القصة الموجزة للاضطرابات الروسية

القصة الموجزة.jpg

ياكوف ميركين

فيكتوريا زاريتوفسكايا*

*أكاديمية ومستعربة روسية

 

"قِف - انطلق - قاتل" - ثالوث علم النفس الشهير،  هي ذي الطريقة التي نعيش بها، والتي نستجيب بها لأي ضغط كان. التوقف يعني الحياة الاعتيادية والصمت. الانطلاق هو الاحتماء مسبقا بعد فهم المستقبل ومخاطره المدلهمة، والاختيار الثالث يأتي عند مداهمة الخطر وضرورة محاربة الظروف المسببة له، بل ونشوب الحرب من أجل درئه. هذه هي النماذج التي يتصرف بموجبها الأفراد والعائلات والأمم بأسرها. كل واحد منا مرتبط بتاريخه ومجتمعه، الفرد فينا أمّة، وفي داخل كلّ منا يعيش ما يسمى بالكائن الجماعي. هذا الكائن الجماعي الروسي هو موضوع كتاب الاقتصادي الروسي المعروف ياكوف ميركين والذي يرسم من خلاله أمثلة للنماذج الثلاثة وذلك من واقع سلوكيات الشعب الروسي عبر ثلاثمائة سنة مضت من تاريخه.

 

فمن خلال قراءته لمآسي الشعب الروسي وعبر تجواله في الفلك الاقتصادي للبلاد، يستنتج الكاتب وقوع اضطرابات تنتظم على روسيا في فترات تتراوح من 15 إلى 25 عامًا، تطول وتقصر، لكنها، وفي جميع الأحوال، تشكل نبضًا حيويًا للمجتمع. فكل جيل روسي قد تحتم عليه أن يفقد أملاكه ومدّخراته ويبدأ ثانية من الصفر: في القرن العشرين حدث تضخمان مفرطان، وأربعة إصلاحات نقدية، ونشبت حروب – حربان عالميتان وحرب أهلية، اشتعلت ثورات، وصودرت أصول الأسرة من قبل الدولة كما حدث عام 1917 وتكرر في نهاية العشرينيات، وألغيت المؤسسات الخاصة، وطبّق التعميم الزراعي في الثلاثينيات، ولم يكن القرن الواحد والعشرين بمنأى عن الأزمات ومنها استمرار الإصلاحات في المعاشات التقاعدية. الخلاصة أنه لا تمر عشر سنوات أو خمس عشرة  سنة على البلاد من غير أزمة أو أزمتين طاحنتين تتمثل عادة في تفشي التضخم وخسارة الأموال، أي الأزمات التي غالبا ما تصاحب البلدان النامية.

على عكس النماذج النفسانية الثلاثة آنفة الذكر، يسوق الكاتب أمثلة لفئة أخرى من الناس لا يندرجون في أي من تلك النماذج، وقد حاول هؤلاء التنبؤ بالمستقبل والجهر بتوقعاتهم. يقول الباحث: "لقد توسلوا وصرخوا بأعلى صوتهم محذرين، ليس عن وهمٍ كما يبدو، بل كانوا على يقين من أن الأوقات العصيبة قادمة بلا شك، وأن الفوضى ستنزل بالبلاد. وقد كانوا على حق في معظم الأحيان، ذلك لأن توقعاتهم ليست تخمينات بل نتيجة تفكير ضمن سياق منطقي. ومع ذلك غالبا ما ذهبت أصواتهم سدى ولم تجد صدى في القمة التي كانت تتصرف وكأن شيئا لا يتغير، وإن حدث شيء فهو أمر مُقدّر" (ص: 120). أهم هذه الأمثلة تلك المراسلة التي جرت بين الكاتب الروسي العظيم ليف تولستوي والإمبراطور الروسي الأخير نيكولاي الثاني والتي يتفحّصها الباحث بشكل دقيق.   

 

في عام 1902 وجّه القيصر نيكولاي الثاني جوابا شفهيا لتولستوي مفاده أن صاحب السيادة قد قرأ رسالته، لكنه لم يُظهرها لأحد، ما يوضح أن رسالة الكاتب الكبير لم تترك أثرا عند القيصر وبالتالي لم يناقشها مع السلطة العليا. كان الصمت هو الجواب. فماذا الذي أراد تولستوي إيصاله؟ لم تكن هناك ثورات في روسيا في حينها، لم يكن سوى أحلام تختمر وبعض الاضطرابات التي كان الوقت متاحا لإخمادها. ومع ذلك ظل تولستوي يدوّن الرسالة تلو الأخرى ويبعثها للقيصر، هذه الرسائل التي يصفها الباحث بالمخيفة، وهنا سرد لجزء منها: "إن ثلث روسيا تحت حراسة أمنية مشددة، أي أنها في حالة الخارج عن القانون.

