البنية والأسس والفضيلة العقلية
روبيرت آودي
محمد الشيخ
هذا كتاب في مجال من مجالات الفلسفة شهد تطورا ملفتا في القرن العشرين ولا زال يشهد - هو مبحث "الإبستمولوجيا". وقد أتى على فلاسفة الغرب المعاصرين عهد حدث فيه الخلط بين "الإبستمولوجيا" و"فلسفة العلوم". لكن في الربع الأخير من القرن العشرين هذا الالتباس الذي لطالما حصل طيلة أزيد من نصف قرن أمسى سائرا في طريقه إلى الانجلاء. ذلك أن التقليد الفرنسي ـ الذي شهد على بعض كبار المفكرين الإبستمولوجيين، من أمثال باشلار وكافاييس وكانغليم وديزنتي وغيرهم كثير، لطالما ميز بين "فلسفة العلم" و"الإبستمولوجيا"، مائلا في غالب الأحوال إلى اعتبار "فلسفة العلم"، أولا، فلسفة تُعنى بالعلم، بل يكاد يفرض فيها الفيلسوف أنظاره على العلم فرضا، بينما "الإبستمولوجيا" بما هي "دراسة نقدية لمبادئ وفرضيات ونتائج العلم" ـ على حسب تعريف معجم لالاند الفلسفي الشهير ـ يفترض فيها أن تكون أنظارا تنبع من داخل الممارسة العلمية وليس من خارجها. وقد تشبث الكثير من أنصار هؤلاء الإبستمولوجيين الكبار بهذا التمييز، هذا بينما ما كان الفلاسفة الأنجلوسكسون غير ميالين إلى هذه التفرقة، بل كانت العبارة "فلسفة العلم" أنفق عندهم حتى للدلالة على ما عناه الفرنسيون بالإبستمولوجيا.
الآن صارت الأمور تتضح أكثر فأكثر، بحيث أمسى الميل ـ في الفلسفة الغربية المعاصرة لا سيما منها تقليدها الأنجلوسكسوني ـ إلى التمييز بين "الإبستمولوجيا" و"فلسفة العلم" على أساس أن الأولى تعنى بالمعرفة بعامة كما يدل على ذلك اسمهما ـ وكأنها اسم جديد لمبحث قديم هو "نظرية المعرفة" ـ بينما "فلسفة العلم" تعنى بالمعرفة العلمية بخاصة.
وهكذا، فإنّ "الإبستمولوجيا" بمعناها الجديد (مثلا اجتهادات روبيرت آودي Robert Audi ولورانس بونجور Laurence Bonjour)، صارت تفيد دلالة :"نظرية المعرفة والتسويغ" (روبرت آودي)، أو دلالة :"دراسة المعرفة: طبيعتها ومتطلباتها وحدودها" أو "الدراسة الفلسفية لطبيعة المعرفة وكيف تُكتسب وتُسوغ" (لورانس بونجور). وبهذا صارت القضايا الجديدة/القديمة التي يتداول فيها الإبستمولوجيون المعاصرون هي: الإدراك والاعتقاد والتسويغ، والمعرفة وتسويغها، والذاكرة والاستبطان والوعي بالذات، ومسألة الوعي، والعقل والتفكير العقلي، والشهادة، والمصادر الأساسية للاعتقاد والتسويغ والمعرفة، وأسس الاعتقاد، والنزوع الشكي في المعرفة..
