الإنسان القروسطي الملامح والعلاقات: عن أنماط ثقافات المتوسط كما صورها الإثنوغرافيون العرب

الإنسان القروسطي.jpg

عوض اللويهي

تنفتح مكنونات النصوص السردية العربية القديمة - عند معالجتها بمناهج بحثية ومعايير تحليلية جديدة- عن محمولات فكرية كانت ثاوية، مؤكدة في ذات الوقت على مرونتها واكتنازها لأوجه تأويلية عديدة، وتحتاج في كل مرة إلى باحث قادر على النظر إلى تلك النصوص بشكل مغاير ومن منظور فكري مختلف. ويتنزل كتاب الباحث المغربي الدكتور إبراهيم الحجري المعنون بـ (الإنسان القروسطي الملامح والآفاق: عن أنماط ثقافات المتوسط كما صورها الإثنوغرافيون العرب) في إطار السعي نحو إعادة تحليل وقراءة نصوص الرحلات العربية الوسيطية وفقًا لمناهج الإثنوغرافيا، والتي تدرس نظم الإنسان وتمظهراته الثقافية والحضارية وما يكتسبه من تجارب ومعارف وإنجازات في سياق تفاعله الحضاري مع محيطه البيئي والظروف المحيطة به.

ففي المقدمة نجد الحجري يؤكد على أنَّ نصوص الرحلات العربية (لم ينصفها البحث لحد الساعة؛ وظلت الدراسات المتعلقة بها لا تخرج عن نطاق المنهج التاريخي والاجتماعي والببليوغرافي. إذ اقتصر الباحثون المحدثون على الحومان حول موضوعات معينة ومتكررة. وأُهمل الجانب الأساسي فيها؛ وهو الجانب الإثنوغرافي؛ الذي أفنى فيه الرحالة العرب زهرة أعمارهم في تدوين مشاهداتهم الدقيقة: وتوصيفاتهم للظواهر الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والإنسانية والفنية التي سادت آنذاك. وأبدوا مهارة عالية في التدقيق والتحري والتقصي بخصوص المعلومات في زمن كانت فيه الأدوات البحثية والمنهاجية شبه منعدمة؛ ومع ذلك تأتى لهم، بفعل مجهوداتهم الشخصية، وبراعتهم في السرد والوصف ودقة ملاحظاتهم، وتفانيهم في البحث عن الخصوصيات المجتمعية، والظواهر اللصيقة بالمجموعات البشرية في عصر كانت فيه المسافات بعيدة، ووسائل التواصل والمواصلات نادرة وبسيطة). فالنصوص الرحلية العربية تشكل مادة خصبة للباحثين المتخصصين في حقول الأنثروبولوجيا والإثنوغرافيا، فهذه النصوص تشكل مادة خصبة للمتخصصين في ذينك الحقلين، كما أنَّ تلك النصوص تعكس جسامة الجهد الذي بذله أولئك الرحالة في توصيل صورة العالم الوسيطي بكل وضوح وشمولية إلى باحثي اليوم في جميع التخصصات، كما أنَّ وفرة البيانات الدقيقة حول ظواهر معقدة لاحظها الرحالون في المجتمعات التي زاروها واحتكوا بها، تعكس الوعي السابق لزمانه للمناهج الأنثروبولوجية والإثنوغرافية الحديثة. وكانت المعرفة  دافعهم لذلك.إن لدى النصوص الرحلية العربية إمكانية تقديم منظور مختلف عن العصور الوسيطية التي كان فيها العالم العربي الإسلامي في موضع قيادة ركب الحضارة والتربع على عرش السيادة.       

      يسعى هذا الكتاب إلى رصد صورة الكائن الإنساني من خلال الوقوف على تمظهراته الإثنوغرافية كما تجليها النصوص الرحلية العربية، وكذا من خلال الرموز الثقافية البارزة التي لها بعد إنساني في ممارسته الضمنية التي تُخضِع سلوكه لما هو سيكولوجي واجتماعي وأنثربولوجي مستعينًا بما تلامسه المقاربة الأنثربولوجية من أبعاد إنسانية يقترحها مضمون المدونة المتناولة بالدرس والتحليل في هذا الكتاب.

