خطاب العدالة في كتب الآداب السلطانية

ImageResize.jpeg

لإبراهيم القادري بوتشيش

ماجد بن حمد العلوي

توطئة: يرمي كتاب خطاب العدالة في كتب الآداب السلطانية إلى فحص مادة تراثية أسهمت في تشكيل العقل العربي وما زالت، ولا سيما العقل السياسي، وعلى الرغم من تنوع المرجعيات المنشئة لكتب الآداب السلطانية إلا أنها إلى السياسة أقرب من الحقول الإنسانية الأخرى، غير أنّ الباحث سبر أغوار مدونته المتمثلة في أربعة من كتب الآداب السلطانية بنهج لساني حديث اتبع فيه خطوات تحليل الخطاب، وقد تضمن عنوان هذه الدراسة عدة كلمات مفتاحية تُشير إلى الحقل الإنساني الذي ارتضاه الباحث لنفسه، وإلى المنهج الذي سيفكك فيه ذلك المخزون الثقافي المتراكم، فالباحث وجد نفسه أمام شبكة معقدة من العلاقات الاجتماعية والسياسية والثقافية أنتجت ملفوظات عديدة كخطاب يسعى إلى صياغة وثيقة تحكم العلاقة بين الحاكم بالمحكوم، ولكن هذه الوثيقة أرادت فرض هيمنة تارة، وقداسة تارة أخرى عبر التاريخ، وعليه فقد تكفلت المرجعية الواقعية لفرض ما تصبو إليه من هيمنة، وتكفل الفهم الديني الظاهري للنص إضفاء القداسة، وهنا تظهر الخطورة لأن الخلل في الموازنة يهضم حق أحد الطرفين المتعاقدين دون إلقاء المسؤولية على الغالب، وهذا دون شك ينحت في بنية مفهوم العدالة.  

إن المقصود بخطاب العدالة هو ذلك الخطاب الذي يحمل في مضامينه مفردات إنسانية تضمن المساواة في نيل الحقوق وأداء الواجبات، مثل مراعاة حقوق الإنسان، والحرية، وعلو القانون، وميل العدالة إلى الصبغة القانونية الملزمة لا الأخلاقية المتفاوتة.

أما كتب الآداب السلطانية فهي كتب جاءت على غرار الكثير من كتب الآداب في التراث الإسلامي مثل أدب القاضي، وأدب النديم، وأدب المجالس وغيرها، فكتب الآداب السلطانية ظهرت في فترة الانقلاب من الخلافة إلى الملك، وترمي إلى تأسيس وثيقة مفادها النصيحة في تسيير شؤون السلطة وما يتبعها من أساليب التعامل، وهي خليط من اقتباسات دينية وسياسية وتاريخية واجتماعية، كما أنّ متنها حظي بالعديد من القصص الفارسية وحكاياتهم، والحكم الصينية، والمأثورات الهندية كما أشار الباحث في كتابه.

 لقد اختار الباحث أربعة متون من كتب الآداب السلطانية راعى فيها التنوع المذهبي والجغرافي معللاً ذلك برغبته في تنويع الرؤية وشموليتها، أما بشأن اقتصاره على الأربعة دون غيرها فذلك يرجع إلى التشابه الكبير بينها، فمادتها تعود إلى اقتباسات من موارد محددة، ومتنونها مليئة بالتناص، والنقل الحرفي في بعض الأحيان، حتى تبدو مستنسخة، الأمر الذي يبرره الباحث لنفسه الاكتفاء بهذه الأربعة دون غيرها وهي:

 "نصيحة الملوك" لأبي الحسن الماوردي، "التبر المسبوك في نصيحة الملوك" لأبي حامد الغزالي، "الإشارة في تدبير الإمارة" للقاضي أبي بكر المرادي الحضرمي، و"الشهب اللامعة في السياسة النافعة" لابن رضوان المالقي.

ويسعى الكاتب إلى مقاربة إشكالية خطاب العدالة، من خلال محاولة الإجابة عن ثلاثة أسئلة مركزية، هي:

– ما مفهوم القول بالعدالة في متون الآداب السلطانية؟ وما هو شكل بنائه وحدوده؟ وما هي الموجّهات الناظمة له؟ ثم ما هو مدى إمكان الكشف عن نظامه بوصفه قولًا سياسيًا؟

– ما هي المرجعيات المولّدة لخطاب العدالة لدى مؤلفي الآداب السلطانية في لحظة التشكّل؟

– هل ثمّة موقع لحقوق الإنسان في خطاب العدالة لدى الكتّاب السلطانيين الذين حاولوا التوفيق والتوليف بين تفرد الحاكم "العادل" بالسلطة، والإقرار في الوقت ذاته ببعض حقوق الرعية؟.

      يطرح الباحث هذه الأسئلة مستحضرا مفهوم العدالة وتحركاته في متون الآداب السلطانية ومدى حضور هذا المفهوم ناصعا وخاليا من أي اجتراح، ولكنه في الوقت ذاته يفترض أن هذا الأمر يستحيل الإمساك به وهو يتناول فترة زمنية من التراث الإسلامي ابتعدت عن التجربة الراشدة للحكم الإسلامي.

      2- بيانات الكتاب:

      - خطاب العدالة في كتب الآداب السلطانية/ إبراهيم عبد القادر بوتشيش (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات) الطبعة الأولى، بيروت، كانون الثاني/ يناير 2014م.

