عبد الله العليان*
لاشك أنّ أهمية النقد، تكمن في التقويم والبناء، على أسس صحيحة، وهو تيار ظهر في كل الأمم والحضارات الإنسانية على التاريخ، وليس وقفا على الحضارة الغربية وحدها، ولذلك لا تخلو حضارة من النقد بشكل أو بآخر، فالفكر الفلسفي ارتبط بالانسان منذ القدم والعقل بطبيعته يسأل ويتساءل، قبل أن يحكم، ويتشكك قبل أن يقتنع، ويحاور نفسه وعقله فيما طرح عليه، فالنقد مفتاح ـ كما يقال ـ مفاتح تقدم الفكر والمجتمع، وهذا ما تتطلبه حركة التاريخ، ولم يسلم من النقد حتى النقد ، أو ما يسمى (بنقد النقد)، حتى الحداثة، وهي أعز ما أنتجه الغرب ـ كما يقول د/ حسن حنفي ـ أصبحت موضوعا للنقد، وبل والنقد العنيف في كثير من الأحيان.
وظيفة النقد وجدارته
وهذا ما عزز أهمية ودور النقد في اكتناه ورصد الأفكار الفلسفية والفكرية المنشورة ، خاصة المعاصرة. ففي كتابه الصادر حديثا والذي يحمل عنوان ( في النقد الفلسفي المعاصر.. مصادره الغربية وتجلياته العربية)، يرى د. محمد نور الدين أفاية، أن الفكر النقدي يستمد جدارته، ويكتسب وظيفته، ويستحق تسميته، كلما انتزع لذاته فضاءً مناسباً في الإنتاج الفكري والنظري والثقافي. وذلك ما لا يمكن الوصول إليه من دون تفكير مُنتبه إلى العمل الفلسفي والفكري، باعتباره تفكيراً مجادلاً، مساجلاً، برهانياً، باحثاً عن المعنى. فالنقد، أو التعليق النقدي، كما يقول جان فرانسوا ليوتار، يجب ألّا يتحول إلى فعل اضطهاد لموضوع التعليق. لذلك كان النقد، دائماً قضية نقدية، إلى درجة أنّ البعض يرى أنّ تسمية النقد تسمية زائدة، لأنّه مقترن بكل خطاب يفكر بالفعل.
إذا كان النقد قد مثَّل أساساً مُكوِّناً لفكر الأنوار إلى جانب العقل؛ حيث تمَّ توظيفه، في سياق الصراع بين القديم والجديد، والتمييز بين الصواب والخطأ إلى درجة تحوّل فيها إلى محكمة، كما سماها كانط، أو إلى نقد مراقِب، فإن الفكر الحديث والمعاصر حوَّل النقد إلى نمط من الفكر، إلى سلوك، بل إلى علاقة اجتماعية يكتسب فيها صفة التخصص المنتج لمعرفة يقظة.
وهنا شهد تاريخ النقد، باعتباره ترجمة لفعل التفكير في الوجود، أشكالاً متنوعة انطلقت من مرجعيات توزعت بين النقد المعياري، والأكاديمي، أو الأيديولوجي، انطلاقاً من اعتبار النقد شرط إمكانٍ تأسيسيٍ لكل فكر عند كانط، مروراً بالنقد الجسور للاقتصاد السياسي بهدف التغيير الاجتماعي عند ماركس، إلى الأشكال المختلفة للإخفاق الثوري التي اقتضت الاحتفاظ بما سماه تيودور أدورنو "الجدل السلبي" إلى آخر انفتاحات دريدا التفكيكية.
