اللاهوت السياسي....هل من روحانية سياسية؟

غلاف كتاب اللاهوت السياسي.jpg

 كيف يمكن لمقاربة لاهوتية سياسية أن تزخم عدالة القضية الفلسطينية

إميل أمين*

هل من الممكن أن تكون هناك علاقة بين علم اللاهوت وعلم السياسة؟ هل من الممكن أن يكون للدين أثر على السياسة بدون تعريض مدنية دولة ما للخطر؟ وبدون أن تفقد السياسة فاعليتها، أو يحيد اللاهوت بالدين عن مجراه؟ هل من الممكن حسب تعبير عالم اللاهوت المسيحي الألماني "متس" أن تتأسس روحانية سياسية؟ وما علاقة كل هذا بالقضية الفلسطينية التي تمر هذه الأيام على نحو خاص بمنعطف مصيري هام وخطير في ذات الوقت؟

أسئلة عديدة يجيب عنها هذا الكتاب صغير الحجم، والذي لا يتجاوز مائة صفحة إلا قليلاً، لكنه كبير القيمة والمحتوى والمضمون، وهو ثمرة أربعة أعوام من الدراسة، قام بها الباحث المصري الشاب، وهو الراهب الدومنيكاني كذلك "جون جبرائيل" الحاصل على الماجستير في علم اللاهوت السياسي من الجامعة الكاثوليكية في "لييل - فرنسا"، حيث يستخدم تحصيله الفكري لتبيان العلاقة بين علم اللاهوت وبين ما حدث من استغلاله في أوربا لتحقيق مآرب سياسية، ويسعى لوضع أسس تجعل من اللاهوت يشكل حائط صد لعدم استغلاله سياسياً ولعدم استعماله في تبرير المآسي.

يلزمنا بداية ونحن في عالمنا العربي أن نشير إلى أن تعبير اللاهوت السياسي هو تعبير لم تعتد عليه مسامعنا، وحينما نسمعه تنهض داخلنا مخاوف وشكوك، فيتبادر إلى أذهاننا ما يقوم به كثيرون من إقحام للدين في كل شيء، وسعي بعض الجماعات إلى فرض نظام حكم ثيوقراطي، يسيطر عليه رجال دين يحكمون باسم الله، كما نتذكر كذلك خبرات سلبية، حدث فيها استغلال متبادل بين الدين والسياسة، بين رجال الدين، ورجال السياسة.

اللاهوت السياسي عند المؤلف هو محاولة لإعمال العقل على ما كتب في علوم اللاهوت، وعليه يبدو الحديث عن لاهوت سياسي في العالم العربي، لأولئك الذين يعرفون معناه الحقيقي، على أنه ليس خلطاً بين اللاهوت والسياسة، أو نوعاً من الرفاهية الفكرية، أو الرفاهية اللاهوتية، فهي لاهوت وليد العالم الغربي، حيث تختلف الأوضاع الاجتماعية والسياسية هناك اختلافاً كبيراً عن الوضع في العالم العربي.

من هو اللاهوت الألماني "يوهان بابتست متس" الذي يبني عليه المؤلف أطروحته للمقاربة بين ما جرى للشعب اليهودي في أوشفيتز (الهولوكوست)، وبين محرقة الشعب الفلسطيني المستقرة والمستمرة منذ نحو سبعة عقود وحتى الساعة؟.

باختصار غير مخل إنه أحد أهم اللاهوتيين الألمان المعاصرين الذين حركت محرقة اليهود في عقولهم علامات استفهام مثيرة، لا سيما في الفترة التحضيرية للمجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني (1962–1965) الذي انعقد في حاضر الفاتيكان. فقبل سنوات المجمع لعبت مذبحة اليهود ككارثة أودت بحياة ملايين الأبرياء دوراً مهمًا في الفكر اللاهوتي الغربي، وبدأت الأسئلة تتواتر: كيف نفكر في الله بعد أن أحرقت البشرية بعضها البعض في أوربا؟.

هنا ظهر اللاهوتي "متس" داخل هذا السياق التاريخي للبحث عن لاهوت سياسي جديد، لاهوت من أجل العالم المعاصر، لا ينفصل عن واقعه الاجتماعي والسياسي.

