لماذا لم يخبرني أحد بهذا من قبل؟

لماذا لم يخبرنا.jpg

جولي سميث

فينان نبيل (كاتبة وباحثة مصرية)

تلقى الحياة على الإنسان كثير من الأعباء قد تؤدي به إلى مشاعر سلبية كثيرة كالإجهاد والقلق ، والاكتئاب، وعدم الثقة ، والانتقادات الذاتية، والحزن. يمر كل إنسان بأيام ضعيفة ،تنخفض فيها حالته المزاجية ، وتختلف حدتها من يوم لآخر، ويعاني عدد كبير من الناس من مزاج منخفض في صمت؛ اعتقادا منهم أنه أمر لا يمكن تغييره فيتعمدون إخفاءه، ولا يخبرون أحدا،ويركزون على تلبية توقعات الآخرين ، فيتجولون بين الناس ، يرسمون ابتسامة على وجوههم ، لكن مع الوقت يشعرون بفراغ نفسي كبير ،وحالة نفسية سيئة ، ولا يستطيعون الاستمتاع بالحياة، فينسحبون، ولا يطلبون العلاج إلا بعد سنوات طويلة من معاناتهم. تحاول الكاتبة "جولي سميث" التي تعمل طبيبة نفسية في إيجاد أفكار لعلاج تلك الحالات،  وتقدم استراتيجيات جديدة لتسهم في التعامل معها خارج سياق العلاج العيادي ،هذه الأدوات لن تمنع الحياة من إلقاء التحديات علينا لكنها ستساعد في المناورة ،والتقاط الأنفاس، ثم العودة إلى المسار الصحيح.

 

يصحح كتاب "لماذا لم يخبرنا أحد بهذا من قبل؟" بعض المعتقدات الخاطئة السائدة حول انخفاض الحالة المزاجية ، منها أن الحالة المزاجية السيئة ترجع إلى خطئا في الدماغ ، أو أن هناك أشخاصا ولدوا ولديهم القدرة على أن يكونوا سعداء، تلك الأفكار تمنع أصحابها من امتلاك زمام صحتهم النفسية،والعقلية، وتؤكد أن اضطراب المزاج ،والإحساس بالفرح تارة ، والحزن تارة أخرى ، والتوتر ،والغضب يحدث كأمر بشري طبيعي بسبب طبيعة الحياة ، مشكلاتها ،أحداثها . 

 يُعرَف اضطراب الحالة المزاجية بأنه تشوّه في الحالة العاطفية العامة ،وعدم التوافق مع الظروف إلى الحد الذي يتعارض مع قدرة الفرد على أداء المهام الحياتية ،مع شعور بقدر بالغ من الحزن، أو الفراغ،  أو الانفعال، أو ربما يمر بفترات من الاكتئاب الذي يتناوب مع الشعور بقدر هائل من السعادة (الهوس)،ربما تؤدي اضطرابات الحالة المزاجية في بعض الأحيان إلى زيادة مخاطر الإقدام على الانتحار.

 تتفاوت أسباب تقلب المزاج ما بين الأسباب البسيطة التي لا تستدعي القلق ، والأسباب المَرَضيّة التي تستدعي زيارة الطبيب وقد تحتاج لعلاج طويل الأمد، غالبًا ما يتلاشى تقلب المزاج في الحالات البسيطة من تلقاء نفسه مع زوال المسبب، من أسباب تقلب المزاج المفاجئ البسيطة، والتعب، والإجهاد الناتج عن العمل، والواجبات الدراسية المنزلية، وضغوطات الحياة المختلفة، أو التعرض لأحداث عاطفية قوية تثير عاطفة الحزن ، والغضب ،والتوتر.