عُرف القرن الثامن عشر بـ"قرن النقد" ، وارتبطت هذه الخاصية، كما هو معروف، بحركة عامّة، فلسفية، ودينية، وسياسية، سعت لخلخلة البنية الفكرية والعقائدية والاجتماعية اعتماداً على قاعدة فكرية تتبرّم من الفكر اللاهوتي، والخرافات التي كبّلت تفكير الإنسان الأوروبي وسلوكه. ودعت إلى إطلاق حرية الفكر والمعتقد، والقيام بنقد شامل للأشياء والمؤسسات، والأفكار والسياسات، وإخضاع كل المواضيع لميزان العقل. غير أنّ الأنوار لم تكتفِ بإشهار الإيمان بالعقل، أو بقدرته على تجاوز الحدود التي كرّستها قرون من الفلسفة السكولاستيكية واللاهوت، كما أنّها لم تمنح العقل مهمة القيام بفعل النقد بكيفية عشوائية، لأنّها نظرت إلى هذه العمليّة بوصفها حركة تاريخيّة شاملة تتعلّق بالطرق الملائمة لتحرير الإنسان ولانخراطه الكلّي في مشروع حياة جديدة انطلاقاً من أنماط تنظيم مغايرة تضع الإنسان في قلب انشغالاتها، وتراعي فيها مبادئ كبرى تتمثل، فضلاً عن العقلانية، بالحريّة، والفردانيّة، والمساواة، والعدالة.
شهد الفكر النقدي، عبر تاريخه، تفاوتاً في نوعية حضوره في مختلف الحقول النظرية. وعلى الرغم من الاجتياح الكبير للتيارات التي تؤجج ملكات الإدراك، وتستفزّ الانفعالات ومختلف تعبيرات المتخيّل، وتستهدف، في الآن ذاته، محاصرة قدرات الوعي، والتشويش على مقتضيات النظر النقدي؛ وعلى الرغم من المستجدات التقنية والاقتصادية والإعلامية التي يعمل زمن العالم على ابتداعها في كل لحظة وحين؛ فإنّ القدرات المعرفيّة لفهم الذات الإنسانيّة، والواقع الاجتماعي، وآليات السلطة، بكل أشكالها، لم تكن بالغنى والقوة التي هي بهما اليوم. وذلك ما يشهد عليه التراكم اللامحدود للمعارف، وتقنيات المعاينة والبحث في مجالات التاريخ، والأنثروبولوجيا، والفن، والعلوم الاجتماعية، باستثناء علم الاقتصاد ومباحث السياسة التي تعتبر، في حسبان العديد من المفكرين النقديين، حقلين لإنتاج عناصر السلطة، ولصوغ خطابات تميل إلى التبرير وإضفاء الشرعيّة على النظام أكثر مما تقترح فكراً نقدياً يزعج المؤسسة، ويُسائل معطيات الواقع القائم.
انفتاحات الأسئلة
لقد أسهمت الفلسفة والعلوم الإنسانيّة والفن في التأسيس المتجدد للسؤال، كما يرى نور الدين أفاية، وفي بلورة تصورات نقدية للذات، والعالم، والمجتمع، والسياسة، والأخلاق. ومنحت الفكر النقدي حضوراً دائماً من حيث هو يقترح على الفكر الإنساني انفتاحات في منتهى الكثافة والغنى.
لهذا يفترض في الفكر النقدي، كيفما كانت مرجعيته النظرية، مراعاة سياقات التفكير في زمن العالم، والتمظهرات العامة التي تنتج منه، والعمل على تعرية نقائصه وأعطابه، وإبراز عناصر القوة فيه، وما يعتمل داخله من عوامل إيجابية، وما قد يولّده من شروط العيش الكريم، وإسعاد الإنسان؛ ذلك أنّ الفكر النقدي، كما يقول ماتيو ليبمان، فكر راقٍ بقدر ما هو مُنتبه وإبداعي. فنمط الحياة الذي نختاره، أو نُنتجه، أو نتقاسمه مع الآخرين مرتبط بنوعيّة أفكارنا وتصورنا للحياة والإنسان. وسوء هذه الأفكار أو ضعفها ينعكسان بالضرورة، على حياتنا وقد نقدم تكلفة باهظة لتدبير تداعياتها على ذواتنا وعلى علاقاتنا وعلى الآخرين، على توازننا، وصحتنا، ومواقفنا من السياسة، والدين، والفن، والمعرفة.