لقد سعى "متس" أيضاً من خلال كارثة "أوشفيتز" إلى أن يبرز أسوأ ما يمكن أن يتعرض لعلم اللاهوت جذرياً وبدأ في طرح تساؤلات لاهوتية جديدة والبحث عن طريقة جديدة لصناعة اللاهوت.

لقد كان اللاهوتي الألماني صادقاً وصادماً معاً، صادقاً في البحث عن ذاك الذي جعل الإنسان ذئباً لأخيه الإنسان كما ذهب "هوبز"، وصادماً لأنّه تساءل إن كان علم اللاهوت المسيحي قد لعب دوراً فيما حدث لليهود من كارثة.

وعليه فقد حاول التفكير في إعادة الرؤى اللاهوتية لتواكب التطور التاريخي للبشر، وبالتالي لا يمكن الاستمرار بطريقة صياغة اللاهوت كما اعتدنا عليها، وكأن كارثة أوشفيتز لم تكن.. ما هو عمق قراءة هذا اللاهوتي الألماني الشهير للمحرقة النازية؟

إنه في واقع الأمر يشرح في كتاباته كيف يمكن إعادة التفكير اللاهوتي انطلاقاً من كارثة أوشفيتز من هذا المنطلق، ويقترح "متس" لاهوتيا جديداً مهمته الحيلولة دون تكرار كارثة بشرية كاوشفيتز في المستقبل.

والشاهد أن صفحات الكتاب توضح بالتحليل والوصف المسهب فكر الرجل الذي يصغى لصراخ الضحايا، ويحاول إنتاج فكر لاهوتي لا يساهم، ولو بطريقة غير مباشرة، في حدوث مآسٍ ضد شعب أو فئة بعينها، إنه يقدم للأوربيين لاهوتاً سياسياً جديداً، ليشكل حائط صد ضد أيّ استغلال سياسي للأفكار اللاهوتية، لقد عاش "متس" ذلك في صباه، ورأى كيف استغل النازيون أفكاراً لاهوتية ومشاعر دينية في تأجيج معاداة السامية، وقتل ملايين الأبرياء.

هل لنا أن نجمل موضوع هذا الكتاب لا سيما لغير الاختصاصيين في علوم اللاهوت والفقه وما نحوهما؟

 إليكم ما نستخلصه من القراءة الممحصة لهذا العمل، وما قبله من رؤى وطروحات لاهوتية، وانعكاساتها على العالم المعاصر.

أولاً: اللاهوت السياسي في صيغته التي اقترحها "متس" هو لاهوت منفتح على العالم، وفي الوقت عينه يحترم التمييز بين الدين والدولة، وهو لاهوت تصحيحي يسعى إلى الحيلولة دون تكرار مأساة أخرى كأوشفيتز. فهو بهذا المعنى ينتقد بشدة أي أفكار قد تؤدى إلى تكرار تلك المأساة، يمضى هذا اللاهوت نحو ما هو أبعد من أوشفيتز، إنه يهتم بالضحايا الذين عانوا مصيراً كهذا في التاريخ، هذا ما يشير إليه البعد الشامل لهذا النوع من اللاهوت.

بالتالي، يوضع هذا اللاهوت داخل مجال اللاهوت الأساسي، إذ يركز على العلاقة الأساسية للفهم اللاهوتي بشكل عام، ومن خلال ذلك، يحمل نقداً تصحيحياً للنزعة الفردانية التي وسمت اللاهوت الغربي في النصف الأول من القرن العشرين. كما أنه حاول تدريجياً صياغة الشروط التي تجعل اللاهوت المعاصر أميناً لهويته المسيحية.