كما يؤثر اضطراب مستوى سكر الدم ما بين الارتفاع ، والانخفاض عن معدله الطبيعي على المزاج ، ويؤدي إلى تقلبه المفاجئ ، والحاد، وأكثر فئة تعاني من ذلك هم مرضى السكري غير المنتظم،أو في حال الاستخدام الخاطئ للإنسولين، كما يؤثراضطراب الهرمونات على المزاج؛ إذ يؤثر انخفاض، أو ارتفاع نسبة بعض الهرمونات على الحالة النفسية ،بحيث نلاحظ أن المراهقين أكثر الفئات العمرية تقلبًا في المزاج بسبب التطورالهرموني الذي يؤثر بدوره على الجانب  العاطفي، والنفسي عندهم. كذلك انخفاض هرمون “الاستروجين” عند المرأة ، وانخفاض أو ارتفاع هرمون "التيستوستيرون"، واضطراب هرمون "الكورتيزول"، واضطراب هرمونات الغدة الدرقية، متلازمة ما قبل الحيض، التي تؤثر على مستوى الهرمونات الأنثوية، والحمل، بحيث تعاني الحامل من اضطراب الهرمونات بالإضافة إلى الإجهاد الجسدي.

 

من أمثلة حالات  الاضرابات المزاجية الحادة ، "الاضطراب الاكتئابي الكبير" ،وهي فترات طويلة ومتواصلة من الحزن البالغ، "الاضطراب ثنائي القطب"، ويُعرف كذلك باسم "الاكتئاب الهوسي" أو "الاضطراب العاطفي ثنائي القطب"، وهو الاكتئاب الذي يتضمن فترات متناوبة من الاكتئاب ، والهوس، و"الاضطراب العاطفي الموسمي"  أحد أشكال الاكتئاب الذي يرتبط غالبًا بقلة ساعات النهار عند خطوط العرض الشمالية ،والجنوبية البعيدة من أواخر الخريف إلى أوائل الربيع ، و"الاضطراب الاكتئابي المستمر" (عسر المزاج)  أحد أشكال الاكتئاب طويلة الأمد (المزمنة)، و"اضطراب تقلبات المزاج التخريبية" ، واضطراب الانفعال المزمن الحاد المتواصل لدى الأطفال الذي يتضمن غالبًا احتداد المزاج المتكرر الذي لا يتوافق مع العمر النمائي للطفل، والاكتئاب المرتبط بمرض عضوي، والاكتئاب المتواصل ، وانعدام الاستمتاع بصورة كبيرة بمعظم ،أو بكل الأنشطة بشكل يرتبط بصورة مباشرة بالآثار الجسدية لحالة طبية أخرى. بالنسبة لمعظم الأفراد، يمكن علاج اضطرابات الحالة المزاجية بنجاح بواسطة الأدوية والعلاج بالحوار (العلاج النفسي).

ترى الكاتبة أن الاعتلال المزاجي عادة ما يكون نتيجة احتياجات غير ملبّاة ، وأن الخطوة الأولى للتخفيف من الحالة المزاجية المنخفضة المستمرة هي التفكير في الاحتياجات التي لم يتم تلبيتها؛ لذا يجب تفتيت الأفكار ، والسلوكيات،  والضغوط البيئية التي تساهم في تدني الحالة المزاجية، للبدء في تلبيتها من أجل الوصول إلى حالة مزاجية أفضل.

توضح الكاتبة الأسس العلمية التي تقف وراء عمل العقل ، الذي يتكون من مجموعة من القوى الإدراكية التي تتضمن الوعي، والمعرفة ، والتفكير ،والذاكرة. كيف يملك العقل القدرة على التخيل ، والتمييز ،والتقدير، وهو المسئول عن معالجة المشاعر، والانفعالات؟ إن العقل يجمع المعلومات من كل الحواس، من كل ما نرى، ونسمع ، ونلمس ،ونشم. يجمع معلوماته من أفعالنا وأفكارنا، ويجمع القرائن من ذكريات  الماضي ، وشعورنا آنذاك  ويقدم اقتراحا ،أو تخمينا لما قد يحدث  في الموقف نفسه؛ هذا التخمين يمكن أن يكون عاطفة،أو انفعالا، أو حالة مزاجية. العقل يضفي المعنى الذي تصنعه العاطفة ويحدد كيف نستجيب لها ، ثم  يرسل المعلومات مرة أخرى إلى الجسم ، حول ما يجب القيام به. ويؤدي فهم الطرق العديدة التي يعمل بها العقل إلى امتلاك القدرة على الصمود ، والمرونة ، والتسامح مع المشاعر المؤلمة؛ فالشفاء من صدمات الماضي يسبقه التأكد من امتلاك تلك القدرة.