جيش الشرطة النظامية والسرية يتضخم أكثر فأكثر. تكتظ السجون ومعتقلات النفي بالمتهمين بقضايا سياسية، من بينهم الآن عمال أيضًا. مستوى الرقابة في المنع بلغ مستوى عبثيا لم يبلغه حتى في أسوأ الأوقات، ولم تكن الاضطهادات الدينية متكررة ووحشية كما هي الآن (...) في كل مكان في المدن والمصانع تتركز الوحدات العسكرية وتوجه مدافعها على الناس، وفي العديد من الأماكن أريق الدم بين الأشقاء، وسيحدث مثل ذلك في غير مكان، وحتما ستنشأ أحداث أخرى جديدة أكثر قسوة (...) السبب في كل هذا واضح: حقيقة أن مساعديكم يؤكدون لكم أنه من خلال وقف أي حراك مجتمعي، فإنهم يضمنون بذلك رفاهية هذا الشعب وسلامتكم وأمنكم. حسنًا، ولكن من المرجح أن شيئا لن يوقف مجرى النهر أو الحركة الأبدية للبشرية التي أرساها الله" (ص: 121). 

لقد تحققت التنبؤات التي كتبها تولستوي قبل أعوام من ثورة 1905 والحرب العالمية الأولى 1914-1916 والثورة البلشفية 1917 والحرب الأهلية 1918-1920 إذ بنى فلسفته على أساس أنه "يمكن بالعنف اضطهاد الشعب ولكن ليس السيطرة عليه. فالوسيلة الوحيدة للسيطرة على الناس هي أن يكون القائد والزعيم على رأس حركة الخير، حركة الانتقال من الظلام إلى النور، وأن يقود شعبه لتحقيق أهداف هذه الحركة. يجب عليه أولاً وقبل كل شيء منح الناس فرصة التعبير عن رغباتهم واحتياجاتهم ، وبعد الاستماع إلى هذه الرغبات والاحتياجات عليه أن يلبي مطالبهم، ليس طبقة واحدة منهم  فقط، بل مطالب الأغلبية وجماهير العمال" (ص: 122). 

يحاول المؤلف رصد الاقتصاد الروسي للسنوات الثلاثين الماضية وتخمين اتجاهاته المقبلة. يلاحظ أن من سمات الاقتصاد الروسي الحديث الدور المتزايد للدولة (حصة الدولة في رأسمال أكبر 10 شركات وطنية تصل إلى 88٪)، والتمركز المتزايد لمختلف الموارد ورؤوس الأموال والأدمغة في المدينتين الأكبر في روسيا الشاسعة (موسكو وسانت بطرسبورغ)، وتعزيز السلطة بشكل عمودي، وأن ميزانية الدولة هي الآلة الوحيدة الضامنة لنمو الصناعات والمؤسسات وتوزيع المساعدات الاجتماعية لمستحقيها. ويسمي الباحثُ اقتصاد روسيا باقتصاد العقوبات وليس الحوافز، ومن الإشارات الواضحة لذلك، تضاعف حجم قاعدة القانون الجنائي وقانون الجرائم الإدارية أكثر من ثلاثة أضعاف منذ اعتمادهما.

كما يظهر التناقض الذي يمنع تطور البلاد في عجز روسيا الاستثماري الضخم مقابل احتياطياتها الفائضة من الموارد حيث صُنّف صندوق الثروة الوطني الروسي أوائل 2020 الرابع في العالم من حيث الاحتياطيات الدولية، والمركز الخامس من حيث احتياطي الذهب في البنك المركزي، وبالمقابل تحتل روسيا المرتبة 11 في العالم من حيث الناتج المحلي الإجمالي. الخلاصة أن الأموال الفائضة تم إيداعها في الخارج لسنوات عديدة ولم تنفق على الاستثمارات أو على البرامج الاجتماعية داخل البلاد. وهكذا، ففي الفترة من فبراير إلى مارس 2022 تم تجميد أكثر من نصف أموال الاحتياطي الدولي للصندوق الروسي في الغرب.

 

يذكر الكتاب قصة فقدان منطقة ألاسكا الروسية في القارة الأمريكية كدليل على ما يحدث حين يكون نموذج المجتمع والاقتصاد خاطئا، فتضيع معه الأموال والأنفس. كان نموذج اقتصاد "أمريكا الروسية" شديد الصرامة، يعتمد على الموارد والإمدادات الخارجية المرتفعة، ولم يكن مدعوما بالهجرة الحرة وتدفقات رأس المال وذلك مع قاعدة بشرية صغيرة للغاية غير قادرة على التسيّد على الأرض. أدى هذا النموذج السلبي لإدارة الدولة لأن  تغدو ألاسكا بالنسبة  للإمراطورية الروسية مثل حقيبة بدون مقبض ونتيجة لذلك فقدتها وباعتها للولايات المتحدة عام 1867.