للفكر النقدي مرجعيات نظرية متعددة، بل مرجعيّات أيديولوجية مختلفة، وقد تحولت تسمية (الفكر النقدي)، في السياق الفكري الأمريكي، إلى عنوان لتيار في الفلسفة التحليلية الأمريكية التي تمنح أهمية حاسمة للغة، وتؤكد مقتضيات وقواعد البرهنة والحِجاج. أمّا في التداول الفكري الأوروبي، باختلاف الساحات والحساسيات الفكرية، فقد أثرت العقلانية، بشكل كبير، في مساره، حتى وإن تعرضت هي ذاتها للنقد، ولا سيَّما أن الفكري النقدي فكر ناقد لذاته في الوقت نفسه الذي يوجّه أسلحته لما هو خارج عنه، يستند إلى السؤال، يستشكل الأفكار والمفاهيم، يخلخل طمأنينة العادة، ويعاند الركون إلى التكرار السطحي والفكر المُعلّب. وسواء كان محكمة، أو محاسبة جدلية، أو مطرقة، أو إستراتيجية تفكيك، فهو يعمل، بلا توقف، على تجذير الروح النقدية في الفكر والنظر، وعلى بناء الكفاءات الذهنية والمعارف المناسبة لممارسة الفعل النقدي على الذات، والسلطة، والمؤسسة، والتاريخ.
تختلف حمولات دلالية مفهوم النقد باختلاف السياق التاريخي واللحظة الفكرية والاهتمامات السوسيو - سياسية ؛ فهو شك في المعرفة المكتسبة ومراجعة لأساسياتها؛ وهو محكمة تشرع للمعرفة اعتماداً على قواعد العقل؛ وهو تأزيم للأشياء والنصوص والأفكار؛ وهو نقص جذري للأسس العامة التي ينبني عليها المجتمع القائم على العلاقات اللامتكافئة.
وهكذا فإن مسألة النقد، كما طرحها وعممها الاتجاه النقدي في الفلسفة، والفلسفة الكانطية بوجه أخص، ارتبطت من الزاوية التاريخية بإشكالية التخلف؛ فالأحداث التاريخية التي عاشتها أقطار أوروبا لم تكن متشابهة في كل البلدان، بل إن التطور الاقتصادي والاجتماعي لبرجوازية بعض هذه الدول إنكلترا ـ كما يقول الباحث نور الدين أفاية ـ كفرنسا وألمانيا، يختلف جذرياً من دولة إلى دولة، وإن الاختلاف ينعكس بصفة بديهية، على جموع الثقافة الوطنية، وكذا على الفكر الفلسفي بالخصوص". إذ إن المنظومات الفلسفية الكبرى التي أثرت، من قريب أو بعيد، في مجرى حياة المجتمعات التي انبقثت منها، لم تكن متشابهة ومتطابقة في قضاياها ومفاهيمها و مناهجها. ذلك أن ديكارت، ولايبنتيز، وكانط، وهيوم، ولوك، وفلاسفة التنوير، وفيخته وشيلينغ وهيغل، يتميز كل واحد منهم من غيره، سواء كان هذا الفيلسوف مواطناً من البلد نفسه، أم فيلسوفاً أوروبياً من البلد المجاور. ويرجع هذا التمايز والاختلاف، بالدرجة الأولى إلى تمايز تطور مجتمعاتهم ونمط تفكيرهم واختلافه.
غير أنّ هذا التمايز والاختلاف بين فلاسفة هذه البلدان لم يمنع من تلمس بعض الصفات المشتركة بينهم، وتعيين بعض الملامح التي تجمعهم وتتوحد رؤيتهم حولها مثل العدالة، والفردانية، والحرية باعتبارها مفهوماً مركزياً استقطب كل الاجتهادات الفكرية والفلسفية في القرن الثامن عشر سواءٌ عُبِّرَ عنه في العقلانية أو التجريبية أو الفلسفة النقدية الترانسندنتالية.
التغييرات الفكرية وأثرها التفلسف
أدّى التطور التاريخي، كما يقول نور الدين أفاية، بمستوياته وأبعاده كافة إلى إحداث تحولات جذرية في بُنى بعض المجتمعات الأوروبية (انكلترا، فرنسا...) في حين أن بعضها الآخر (ألمانيا...) لم يتفاعل مع هذه التحولات لأسباب عديدة في طليعتها ضعف القوى الاجتماعية ذات المضامين التحررية والعقلانية. وبالرغم من واقع التأخر الألماني أو بسببه تبنّى الفلاسفة الألمان، على المستوى الفكري والفلسفي، ما كان يحدث في البلدان المجاورة من ثَورَات وتحولات، وتفاعلوا مع منجزاتها الاقتصادية والسياسية والفكرية، الأمر الذي أدى بكارل ماركس (1818-1883) إلى القول: (عمل الألمان على التفكير في ما عملت الشعوب الأخرى على تطبيقه في السياسة).