هي ذي قضايا الإبستمولوجيا المعاصرة كما صارت متداولة. والحال أن النقاشات حولها دائرة ما بين: أ ـ التناظر حول ما إذا ما كانت المعرفة سياقية أو مقامية ـ تقوم على فكرة "السياق" أو "المقام" بحيث لا معرفة إلا وتتحد بسياق أو تنساق به، ومن ثم تكون نسبية ـ أم مطلقة في حل من كل سياق. ب ـ المناقشة حول النزوع الشكي في المعرفة: هل يمكن تفنيده أم لا يمكن فعل ذلك. ج ـ وهلَّا أمكن الحديث عن معرفة قبلية ـ سابقة عن كل تجربة ـ أم أن ذلك أمر محال؟ د ـ هل يمكن تسويغ الاعتقاد بالاتساق وحده؛ بمعنى أن يكون معيار صحة اعتقاد ما هو مدى اتساقه؟ والجواب بين نعم ولا. هـ ـ وهل تعليل أو تسويغ الاعتقاد يكون أمرا مباشرا أم غير مباشر؟ و ـ هل الحقيقة هي الغرض الأسمى الأول لكل معرفة أم لا ؟
وفي زمن الإبستمولوجيا المتجدد هذا حيث صرنا نسمع عن "ما بعد التجريبية" و"ما بعد الوضعية" و"ما بعد كواين"، كما أمسينا نسمع عن ضربين من الإبستمولوجيا: طبيعية Naturalistic epistemology ومعيارية Normativist epistemology إذ صارت الأولى ـ المنسوبة إلى الفيلسوف الأمريكي الكبير كواين (1902-2008) ـ ترى أنه ينبغي التخلي عن الإبستمولوجيا التقليدية والاستعاضة عنها بالدراسة النفسية للعلاقات السببية بين الإثارة الحسية والاعتقاد، مع استبعاد كل اعتبار قيمي أو معياري من هذا المجال استبعادا نهائيا. هذا مثلما ألفينا نجد أنفسنا أمام تيارات إبستمولوجية جديدة أو قديمة بمسميات جديدة، وذلك شأن التقابل بين "النزعة التأسيسية" Fondationalism و"النزعة الاتساقية" Coherentism: الأولى ترى أنّه ما من اعتقاد إلا وينبغي التأسيس له تأسيسًا؛ أي تسويغه وتبريره وتعليليه، بينما الثانية ترى في انسجام مجمل الاعتقادات معيارا كافيا لإثبات صحتها ومتانتها. كذلك هو التقابل الذي صار بين "الواقعية المباشرة" Direct Realism و"الواقعية التمثلية" Representative Realism؛ الأولى ترى أن موضوعات الإدراك الحسي المباشرة هي الموضوعات الفيزيائية كما يدركها الحس المشترك، بينما الثانية ترى ألا إدراك مباشر، كل إدراك موسط بحالات ذهنية أو كيانات تدعى "المعطيات الحسية". كما نجد التقابل قائما بين "النزعة الخارجية" Externalism و"النزعة الداخلية" Internalism؛ وذلك بحسبانه تقابلا بين من يقول إن معتقدا ما ليس ينبغي بالضرورة أن يكون موعى لصاحبه أو قابلا لكي يعي به، بينما يلح المذهب الثاني على شرط الوعي المعرفي هذا.
خذ بنا إلى أحد أحدث الكتب في هذا العلم الفلسفي الجديد ـ الإبستمولوجيا ـ وهو كتاب "الاعتقاد العاقل" لصاحبه الذي يعد أحد أكبر المفكرين الإبستمولوجيين والأخلاقيين الأمريكيين المعاصرين روبيرت آودي (1941-)، وذلك منذ صدور كتابه الأول الأساسي "الاعتقاد والتسويغ والمعرفة: مدخل إلى الإبستمولوجيا" (1988). علما أنه إذا ما نحن اعتبرنا هذا المؤلِّف، وهو مَن هو في الفلسفة الغربية المعاصرة، نجد أن لا مؤلَّف له مترجم إلى العربية.