أما المدونة البحثية فتتكون من عدة نصوص رحلية هي:

  1. رحلة ابن بطوطة المسماة تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار. لابن بطوطة (شمس الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الله اللواتي الطنجي)
  2. رحلة ابن جبير. لابن جبير
  3. أنس الفقير وعز الحقير. لابن قنفذ
  4. رحلة ابن يونة الأندلسي إلى بلاد الشرق الإسلامي. لابن يونة (بنيامين التطيلي)
  5. ناصر الدين على القوم الكافرين. لأفوقاي ( أحمد بن قاسم الحجري الأندلسي).
  6. المُغرِب في ذكر بلاد المغرب. لأبي عبد الله أبو عبيد البكري.
  7. المعرب عن بعض عجائب المغرب. لأبي حامد الغرناطي.
  8. تحفة الألباب ونخبة الإعجاب. مجهول المؤلف.
  9. رحلة القلصادي. لعلي القلصادي.

      ينقسم الكتاب إلى فصلين؛ أولهما عنوانه (في الملامح) ويختص بمقاربة الظواهر الفسيولوجية للإنسان في العالم الوسيطي من أسماء وألقاب وكنى وصفات ونعوت، ولباس وأزياء وحلي وطعام وشراب وسلاح وزينة وصحة ومرض. أما الفصل الثاني فقد عُنوِن بـ(العلاقات) حيث تتم مقاربة جانب العلاقات التي تربط هذا الإنسان مع عوالم الذات والطبيعة والآخر؛ وفق الإمكانيات المتاحة في المرحلة الوسيطية؛ ومن ذلك اللغة، والرق والاستعباد، وطبيعة النظام التعليمي، وتعذيب وتعنيف الجسد، ووسائل التواصل، والزواج، والقضاء، والوضع الاقتصادي. إن هذه الموضوعات والتفاصيل بقدر ما تحمل من الصعوبات على مستوى التناول، فهي أيضًا تحمل في ذاتها متعة وطرافة. حيث إن الرحالة بوصفه إثنوغرافيا لم يفته شيء؛ وهو يرسم صورة الإنسان في المرحلة التي عايشها، وصورها في متنه المتعدد الأبعاد.

تشكل الدقة في تحديد كيفية فهم واشتغال المرجعية الثقافية لمؤلفي النصوص الرحلية العربية عاملاً مهمًا في فهم وتحليل النصوص الرحلية. فعلى سبيل المثال: تشكل الأسماء مرجعًا مهمًا من حيث إنَّ الاسم بوصفه علامة لغوية يدخل في شبكة من العلاقات مع عدد كبير من المكونات الأساسية التي تنقله من رسم لساني محض إلى رمز ثقافي.

إنّ أسماء مؤلفي النصوص المدروسة لها بعد واقعي بحكم أنها ترتبط بأناس كانوا موجودين حقًا، وتركوا بصماتهم في المدونات وكتب التاريخ، وبعضهم بات مرتبطاً بالألسن، متداولاً بين النّاس إلى يومنا هذا. كما سعى الرحالة إلى إيراد الأسماء كاملة حتى لا تختلط ببعضها بما في ذلك اسم العلم والكنية واللقب وبعض الصفات المستفيضة التي تحدد أصل الشخص، وانتمائه المكاني أو العرقي أو المذهبي وذلك حتى يتموقع جيدًا أمام الآخر بصورة واضحة  لا مجال للتشويش فيها. إن الاسم الشخصي للرحالة ليس مجرد علامة لسانية من أجل التمييز، وليس ترفًا يمكن تحييده عن عناصر الشخصية الأخرى، بل يكاد يكون جوهرًا أساسًا لارتباطه الوثيق بشبكة من المقولات ذات الأبعاد الثقافية والهوياتية، مما يجعله، بالفعل كائنًا حيًا يكبر مع الحامل له، وينتشر بذيوع صيته أو يتلاشى بضياع شرفه وعزته وصورته بين مجموعته البشرية التي ينتمي إليها.