إن مصدر المشاعر ليس فقط في الرأس ، وإنما في الجسم والظروف المعيشية ،والماضي والحاضر ،والتأثيرات المحيطة بها. وكلما زادت ممارستك لتحطيم العوامل التي تتفاعل لخلق مشاعرك السلبية ،زادت سهولة التغييرات التي يمكن إجراؤها. يمكن اكتساب كيفية إدارة القلق، والتوتر، عن طريق مواجهة المخاوف ،وأفضل الطرق للتعامل مع الخوف هو الهروب منه عن طريق تجنب المواقف التي تجعله يتأجج ، ولكن كلما بالغنا في تجنب الخوف ، زاد على المدى الطويل؛ فأسوأ ما يمر به الإنسان أن يترك الخوف يملي عليه اختياراته. تتأثر الحالة المزاجية بعوامل عالمنا الخارجي ، ولكننا في حاجة لفهم تلك التأثيرات؛ حتى نستخدم تلك المعرفة لنحول الحالة المزاجية في الاتجاه الذي نريد الذهاب إليه .

 

تطرح"جولي" فكرة أن الادراك العاطفي مهارة يمكن بناؤها خارج سياق العلاج ، لذلك توصي الكاتبة بالاحتفاظ بتدوين كل التجارب الإيجابية، والسلبية ،وتفصيل العواطف ،والظروف الجسدية التي أدت لكل تجربة يمر بها الإنسان. سيساعد هذا تدريجيا على ملاحظة الأنماط ، والعوامل الملموسة التي ساهمت في حالة مزاجية معينة. تزيد تلك الممارسات من الوعي، وتساعد في التعرف على المصدر الحقيقي للمزاج المنخفض مما يساعد في إصلاحه بسهولة؛ فإذا لاحظت أنك تشعر بالفشل دائما بعد متابعة وسائل التواصل الاجتماعي ،سيعطيك هذا مؤشرا حول كيفية الابتعاد عن هذا الشعور،عن طريق حذف تطبيقات معينة ،أو إلغاء متابعة الأشخاص الذين يولدون لديك مشاعر سيئة كالاحباط ،أو عدم تقدير الذات عندما تقارن نفسك بهم.

تقدم الكاتبة نصائح نحن في حاجة إليها ، والكثير من الأمور العملية المفيدة ،والتعليمات اليومية ،والتمارين التفاعلية، لنشعر بالهدوء ،والقوة ،والمرونة. أولى تلك التمارين أن يطرح الإنسان بعض الأسئلة على نفسه، مثل: ما الذي تفكر به عندما تظهر الحالة المزاجية السيئة؟ ومتى تبدأ هذه الأفكار في الظهور؟ وما الأحاسيس الجسدية الأخرى التي تشعر بها؟ وما الذي قمت به في الأسبوع السابق للحالة المزاجية السيئة؟ وتساعد الإجابة على هذه الأسئلة في تحديد الأسباب المؤدية لاعتلال الحالة المزاجية وتجنبها قدر الإمكان.

يشكل رفع الوعي حول كيفية توليد المشاعرعاملا مساعدا لا غنى عنه في العمل المشترك بين المريض، والمعالج في تحسين الحالة المزاجية، لكنه لا يكفي وحده لإيجاد الحلول لكل المشاعر المؤلمة؛ فقد تحتاج المشاكل الأكثر تعقيدا لمساعدة احترافية. ترى"جولي" أن الطبيب لا يملك قدرة سحرية على شفاء أي شخص ،أو تغيير حياته وإنما يقوم بدور المعلم ،الذي يقدم المفاهيم، والمهارات التي تجعل الأشخاص يشعرون بالأمل في المستقبل ،ويؤمنون بقوتهم الخاصة ،وقدرتهم على التعامل مع المواقف الصعبة بطرق جديدة صحية ،وكلما فعلوا ذلك ازدادت ثقتهم بقدرتهم على التأقلم.