ومن المعلوم أن القرن الثامن عشر الأوروبي عرف بـ "قرن النقد". وقد ارتبط هذا النقد بحركة دينية وفلسفية شاملة ابتدأت "في انكلترا وفرنسا بتكسير الشكل الساقط للمعرفة الفلسفية، التي تمثل بشكل النسق الميتافيزيقي"، وذلك برفع شعار محاربة الميتافيزيقا واللاهوت والخرافات التي تكبل تفكير الإنسان الأوروبي وتبلد عقله، كما نادت هذه الفلسفة بمنح الحرية للعقل، والقيام بنقد شامل لكل الأشياء والظواهر والمؤسسات والمفاهيم، وإخضاع هذه المواضيع جميعها لمحك العقل، والخروج بأوروبا من ظلام الجمود والظلم والأساطير إلى أنوار العقل والحرية والتقدم.
إنّ من بين المشاكل التي تواجه الفلسفة، أنّه في الوقت الذي امتلكت في العلوم التجريبية والإنسانية موضوعاتها بقيت الفلسفة من دون موضوع؛ ذلك أنّ القول إنّ الفلسفة هي تساؤل عن الإنسان والمجتمع والطبيعة والتاريخ قول لا يصمد أمام الملاحظة، كما يشير أفاية، لأن للإنسان علومه، وللمجتمع علومه، وللطبيعة علومها، وللتاريخ مباحثه. ماذا بقي للفلسفة إذن؟ هل صفة التساؤل وحدها كافية لنعت تفكير ما بأنه فلسفي؟ أم أنّ الفلسفة تفترض، إضافة إلى شرط السؤال، مقاييس أخرى تنفرد بها؟ ثم هل الفلسفة في الزمن المعاصر، بقيت رهينة الذات ومسألة الوعي، أم أنها بفضل مختلف الانفتاحات المعرفية، توظف المفهوم.
إذا كانت الفلسفة تتميز بقدراتها على التساؤل عن مكونات الفكر، ومنطق التاريخ ومفاصل السلطة، وتستفيد ـ كما يقول أفاية ـ من نتائج العلوم التجريبية والإنسانية وتتفاعل مع معطياتها، وإذا كان تفكيرها يفترض إنتاج مفاهيم أو استعمالها في علاقتها المتوترة بالواقع واللحظة المعيشة، وأنّها تحتاج من أجل هذا الإنتاج أو ذلك الاستعمال، إلى نوع آخر من الانسجام أو النسقية في برهنتها، فإن هذه الفلسفة لايمكنها أن تنتج نصاً فلسفياً كلياً من دون السقوط في الانغلاق النسقي. لذلك فإن كل فلسفة تعاند النسق، وتقاوم قدرته على الاستيعاب والاحتواء تكون فلسفة متعددة المستويات تتخذ من النقد والسلب أفقاً جوهرياً للتفكير، وتنتج نصاً جمعياً متعدد الموضوعات والإحالات لا يستقر على حقيقة نهائية، أو على مرجع مطلق.
فكل حديث عن الفلسفة حديث، كما يرى الباحث، متحيّز، إذ تتشابك فيه أشكال السلطة، اللغوية والتربوية والسياسية كافة، فأول نسق فلسفي، في تاريخ الفلسفة، انبنى على أساس تصوُّر "جمهورية فاضلة" لها مكوِّناتها الاجتماعية، وتراتبها الفكري، وتوازنها البنيوي. ولم يكن اعتباطياً ذلك التركيز الذي قام به أفلاطون، على تمفصل الفلسفة وأسلوب حكم المدينة. المهم أن الفلسفة، كنمط خصوصي من التفكير، حسب المرحلة التاريخية واللحظة المعرفية، كانت تتفاعل، دوماً، مع لعب السلطة والسياسة، سواء بمساندتها أو بمعارضتها أو بالابتعاد عنها.
