى أجل المالكين وهو الله سبحانه وتعالى، وهنا إشارة أخرى لعظمة الإسلام في تشريعاته وأخلاقه؛ فالمالك الحقيقي لهذه الأموال هو الله سبحانه، وللإنسان ملكية المنفعة التي تُطلق حوافز إبداعه في التنمية والاستثمار وفق عهد الاستخلاف وإعمار هذه الأرض.

أمَّا عن وثائق الوقف، فلقد ذَكَر مُحمَّد مرسي في بحثه أنها عبارة عن صكوك شرعية تسجل في المحاكم، ويشهد عليها الشهود، وتتضمَّن أن فلانا قد وقف مجموعة الكتب أو أيًّا كانت طبيعة الموقوف في دار مستقلة أو مدرسة أو مسجد أو رباط، وتحمل مجموعة من الشروط التي يجب أن تتبع في إدارة الوقف ويشير الواقع إلى أنَّ أقدم وثيقة وقفية في الإسلام هي وثيقة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه.

ولكي نتعرَّف أكثر على ما تحتويه هذه الوثائق، سوف أعرض لكم نصها كاملا فيما يلي: "هَذَا مَا أَوْصَى بِهِ عَبْدُ اللَّهِ عُمَرُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ حَدَثَ بِهِ حَدَثٌ أَنَّ ثَمْغًا وَصِرْمَةَ بْنَ الأَكْوَعِ وَالْعَبْدَ الَّذِي فِيهِ وَالْمِائَةَ سَهْمٍ الَّتِي بِخَيْبَرَ وَرَقِيقَهُ الَّذِي فِيهِ وَالْمِائَةَ الَّتِي أَطْعَمَهُ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم بِالْوَادِي تَلِيهِ حَفْصَةُ مَا عَاشَتْ ثُمَّ يَلِيهِ ذُو الرَّأْىِ مِنْ أَهْلِهَا أَنْ لاَ يُبَاعَ وَلاَ يُشْتَرَى يُنْفِقُهُ حَيْثُ رَأَى مِنَ السَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ وَذِي الْقُرْبَى وَلاَ حَرَجَ عَلَى مَنْ وَلِيَهُ إِنْ أَكَلَ أَوْ آكَلَ أَوِ اشْتَرَى رَقِيقًا مِنْهُ".

وبذلك استطاعت الوثائق الوقفية بالتفاصيل التي حوتها أن تثبت أنها مرجع مميز يقدم دلالات تاريخية واجتماعية واقتصادية؛ فلقد سهَّلت لعلماء التاريخ الإسلامي التعرف على المعالم العمرانية، والأراضي الزراعية وأصحاب المناصب، وأماكن الأوقاف، والعملات، ورواتب الموظفين، وطبيعة المستفيدين من الوقف، وأسماء المواقع العمرانية والأسواق والعائلات والقرى في الفترة التي كتب فيها. أما عن الوثائق المنقوشة على الجدران، فلقد كانت مرجعا جماليا وفنيا يصلح أن يكون مادة ثرية لدى المهندسين والخطاطين والمعماريين.

وأتفق تماما مع الكاتب حول أن هذه الوثائق تراث وطني لا يُقدَّر بثمن، ومصدر لا غنى عنه في فتح أفق جديد للتاريخ الاقتصادي إلى عصور لا نعرف عنها الشيء الكثير؛ حيث إنَّها أزاحت الصورة الضبابية عن ملامح تلك الحقب، وأعطت تصورا كاملا لا يمكن الطعن في صحته أبدا.

كم كنت أتساءل دائما: كيف لهؤلاء الرحالة القدماء أن يسيروا الأيام والليالي والأشهر وهم يجوبون البلدان، ولا حول لهم ولا قوة من الزاد والملبس والمسكن؟! وكيف لهم بتوفير هذا كله في ذلك الزمن؟! ولكن ما ذكره الكاتب محمد في بحثه جعلني أتخيل عظمة المسلمين وهم في أوج شموخهم وعزتهم الإسلامية، وهم يتسارعون بسماحتهم ومحبتهم لنفع الآخرين بإنشاء الأوقاف في بقاع مختلفة من العالم الإسلامي آنذاك، فها هو ابن بطوطة الرحالة الشهير يؤكد أن الأخوة الإسلامية تمثلت في بناء الكثير من الزوايا والمدارس والأوقاف، وهذا ما سمح له بالقيام بأسفاره؛ حتى إنَّه أصبح موسرا من جرَّاء العطايا؛ فقد كان ينزل هو وصحبه في هذه الزوايا التي تؤمن لهم المأكل والمشرب والمنام وبعض التقديمات المالية عند السفر.