والحال أن هذا الكتاب كتاب جامع، ذلك أنه جمع بين كل الأفكار والتصورات التي عَنَّتْ للفيلسوف على مدى ما يناهز ربع قرن من الزمن، منذ كتابه "بنية التسويغ" (1993). ما يختلف به هذا الكتاب عن سابقه هو: أولا؛ انفتاح بحوثه على حقول فلسفية مجاورة، شأن فلسفة الذهن وعلم النفس المعرفي. ثانيا، تركيزه على موضوع "الفضيلة العقلية"، وهو الموضوع الذي أمسى يحظى باهتمام متزايد منذ منتصف التسعينات من القرن الماضي. ثالثا، صلة الموضوعات المطروحة فيه بالنزعة الإرادية وبأخلاقيات الاعتقاد. وهكذا، فإن هذا الكتاب لا يتناول موضوعا مهما شأن "الاعتقاد" ـ أي اعتقاد الإنسان في أمر ما، ما دام الإنسان بالأساس "كائنا معتقدا" ـ من وجهة نظر معرفية ـ إبستمولوجية ـ محضة، وإنما يعطف على ذلك بتناوله من وجهة نظر علوم المعرفة ـ فلسفة الذهن ـ ومن وجهة نظر الأخلاق ـ أخلاقيات الاعتقاد. كما أنه يأخذ مأخذ الجد موضوع "الاعتقاد" و"القناعة" و"الإيمان" لما لهذه الأمور من شأن عظيم، وحتى خطير على حياة الإنسان، إذ يمكن للإنسان أن يقتل نفسه أو سواه من أجل اعتقاد ما، كما يمكنه أن يسجن نفسه أو غيره في قناعة معينة لا يعدوها أبد حياته ولا يترك من يعدوها. ولعلنا نتذكر بهذا الصدد العبارة المهيبة التي عادة ما كان يرددها الفيلسوف الألماني نيتشه: "عادة ما تكون القناعات سجونا".
وتبقى نظرية المؤلف الأساسية في "التسويغ" ـ أي "تسويغ" و"تبرير" و"تعليل" إنسان ما لما "يعتقد" فيه ـ وفي المعرفة ـ أي معرفتنا بالأشياء وبالأغيار وبأنفسنا ـ هي المسألة المركزية في الكتاب. وهي النظرية التي تميز في الأدوار الإبستمولوجية ما بين "العناصر الداخلية" التي تحدد اعتقادات الإنسان وقناعاته، و"العناصر الخارجية" المتمثلة في تجارب المرء والتي تبقى "مستقلة" ـ حسب تصور المؤلف ـ عن ذهن المعتقِد.
تبعا لهذا، ينقسم الكتاب إلى أربعة أقسام مفصلية:
- الاعتقاد: بنيته ومضمونه وعلاقته بالإرادة
- المعيارية والفضيلة في الإبستمولوجيا
- النزعة الإبستمولوجية الداخلية (الجوانية) وأسس التسويغ والمعرفة
- الإبستمولوجيا الاجتماعية
يركز القسم الأول من الكتاب على موضوع "الاعتقاد" ـ أي ما يعتقده الإنسان من اعتقادات أكانت فلسفية أم دينية أم اقتصادية أم اجتماعية أم ثقافية أم غيرها ـ ويربط ذلك بالعناصر التي يمكن أن تساهم بها فلسفة الذهن في تفسير معنى الاعتقاد وتوضيح انقداحه في الذهن وآليات اشتغاله. كما ينفتح على مجال علم النفس المعرفي ويستثمر نتائجه. ويفحص هذا القسم ما إذا كانت استجاباتنا للمعلومة التي نتلقاها ـ أو لقول ما أو إدراك شيء معين أو الشهادة على واقعة ما ـ تنتج عنها دوما اعتقادات. وهو قسم يفحص أيضا عن مدى سيطرتنا على اعتقاداتنا، ويفصل القول في العديد من الأشكال التي يتخذها الاعتقاد، كما يظهر كيف تربطنا بعض الاعتقادات بالعالم الخارجي وبعضها تفصلنا عنه.