التحولات والانقطاعات
وفي ضوء التحولات التي طرأت على تاريخ الفكر الإنساني، والقطائع التي وقعت في مختلف الحقول المعرفية، سحبت من الفلسفة الموضوعات التقليدية التي كانت توفر لها شروط أخذ الكلمة، وغدت، بالتدريج، بلا موضوع. فالقول إنّ الفلسفة هي تصور عام للكون والمجتمع والإنسان، لم يُعد تحديداً مقنعاً طالما أنّ هناك اهتمامات علمية جديدة تدرس مسائل الكون والمجتمع والإنسان. وانتقلت الفلسفة من الصورة المجازية الديكارتية، التي تعتبرها شجرة جذورها الميتافيزيقا وفروعها مختلف العلوم، إلى مواجهة وضعيتها الإشكالية التي لم يعُد لها فيها أي موضوع خصوصي تتفرد، فعلاً، بمعالجته ويعطيها شرعيتها الثقافية.
هناك نزعتان تتواجهان بهدف التموقع في مساحة المناقشات الفلسفية الوطنية والدولية حول الهوية، والقيم، والاختلاف؛ تعطي النزعة الأولى أهمية استثنائية لـ"التصور الهوياتي للثقافة"، من خلال العمل على تأطير الشعوب، والإثنيات والجهات داخل ما تنعته بتعبيرات الخصوصية. وهي نزعة هيمنية تنظر إلى الآخر باعتباره كائناً عدائياً أو عدوانياً، مزعجاً، بل ويشكل تهديداً دائماً. وفي مواجهة هذا النموذج السائد ينتفض المُستبعَدون (ذوو النزعة الثانية) بطرق مختلفة –أحياناً عنيفة- لتكسير دائرة الإلغاء، ولكن بواسطة التشبّث المتشنّج بمطالب هوياتية باسم اختلاف ذي تلوينات جهوية، أو وطنية، أو دينية، أو لغوية.
الوعي العربي بقضايا واقعهم.
هكذا يعبّر المُستبعدون والمُستضعفون عن وجودهم، أو عن إنسانيّتهم مطالبين بالاعتراف. إنّهم يدعون هكذا إلى احترام شرط المساواة باعتماد الحقوق الإنسانية.
وسواء تعلق الأمر بالنزعة "الهوياتية" أو الهيمنية، أو بمختلف ردود الأفعال باسم الاختلاف، فإنّ الديناميات الثقافية الجارية، المصاحبة للعولمة، تضع الجميع في وضعيات معقّدة، ذلك أنّ الثقافة، في سياق التواصل المعولم، تنتزع الشخص من ارتهانه لما هو خاص، أو محلي، وترمي به في ما يتخطّى الوطن، كما توفر له إمكانيّات هائلة للانخراط في زمن العالم باستثماره لغنى التعبيرات المحلية والخصوصية.
ولعلّ بعض المشتغلين في الحقل المعرفي والفلسفي في الثقافة العربية يدركون الشقاء الذي يسكن هذا الوعي، ويقفون عند بعض ملامح الغربة التي يعبر عنها، ولا يكف عن إنتاج شروطها واستمرارها، بل إنّ المشتغلين في هذا الحقل وجدوا أنفسهم مرغمين على الانفصال عن تاريخ الفلسفة لينخرطوا في قضايا إشكالية تتداخل فيها الثقافة والسياسة بالحضارة ن ويتشابك فيها التاريخ والأيديولوجيا ..