ستظل الحياة تعرض علينا الألم، والمشقة، والخسارة؛ مما ينعكس على صحتنا النفسية والجسدية؛ لذلك يجب أن نبني صندوقا من الأدوات ونتدرب عليها، ونكتسب مهارة أكبر في استخدامها كلما ألقت علينا الحياة بأعبائها التي تتسبب في انخفاض حالتنا المزاجية،هذه المهارات تكون مفيدة لأولئك الذين لديهم اكتئاب، وهي الاختيار الأمثل لمن يواجه تقلبات المزاج سواء كبيرة، أو صغيرة. تؤثر الطريقة التي نشعر بها على أنواع الأفكار التي يمكن أن تزعجنا؛ فمن الصعب جدا أن يزول اضطراب المزاج من تلقاء نفسه، و قد يزداد سوءًا بمرور الوقت. لذلك؛ يلزم طلب المساعدة المتخصصة قبل أن تصبح حالة الاضطراب المزاجي شديدة؛  فقد يكون من الأسهل علاجها في أقرب وقت.  طلب المساعدة عند احتياجها أمر ضروري لمعالجة القلق ،وقد يكون ذلك من الصعب في الكثير  من الأحيان،بسبب الاعتبارات الثقافية ،وارتفاع تكاليف المعالجين ،ونقص عددهم ، كلها عوامل تقف عائقا أمام البحث عن المساعدة الاحترافية المهنية. وقد يكون من الصعب أيضا في بعض الأحيان طلب المساعدة من الأشخاص الذين نعرفهم؛ فقد يدفع الاكتئاب إلى دفع الناس الذين نكون في أمس الحاجة إليهم بعيدا،ويؤدي إلى الانسحاب من الناس ،ويعتقد الشخص المكتئب أنه لن يؤدي إلا إلى سقوط الآخرين.

 

تذكر الكاتبة أن "عبارة لماذا لم يخبرنا أحد من قبل؟" تكررت كثيرا أثناء متابعتها لحالات الاعتلال المزاجي للذين قامت بعلاجهم ،وكان كثير منهم يأتون للعلاج وهم يعتقدون أن مشاعرهم المؤلمة القوية هي نتيجة لخطأ في دماغهم، أو شخصيتهم ،ولم يعتقدوا أبدا أن لديهم سلطة التأثير عليها،وأن العديد منهم لم يكونوا بحاجة لعلاج عميق طويل المدى- وإن كان مناسبا لبعض الحالات- ولكنهم كانوا بحاجة إلى بعض التثقيف حول كيفية عمل عقولهم وجسمهم ،وكيفية إدارة صحتهم العقلية ، والنفسية يوميا.

وقدمت لهم طرقا مناسبة لمضاعفة الصحة العضوية والنفسية بلا دواء،مع صندوق أدوات تؤدي وظائف مختلفة، إلى جانب بعض النصائح التي قد تساعد في الحفاظ على مزاج هادئ: مثل تجنب التوتر ، والإجهاد ، وضغط العمل قدر المستطاع، وتخصيص وقت للنفس، وممارسة الهوايات ، واستغلال أوقات الفراغ في الذهاب في نزهة، أو قضاء الوقت مع الأهل، والأصدقاء، والتحدث إلى النفس بكل ما هو جيد، وتجنب التقليل من شأنها ،أو اللوم المبالغ فيه للنفس، وتناول طعام صحي متوازنًا مليئ بالمعادن ، والفيتامينات والألياف، وممارسة الرياضة بانتظام بقدر الإمكان، والحصول على قدر كافٍ من النوم، وتجنب التدخين، والحرص على مراجعة المختصين في حال المعاناة من أعراض مرضية. تؤكد الكاتبة أن الإنسان يملك قوة أكبر مما يعتقد للتأثير على عواطفه، ، وهذا يعني أننا نستطيع التحكم في انفعالتنا ودوافعنا ، وأن الحالة المزاجية لا تحدد من نحن إنما هي حالة عابرة ،وإحساس نجربه ،ونستطيع القضاء عليها بالوعي والإرادة.

 

تفاصيل الكتاب: 

عنوان الكتاب: لماذا لم يخبرني أحد بهذا من قبل؟

المؤلف: جولي سميث 

الناشر: أسبن- الولايات المتحدة-2022

اللغة: الإنجليزية

أخبار ذات صلة