ويعالج القسم الثاني المناحي المعيارية من الإبستمولوجيا، ويهتم بالطريقة التي تتخذ بها الفضيلة أشكالا فكرية أو عقلية. وهو قسم يهم المهتمين بالنظرية الأخلاقية. ويقدم ثلاثة مواقف متعالقة: موجز عن نظرية المؤلف في الإدراك الأخلاقي ـ وهو موضوع أمسى اليوم يعرف نقاشا أكثر في مجال الأخلاق، كما من لدن بعض الإبستمولوجيين ـ وتصور للفضيلة العقلية، وتمييز بين ضربين من المعيارية. ذلك أن مفهوم "المعيارية" مفهوم متقلب منفلت يتم تصوره بتصورات شتى، وتعد فصول هذا القسم محاولة للقبض على ما يحاول أن يفلت منه.
ومدار الفصول الواردة في القسم الثالث على توسيع فصول القسم السابق. وفيها تم توصيف أسس التسويغ والمعرفة، وبيان مدى بلوغها مرتبة الأمر البين بذاته. وقد تم في هذا القسم التمييز بين "التعقيل" و"التسويغ"، وكل واحد منهما تم توضيحه على ضوء الآخر، كما تم استكشاف الأهمية الإبستمولوجية للجوانب "الخصوصية" و"الداخلية" و"الجوانية" من حياة الإنسان الذهنية. وبالجملة، المسألة التي طرحت في هذا القسم هي: كيف تتأسس المعرفة وكيف ينبني التسويغ، وما إذا كان لهما نفس الأسس أم ما إذا كانت تبعيتنا في تجربة العالم تترك مجالا لمعرفة بعض الحقائق التي يمكن تبنيها في أي عالم ممكن وجدنا فيه أم تخيلنا وجوده.
والقسم الأخير منذور في مجمله إلى قضايا الإبستمولوجيا الاجتماعية، ولا سيما إلى الإبستمولوجيا بحسبانها تهتم بكيفية تناقل وتشاطر وتبادل المعتقدات والمعارف وتسويغاتها. ولهذا يعالج قضية "الشهادة" ـ ما رأته العين أو سمعته الأذن ـ باعتبار الشهادة أمرا جوهريا في المعرفة البشرية مباينا لمصدرين آخرين مهمين من مصادر المعرفة الإنسانية هما الإدراك والحدس. وقد امتد النقاش ليشمل مسألة ذات صلة هي مسألة كيف أن الحل العاقل ممكن للخلاف بين أطراف تشهد على رؤى متباينة. وقد تم تمييز مختلف أنماط الخلاف، كما تم وصف مختلف التحديات التي تطرحها الخلافات الشركاء، وذلك بمثلما تم التطرق بإيجاز إلى الطرق العاقلة في الاستجابة إلى هذه التحديات وفي الحفاظ على المعايير الفكرية العليا. ومن هنا عنوان الكتاب: الاعتقاد العاقل.
أخيرا، يوفر هذا الكتاب تصورات حول أمر "الاعتقاد" ـ وليس "المعتقَد" ـ و"المعرفة"، ويقدم نظرية عن كيف يتأسسان، ويربط تأسسهما بإرادة الفرد، ومن ثمة بالفعل وبالمسؤولية الأخلاقية وبالفضيلة الفكرية.
في بداية عصر الأنوار، طرح فيلسوف التسامح الفرنسي بيير بايل (1647-1706) إحراجا أخلاقيا يدخل في صميم ما صار يُتناول اليوم تحت مسمى "أخلاقيات الاعتقاد": إذا كان معتقدي يدعوني إلى قتل الغير من غير ما جناية جناها اللهم إلا اختلاف ما يعتقده عما أعتقد فيه، فهل أستجيب لما أعتقده؟ وكان جواب الفيلسوف بالسلب. ترى هل بقي مكان للتذكير بقول نيتشه: عادة ما تكون القناعات سجونا؟ إذا أراد القارئ ألا يقع في سجن القناعات وآسار المعتقدات أنصحه بقراءة هذا الكتاب.
إسم المؤلف: Robert Audi
عنوان الكتاب: Rational Belief
دار النشر: Oxford University Press
سنة النشر: 2015
عدد الصفحات: 281