وفي الحقيقة، لم أكتفِ بهذه المعلومة التي أسعدتني كثيرا، فقد توجَّهت إلى الإنترنت لأقرأ المزيد في هذا، ومما قرأت أن ابن بطوطة تحدث كثيرا في رحلته بإعجاب وانبهار عن أوقاف دمشق، التي وصفها بأنها لا حصر لأنواعها ومصارفها لكثرتها؛ فمنها: أوقاف العاجزين عن الحج، ومنها أوقاف تجهيز البنات إلى أزواجهن وهن اللائي لا قدرة لأهلهن على تجهيزهن، ومنها لأبناء السبيل فمنها يأكلون ويتزودون إلى بلادهم، ومنها أوقاف لتعديل الطرق ورصفها...وغيرها الكثير.

والمتتبِّع لتاريخ هذه الأوقاف، يُلاحظ أنها أوقاف لا مركزية أنشأها أصحابها في أماكن مختلفة من العالم دون تعصب لديانة أو منطقة أو لطائفة، وهذا خير برهان على سماحة المسلمين، على عكس الثقافة الغربية تماما التي ترى أنَّ نشوء الحضارة ومراكز الثقافة لا بد أن تكون مركزية لشعبها دون غيرهم، وأن تكون غير متساوية مع الأطراف الأخرى، وإن حدث هذا التوازن فهذا إيذان بانتهاء الحضارة الغربية كما يتصورون.

وحتى يكون الباحث محمد مرسي مُنصفا، كان لابد من عرض صورة الأوقاف في وقتتا الراهن، وهذا ما قرأته فعلا ولمست فيه شيئا من الشفافية والواقعية التي قد تكون مؤسفة أحيانا ومحبطة في أحيان أخرى.

لقد وضع الباحث محمد مرسي يده على الجرح تماما حينما ذكر تقوقع الوقف على صنف واحد دون غيره في وقتنا الراهن؛ فلقد ارتبط ارتباطا كبيرا بالمسألة الدينية والتعبدية البحتة، فلم يعُد الوقف يعرف من خدمات إلا العمل على بناء المساجد رغم تعدد مجالاته كما ذكرنا آنفا، وهذا ما نلاحظه كثيرا في البلاد العربية؛ فلقد كثرت المساجد في زمن قل فيه المصلون.

ناهيك عن القيود غير المباشرة التي وضعتها الدول الحديثة على النظام الوقفي بحجة إصلاحه، إلا أنها بذلك جهزت حبل الإعدام لكل ملامح الوقف الأصيلة بسوء الجهاز الإداري الذي تدير تلك الأوقاف، ومع انتشار ما يُسمَّى بالتنظيمات الإرهابية التي شجعت عليها الثقافة الغربية، وصورت مراتعها على أنها مراكز إسلامية بحتة، زادت القيود صلابة ومتانة عن ذي قبل، تحسبا لظهور دواعش جُدد.

وكعادة الدول العربية في مسلسلها الممل من كومة التعقيدات الإدارية، وتحويلها العمل الخيري إلى مفهوم الجمعيات المؤسسة بقرار من الحكومات واعتمادها على تبرعات الأفراد، أدى إلى جعل هذا العمل الخيري رهينة لتلك الإدارات يمكن منعها ومصادرتها في أي لحظة، فإن وجد الوقف فرحمة الله على الخدمات الاقتصادية والاجتماعية المتذبذبة المقدمة له؛ فمن الطبيعي جدًّا أن ترى مدرسة قرآن مهجورة لسنوات طويلة وتسكنها الأشباح.

أخبار ذات صلة