يتمثل رد "متس" على التحدي الذي يواجه لاهوت ما بعد أوشفيتز في نقد أبائية ومثالية اللاهوت التقليدي بشأن الكوارث، ويصبح "متس" واعياً بأهمية وضع الكوارث التي يسببها الإنسان داخل التفكير اللاهوتي. ويرى وجوب وضع أوشفيتز داخل كل تفكير حول الشر فنحن نتحول من مسيحية متبرئة من المحرقة إلى مسيحية تعترف بتأثيرها في هذه المأساة - على حد قول المؤلف - فالمجتمع ذو الاغلبية المسيحية قد ساهم بلا مبالاته في بعض الأحيان في القضاء على الملايين من اليهود، ولهذا يرى "متس" أن الخالق يشعر بمعاناة البشر، وهو بطريقة ما، ينحى منحى اللاهوتي "هانس يوناس"، في نقده لبعض أنواع اللاهوت التقليدي الذي كان يصف الله باللامبالاة، "نستطيع أن نصلي بعد أوشفيتز لأننا حتى في أوشفيتز قد صلينا".

والشاهد أن في بحث "متس" في العلاقة بين الشعب اليهودي والإيمان المسيحي نستطيع أن نرى أن لاهوته على وجه التحديد لاهوت غربي، وبشكل خاص لاهوت ألماني.

هنا تبرز الهوية العربية، والوجه المصري والإنساني للباحث الأب جبرائيل، المسيحي الديانة، الكاثوليكي المذهب، العربي الهوية، اذ لم تطغى سمته الدينية على هويته العرقية، ولهذا يتساءل عبر صفحات كتابه سؤالاً جوهرياً، حبذا لو تأمله صناع القرار في عالمنا العربي مليا.... "كيف يمكن استخدام أفكار اللاهوتي الألماني "متس" في الوضع الذي يعيش فيه العرب في فلسطين اليوم؟ وهل يمكن استخدام أفكار متس بشأن أوشفيتز للقياس عليها بالنسبة للعرب مسلمين ومسيحيين، داخل فلسطين، لا سيما وأن الكوميديا السوداء هنا هي أن بعض الناجين من أوشفيتز بأنفسهم أو عن طريق نسلهم هم من يقومون بتعذيب العرب واغتيالهم؟

يدعو الكتاب العالم المسيحي الغربي لأن يقرأ "الكتاب المقدس" من وجهة نظر المظلومين وليس فقط من وجهة نظر شعب بني إسرائيل الحالي فقط.

وعلى الرغم من أن "متس" لم يطبق وجهة نظره على شعوب أخرى، على الرغم أيضاً من أنه بين صراحة أن أوشفيتز تلحظ في ذاتها كل المذابح التي ارتكبت عبر التاريخ، فإنه يمكن لفكر اللاهوت السياسي أن يلهمنا بأفكار جديدة فيما يتعلق بوضع العالم العربي اليوم، وبشكل خاص في فلسطين.

ينقصنا بشدة تفكير لاهوتي يتناول الصراع العربي – الاسرائيلي. إن كان "متس" يعتبر أن اللاهوت بعد حدوث كارثة أوشفيتز لا يمكن أن يظل كما هو، فهكذا نستطيع القول بأن اللاهوت، على الأقل في العالم العربي، لا يستطيع أن يبقى كما هو بعد تأسيس دولة إسرائيل الحديثة.

 وإذا كانت مسألة الشر قد طرحت في أوشفيتز بسبب الشر الذي ارتكبه النازيون، يعود السؤال أقسى عندما يكون المتسبب في هذا الشر بعض الناجين من جحيم أوشفيتز، وهنا يصبح السؤال حول صلاح الله أكثر صعوبة عندما يرتكب الشر، الشعب الذي أطلق عليه ذات مرة من التاريخ القديم "شعب الله"، كما يدعي نفر كبير من الإسرائيليين المعاصرين.

أفضل رؤية يبشر بها الباحث المصري الشاب الاب جون جبرائيل - إن جاز أن تكون الكلمة الصادقة بشارة في حد ذاتها - القول إنه إذا ما تنحى اللاهوت جابنا وأغمض عينيه من المسألة الاجتماعية والسياسية، أما يكون قد قام بخصخصة للإيمان؟ أي أن يصير الدين شأنا خاصاً وشخصياً فحسب، وبدون أي طابع جماعي أو اجتماعي؟.