يصر الرحالة على الاحتفاظ باسمه وانتمائه المكاني والسلالي والمذهبي، وتبين الدراسة أن الرحالين قد تزينوا بلباس البلد الذي يستضيفهم خوفًا من الظهور بمظهر مضحك أمام أولئك الذين يحتكون معهم، وقد ساعدهم - أي الرحالين- هذا التماهي مع الثقافة المحلية والتنازل عن الهوية الأصلية مؤقتًا حتى يتمكنوا من كسب ثقة الآخر والتفاعل الإيجابي معه، ومعرفة خصائصه وتقاليده وعاداته، ودلالة كل لون من ألوان الألبسة. وما تنازله المؤقت عن بعض خصوصياته الثقافية إلا تكتيك لحظي يمارسه لحين نيل ثقة الآخر، أو للظفر ببعض الامتيازات أو للقاء بعض الشخصيات، أو تحيّن بعض الفرص المتاحة من أجل توسيع المعرفة بالآخر وبخصوصياته الفكرية والاجتماعية والسياسية التي من شأنها إغناء معطيات رحلته وإثراء مشاهداته. 

من النتائج البارزة في الدراسة أنَّ الرحلات لم تتحدث عن الجسد في حد ذاته لكنها فصّلت، أحيانًا في الأشكال التي تتمظهر بها سلوكاته وسماته وسحناته وكيفية تصريفه لهواجسه وحاجاته الجنسية والغريزية، فتحدثت عن الزواج والطعام والتناسل والحركة والعنف، والأزياء وغير ذلك من المعطيات التي تضيء صورة تعامل الناس في تلك العصور الوسيطية مع تجليات أجسادهم تبعًا لما يمليه التطور الحضاري، ووفقًا لما تتداوله المنظومة الثقافية للمجموعة البشرية من قيم ومبادئ وتصورات فلسفية ومعتقدات وأنظمة وأعراف. ولو أخذنا التفاصيل الواردة في المدونة عن الملابس الخاصة بالرجال والنساء مثلاً، نجد أنَّ الرحالة يُفصّلون في ذكر خصوصيات ملابس الرجال التي كانت سائدةً آنذاك في أغلب البلدان التي زاروها وعاشروا أقوامها، فذكروا أنواعها ومصدرها ومادة صنعها والمكان الذي تغطيه من الجسم ودلالتها الرمزية لدى حاملها ومكانتها الاجتماعية والمناسبات التي ترتدى فيها وأثمانها، وطريقة الترويج لها، والمحلي والمستورد منها.

في المقابل نجد أنَّ هناك شحًا في المعلومات المتعلقة بملابس المرأة عبر المتون الرحلية المدروسة مقارنة مع التوصيف الوافي المعطيات حول زي الرجل، وهذا بحسب الباحث (ينسجم مع المرجعية الفقهية للرحالين التي تدعو إلى غض الطرف عن كل ما يتعلق بزينة النساء ومفاتنهن). ص 50

إن المرجعية الدينية كذلك تبرز في الاهتمام بقضايا تتعلق بالحلال والحرام، مثل كثير من القضايا المتعلقة بالماء والأطعمة بمختلف أنواعها وكذلك الأشربة. كما نجد أيضًا تركيزًا على مسألة القداسة في التعاطي مع قضية التصوف التي كانت منتشرة في تلك الفترة، فكثير من المسرودات والتعليقات تنقل لنا تفاصيل هامة عن سلوك المتصوفة في اللباس وطرق التعامل مع بعضهم البعض والزوايا والأضرحة. كما نجد عناية الرحالين بقضايا تتعلق بالبركة وقداسة الأماكن هذا بجانب وصفهم الدقيق للباس أئمة الحرم المكي وألوان تلك الملابس والفضاء العام بما في ذلك الكعبة ومحيطها.

عند قيام الرحالة بإصدار أحكامه وإبراز سمات أهل البلدان التي زارها فهو ينطلق من تصور خاص يشيده كنموذج للتمييز بين سحن الأقوام المعاشرة. ويتكون هذا النموذج من العناصر التالية (اللون- الأخلاق- العلاقة بالآخر- العقيدة- طبيعة السكن- طبيعة المأكل- حجم الجسد- السلاح- الخصال). ويكاد يكون هذا النموذج بمثابة بطاقة الهوية التي تحدد صورة كل شعب عند مقارنته بشعب آخر، أو مقارنة فرد من قوم معينين بفرد آخر من قوم آخرين.