في هذا السياق، بدأ وعي عربي ذو طبيعة نقدية يتحرك وهو يسعى إلى خلخلة الفهم المشترك الذي تعّود عليه الإنسان العربي سواء في تعامله مع ذاته أو تراثه أو واقعه أو في سلوكه إزاء مظاهر الحداثة وأشكال التنظيم العقلانية كافة. يتحرك هذا الوعي بصورة ملحوظة داخل مناخ فكري ونفسي متشابك الأطراف والاعتبارات لكنه يبدو جذرياً في منطقاته وغاياته وخصوصاً أنه اشترط عليه الواقع التاريخي العربي-الإسلامي ضرورة الاحتكاك بالفكر الغربي بقدر ما فرض عليه مساءلة أساسيات الثقافة العربية- الإسلامية. لذلك خلصت بعض الجهود النظرية العربية إلى قول إن كل تقييم للتراث العربي-الإسلامي يستدعي بشكل حاسم البدء بالكشف عن مكوّنات العقل الذي أنتج هذا التراث الذي لم يستطع العرب الابتعاد عنه لأنهم يفتقرون إلى المعرفة الضرورية به أولاً ثم إلى وضع هذه المكونات موضع المساءلة والتحليل النقدي، ثانياً حتى يتم (تصفيه الحساب) العقلاني مع هذا التراث الذي يجثم على الواقع العربي- الإسلامي في أشكاله التي تعاند كل محاولة عقلانية وكل مبادرة مبدعة.
توزع الفكر العربي في زمن النهضة بين اتجاهين: سلفي وليبرالي، وسيطرت عليه إشكالية مركزية تمثلت في ما اصطلح على تسميته بإشكالية الأصالة والمعاصرة. وصِيغ بعض عناصر هذا الفكر داخل سياق تاريخي تميّزه الظاهرة الاستعمارية بكل تجليّاتها وتعابيرها. فالغرب مثَّل- ولا يزال- تحدياً وجودياً وحضارياً عارماً أثّر في جل الكتابات العربية منذ أواسط القرن التاسع عشر بل تحول إلى إطار مرجعي للمفكرين العرب، سواء أعلنوا عن ذلك صراحة كما هو الحال بالنسبة للمفكرين الليبراليين والعلمانيين العرب أو تكّتموا على ذلك وسكتوا ولكن يسكن نصوصهم بالرغم منهم.
يُعلمنا التاريخ أن الفلسفة- خصوصاً في التاريخ الفكري للغرب- كانت تشمل كل العلوم والأنشطة الفكرية في فترة من الفترات الزمنية. فكان فيلسوف النسقي لا يترك مجالاً إلا ويُخضعه لنمط سؤاله العام ويدخله ضمن تصوره عن العالم والإنسان والمجتمع.
فكّر أفلاطون في السياسة والرياضيات والاجتماع والفن والأدب والحرب والسلم والنحو واللغة ولم يترك اهتماماً إلا وعمل على ضمّه داخل نظامه الفلسفي الشامل. وليس أفلاطون سوى مثال واحد يُبيّن مدى النسقية التي كان عليها الفكر الفلسفي طوال فترات كثيرة من التاريخ الغربي.
ويمكن أن نقول بالرغم من كل أشكال التساكن والتعايش التي عرفتها العلاقة بين الأدب والفلسفة ـن هذين النمطين من الكتابة كانا دائماً في حالة صراع فكل نمط يعتبر ذاته قطع أشواطًا في سبيل تلمّس الحقيقة أو اكتنه كثيراً من الحقائق.
لذلك لا يسلم النقد من النقد، لأن هذا الإجراء العقلي ملتصق بلعبة اللغة وبإنتاج الخطاب ومن البديهي أن يتفاوت نمط حضور وطرق ممارسة الفكر النقدي من سياق (ثقافي) إلى آخر,ومن مجتمع إلى آخر.
****
ويرى البعض أن النهضة العربية المعاصرة الأولى، قامت قبل أن يكتمل النقد، وما زال الواقع العربي، إمّا يستمد من الموروث القديم، أو الوافد الجديد، وعلينا في العالم العربي أن نعزز وظيفة النقد، وتصحيح العلاقة بالماضي، دون الانقطاع عنه، أو التواصل معه، مع نقده نقدًا عادلا، كما علينا أن ننقد الوافد الجديد من الغرب، دون أن نتحامل عليه، لكن لا نلغي ذواتنا فيه، لمجرد أنه قطع شوطا كبيرا في مناهجه ووظائفه المعرفية والفلسفية.
---------------------------------------------------------------------
عنوان الكتاب: في النقد الفلسفي المعاصر.. مصادره الغربية وتجلياته العربية
المؤلف : محمد نور الدين أفاية.
الناشر : مركز دراسات الوحدة العربية، 2014.
عدد الصفحات : 288
باحث وكاتب عماني