 اللاهوت السياسي كما يقدمه "متس" لاهوت يفضح ويصحح كل أسس فكرية لاهوتية، قد تستخدم ضد جنس بعينه، أو فئة بعينها، بل ويسعى إلى حمايتها. نستطيع القول إن اللاهوت السياسي يعني أن السيد المسيح نفسه (بحسب المفهوم المسيحي) قد قتل بسبب هذا التلاعب، والنفاق والمصالح المشتركة بين أصحاب التيارين الدينى، والسياسي. وعلى غرار ما حدث للسيد المسيح، تباح اليوم دماء الأبرياء، كما جرى الحال بالضبط في زمن حكم النازيين في ألمانيا، وكما يضيع الفقراء في العالم اليوم، وما يحدث على أرض فلسطين ضد سكانها الأصليين من مسيحيين ومسلمين على يد قوى الاحتلال الاسرائيلي، إنه لاهوت يحاول أن يمنع تكرار ما حدث ليسوع وما حدث لليهود في اوشفيتز مرة أخرى.

هل تكشف صفحات الكتاب عن "ازدواج أخلاقي" غربي مبين وفج؟ ذلك كذلك بالفعل فالغرب في محاولاته المستميتة من أجل رد الاعتبار إلى اليهود بسبب ما ارتكبه ضدهم من ظلم في بعض الدول الأوربية، قد قام بذلك على حساب شعب فلسطين، وعلى أرضهم، وهو بالتالي أراد إصلاح ظلم بظلم أخر.

أفضل ما في الكتاب أن مؤلفه رجل الدين المسيحي الكاثوليكي العربي، يقوم في هذا الإطار بتوجيه اللوم والتقريع الشديدين لنظراء له من رجال الدين واللاهوتيين الغربيين، وهنا تتجلى موضوعية البحث العلمي من جهة، وأصالة المسيحيين الشرقيين من جهة ثانية، وهو أمر يكتسب معنى ومبنى خاصا، في هذا التوقيت القاتل والحاسم والذي فيه يتم تهجير المسيحيين العرب على يد جماعات ظلامية أصولية كداعش وغيرها.

يتناول المؤلف بالنقد بعض اللاهوتيين مثل "فرانتس موسنر"، و"مارسيل دو بوا"، اللذان ذهبا إلى إعطاء شرعية لاهوتية وكتابية إلى ذلك الظلم المرتكب ضد الشعب الفلسطيني، بدلاً أن يكون تفكيرهم اللاهوتي والإنجيلي، وكلمة الله المؤتمنين عليها، مساعداً لهم في تصحيح تفسيراتهم، وأن يروا في تلك الكلمة نبع حياة لجميع البشر.

نتيجة لذلك وبالطبع لأسباب أخرى أكثر من ذلك، يعاني الفلسطينيون من احتلال أرضهم وأرض أجدادهم، والأبعد من ذلك يتألم المسيحيون من التفسيرات الخاطئة التي يقوم بها بعض اللاهوتيين.

الخلاصة النهائية لهذا العمل المتميز وربما الأول من نوعه في المكتبة العربية المعاصرة، هي إن كل لاهوت يدعي تفسير الاحتلال اعتماداً على الكتب المقدسة والإيمان، بعيد عن الإيمان المسيحي الحقيقي، وإن كل دعوة تنادي بالعنف وإعلان الحرب المقدسة باسم الله من أجل مصالح البشر في لحظة تاريخية بعينها، إنما هو لاهوت مغلوط يشوه صورة الخالق في بني البشر وداخلهم، اولئك الذين يعانون الظلم السياسي واللاهوتي ويدفعون أثماناً باهظة لأخطاء وخطايا لا ذنب لهم فيها، ولم تقترفها أيديهم.

--------------------------------------------------------------------------

اسم الكتاب : اللاهوت السياسي .. هل من روحانية سياسية؟

المؤلف : الأب جون جبرائيل الدومنيكاني

الناشر : شركة الطباعة المصرية

تاريخ النشر : 2015

عدد الصفحات :120 صفحة

*مدير مركز الحقيقة للدراسات السياسية والاستراتيجية بالقاهرة

أخبار ذات صلة