 إن هذا التصنيف من قبل الرحالة للأقوام والشعوب المستضيفة، وفقًا لهذا النموذج، لا يقف عند عند حدود التمييز بين الموصوفين، بل إنَّه يعكس موقف الرحالة من القوميات المستضيفة، ولذلك أسباب تكشف عنها مدونة النصوص الرحلية، فهذه الأسباب هي من يحرك تموقع الرحالة من الشعب الذي يعايشه، وهذه الأسباب هي:

  • الانتماء العقدي: بحيث كان يحدد المذهب الديني الذي يعتنقه كل قوم.
  • الانتماء العرقي: خاصة حيث الزيارة لبدان أفريقيا السوداء.
  • الموقف من الغريب: حيث كان الرحالة يحكم على الشعب وصورته من خلال مدى احتفائهم به وإكرامهم بضيافته. وأحياناً يقرّ بأنهم كفار ومع ذلك يشكر طيبتهم.

 ومن خلال هذا يخلص الباحث إبراهيم الحجري إلى القول بأن موقف الرحالة هذا:( ليس بريئًا، فهو يفصح عن هوية ثقافية، وتبرز موقفه انبثاقًا عن خصوصية ذات طابع مركب فيه ما هو ديني، وعرقي، وجغرافي، ولغوي، وثقافي، بمعنى أنه ليس محايدًا إطلاقًا، إنه يخضع في تأسيس أحكامه وأوصافه لمرجعيات إيديولوجية تشتغل في الغياب عن طريق اللاوعي، وهي ما يحرك انطباعاته وانفعالاته، وموقفه من العالم والإنسان.

إن الفارق أو المسافة بين ثقافة الذات أو هوية الرحالة والخصيصات النوعية لثقافة الشعب الُمزار هو ما يحدد طبيعة الأحكام الصادرة والمواقف المعبر عنها اتجاه الظواهر الإنسانية والوقائع التي يصادفها القائم بفعل الرحلة، وبهذا يكون التصادم الثقافي هو ما يفرز ذلك الانفعال، هو ما يولد رد الفعل إيجابًا أو سلبًا) ص 38.       

      إن المنهج التحليلي الذي استخدمه المؤلف في الكتاب استدعى منه الانفتاح على النصوص الرحلية أولا بقصد استخلاص المادة الوصفية (على هيئة جداول، تارة وعلى هيئة اقتباسات مع تحليلها وربطها بالسياق العام للدراسة تارة أخرى) ، وثانيًا تعزيزها بما ورد في الأدبيات الأنثربولوجية، وثالثا تطعيم هذه المادة بما تداولته الموسوعات والمصنفات التي أُنجزت فيها الرحلات أو دونت قبلها أو بعدها بقليل.

 لقد مكَّنَ الانفتاح على المادة الوصفية المؤلف من تمثل النسق القيمي الذي كان يُوجّه الإنسان القروسطي في إطار تعامله مع ذاته، وفي أسلوب تفاعله مع الآخر. فغالبًا ما كانت تتداخل المرجعيات الدينية والعرفية والعرقية لتوجيه سلوكات الناس وأفعالهم، وتحديدها سلفًا، بل وتتدخل لتعديلها أيضًا، تبعًا للتحول الذي يطول النسق القيمي المُؤطِر للهُوية الثقافية التي تخص المجموعة البشرية. لقد تمكن الكتاب من إماطة اللثام عن الدور التحكمي الذي يلعبه النسق القيمي في ثقافية الإنسان القروسطي وهويته المجتمعية، وأنَّ كل أفعاله وتمظهراته، إنما هي ترجمة سلوكية للنسق الثقافي الذي يشتغل بشكل لاواعٍ، سواء كان هذا السلوك اتجاه الذات (اللباس، الوشم ، الطعام، الاسم، الختان، الأقراط.....) أو تصرفات الآخر(الزواج، القضاء، النشاط الاقتصادي التعليم والتنشئة، والرق الاستعباد).

 

عنوان الكتاب: الإنسان القروسطي الملامح والعلاقات: عن أنماط ثقافات المتوسط كما صورها الإثنوغرافيون العرب.

المؤلف: د. إبراهيم الحجري.

الناشر: سلسلة كتاب المجلة العربية العدد 222.

سنة النشر: 2015م.

عدد الصفحات: 250

*شاعر وكاتب عماني

 

أخبار ذات صلة