يضعنا المؤلف أمام مختلف النماذج الاقتصادية كالنموذج الأنجلو سكسوني والأوربي والأوربي الشمالي والأمريكي واللاتيني والآسيوي رافضا في الوقت نفسه موائمتها بالنموذج الروسي، بما في ذلك النموذج الصيني الذي لطالما سعت إليه النخبة الروسية خلال العقدين الماضين وهو النموذج المتمثل في الإدارة المركزية القوية، وتمركز السلطة في يد الدولة، والسيطرة الشاملة على السكان، وأحادية الوعي الجماعي. يقول الباحث: "إننا مختلفون ولا يمكن فرض النموذج الآسيوي على السلوك الجماعي لمواطنينا. لن نحقق الانضباط والإنتاجية العالية بهذه الطريقة، بل سننحرف إلى الاقتصاد الرمادي غير الرسمي" (ص: 37). ويشير المؤلف إلى إمكانية كبيرة في أن يأخذ الاقتصاد الروسي طريق النموذج الإيراني وهو نموذج يتشكل تحت الضغط الخارجي القوي والعقوبات ويؤدي إلى الدور القوي للدولة في الاقتصاد الكلي كإدارة سوق العملات وإحلال الإيديولوجية وتقليص العلاقات مع الغرب والانعطاف إلى الشرق.

عدى ذلك، ومع أن الكاتب قد يمم شطر الماضي وأرسى قلوعه في بحر الثلاثمائة سنة المنفرطة، إلا أنه يوسع شبكته لتشمل الحاضر، وبالأخص حينما يستقرئ مقولات وآراء الأسلاف من الحكماء والشخصيات البارزة في الثقافة والسياسة والتاريخ الروسي، محاولا في ذلك إيجاد أوجه شبه بين الماضي والحاضر علّه يستنبط ما يخبئه المستقبل. يصب تركيزه على الضغط الاقتصادي الخارجي الذي ترزح به الدولة الروسية هذه الأيام ويكتب: "قبل أكثر من 100 عام، في عام 1919، أعلنت دول الحلفاء حصارًا اقتصاديًا على الدولة السوفيتية الجديدة، فما هي تلك العقوبات؟ عدم السماح لأية سفينة بدخول الموانئ الروسية أو دخول أي بضائع منها بأي وسيلة. لا تأشيرات من وإلى روسيا. لا معاملات مصرفية مع روسيا. رفض التعامل مع مواطني روسيا حتى في خدمات البريد. استمر الحصار لمدة 3 أشهر فقط، ففي عام 1920 تغير وضع الحرب الأهلية في روسيا.

انهزم الجيش الأبيض في سيبيريا وغيرها من المناطق ونشأ واقع جديد أصبح فيه واضحًا أن روسيا سترفع رايتها الحمراء (الشيوعية) ولا مناص من فتح قنوات التجارة معها، أي مع المنتصر. ولتوضيح هذه الفكرة يعرفنا الباحث على الرسالة الأخيرة للمستكشف القطبي والقائد البحري والقائد العام للجيش الأبيض الروسي الكسندر كوتشا حول السياسة الدولية حيث يقول: "كل العلاقات القائمة على السياسات الخارجية يحددها النجاح أو الفشل. عندما كنت أحقق الانتصارات، كان كل شيء على ما يرام. وعندما ناصبني الإخفاق، شعرت أن لا أحد سيدعمني أو يساعدني في أي شيء، كل شيء يعتمد فقط على المفهوم الأكثر بدائية وبساطة للمنتصر والمنهزم حيث لا يد فوق يد المنتصر وله الاحترام والمهابة أما المهزوم فتجري عليه النوائب.

 

هذا هو جوهر كل العلاقات السياسية، الخارجية والداخلية" (ص: 244-245). ويسأل الكاتب: "هل هناك دروس من عقوبات 1920-1919؟" ويجيب: "نعم، يجب أن ننتصر. لكن في ماذا؟ اليوم يكمن الانتصار الرئيسي في الاقتصاد، في نموه والزيادة السريعة في الطلب المحلي ومستوى التكنولوجيا والقدرة على توليد الأفكار والابتكار لتكون البلاد ورشة عمل للعالم، وليس فقط أكبر مورد للمواد الخام والأسلحة. الانتصار في أن يسود الحب للابتكارات وخلق حوافز قوية لرجال الأعمال، فمعدل نمو 7.5٪ يلغي أي عقوبات ولا يمكن المقاومة أمام مثل هذا السوق المتنامي الكبير وستتجمد جميع النزاعات الإقليمية عاجلاً أم آجلاً كما هو الحال في الصين (ص: 246).

تزود الكتاب بالعشرات من الرسوم التوضيحية للفنان الروسي العالمي فاسيلي كاندينسكي (1866-1944)، الذي وقف على أصول الفن التشكيلي التجريدي، وفنان الجرافيك الألماني السويسري، أحد كبار الطليعة الأوروبية بول كلي (1879-1940)، وهما اللذان عاصرا الحربين العالميتين، وكانت مصائرهما الشخصية حبلى بالمخاطر ونقاط التحول، فاعتبرها الكاتب أفضل الرسوم التوضيحية التي تعكس أفكاره ومزاج بحثه.  

 

تفاصيل الكتاب:

الكتاب: القصة الموجزة للاضطرابات الروسية.

المؤلف: ياكوف ميركين. 

دار الإصدار: آ س ت/موسكو/2023

اللغة: الروسية

عدد الصفحات: 320

 

أخبار ذات صلة