      - العنوان بالإنكليزية:

Discourse of Justice in the Sultanic Books of Governance [Al Adaab Al Sultaniyya]

3- الكاتب: إبراهيم القادري بوتشيش، أستاذ التاريخ والحضارة في جامعة مولاي إسماعيل بمكناس- المغرب. رئيس المجموعة المغاربية للدراسات التاريخية، ورئيس وحدة البحث في التاريخ الاقتصادي والاجتماعي. عضو في جمعيات تاريخية عدة، ومشرف علمي على منشورات الزمن. شارك في مؤتمرات دولية عدة، وحصل على جوائز علمية. صدر له العديد من الكتب والأبحاث. كما أشرف على عدد من الأطروحات الجامعية.

4- جوهر الكتاب وأهم استعراضاته: تناول الباحث في بداية الكتاب عناصر خطاب العدالة، وهي المخاطِب والمخاطَب وموضوع الخطاب؛ فصاحب الخطاب أو الطرف المطالِب بالعدالة، هو الكاتب السلطاني، الذي يتوخى إرشاد السلطة إلى الطريق القويم، وتقديم دليل عملي لها في مسألة العدالة وطرائق تطبيقها. والطرف المطالَب بتطبيق العدالة هو السلطان أو السلطة الحاكمة، انطلاقًا من اعتبارين: أولهما القناعة التي يرى الكاتب أنها تتوافق مع الذهنية الإسلامية، بأن صلاح السلطان يؤدي حتمًا إلى صلاح الرعية. وثانيهما، يظهر في اقتناع مؤلفي الآداب السلطانية بشمولية مسؤولية الحاكم. أما موضوع الخطاب فهو العدالة وهو جوهر البحث.  

عند تفاعل هذه العناصر يرى الباحث أن مفهوم العدالة ظل موجهاً حسب ظروف المخاطَب وهو السلطان مراعيا لحيثياته الحكمية التي تختلف عن حيثيات أي شخص من المحكومين، فالنص السلطاني كان بإملاء من السلاطين وإليهم يعود، وبذلك اتسمت الآداب الحاكمة بالمنظور الأخلاقي لا المبدأ القانوني، وبين الأمرين بون شاسع فالعدالة وفق هذا المنظور غير ملزمة للحاكم، إن توخى الحاكم العدل فهو بذلك مأجور، وإن جانبه فهو بذلك معذور، ويؤكد الباحث في أكثر من موضع أن العدالة أصبحت ضربا من القيم الأخلاقية الكمالية، وليست نظرية قانونية علوية نافذة على الحاكم أولاً قبل المحكومين.

ومن أهم المحاور التي تناولها الباحث في كتابه الموجهات الناظمة لخطاب العدالة في الآداب السلطانية، وكانت مقاربته مقاربة أبستمولوجية ينقد من خلالها تلك الموجهات المعرفية المهيمنة على كتب الآداب السلطانية، ومن هذه الموجهات:

أولا: أن السلطان مصدر موّلد للعدالة: يذكر الباحث أن خطاب الآداب السلطانية موجه إلى السلطان أو السلطة السياسية، لا الرعية، بل ويؤكد على أنّ هذه النصوص كانت بإيحاء من السلطان نفسه، مهما اختلفت أساليب الإيحاء. وبما أن الباحث يتبنى هذه النتيجة فإنّ مفهوم العدالة دون شك غير متزن، وخصوصا أن السلطان هو الطرف المسؤول عن تحقيق التوازن والإنصاف، وهو الطرف الأقوى.

ثانيا: أن العدالة مسؤولية أخلاقية غير ملزمة للسلطان: يبدو أن هذا الموجه من أهم الموجهات الملفتة للنظر، فبه انتهاك واضح لمفهوم العدالة السامية، إذ باتت العدالة بهذا المنظور شكلا لا جوهرا، وخلقا كماليا لا واجبا قانونيا، وعليه فإن الكتّاب السلطانيين نزعوا مهمة العدالة من واجبات السلطان تجاه الرعية، ورأوا أن السلطان مسئول أمام الله، وليس من شأن الرعية محاسبته في الدنيا.

وعلاوة على ما سبق فإن الباحث ينقل رأي قطبين من أقطاب الكتاب السلطانيين وهما الغزالي، وابن رضوان، حيث يرى الأول أن العدالة من "كمال العقل"، أما الثاني فشبّهها بـ "فرش البيت"! وحسبك في التشبيهين موقع العدالة في منظومة الآداب السلطانية.

ثالثا: أن العدالة أساسٌ من أسس بناء الدولة وأداة للاستقرار والتوافق الاجتماعي والنماء: استخلص الباحث هذا الموجه من نص أورده صاحب الشهب اللامعة، ويرى أنه ينطوي على ثلاثة مفاهيم نذكرها باختصار.

- العدالة مفهوم يتردد بين المقدس والدنيوي.

- العدالة وسيلة لتحقيق التوافق الاجتماعي.

- تطبيق العدالة يجعل السلطان أكثر مقبولا وعلوا.

ثم ينتقل الباحث إلى محطة أخرى، ويتناولها تناولا أبستمولوجيًا وهي المرجعيات المؤسسة لخطاب العدالة السلطانية، وهي:

1- استنبات العدالة في تربة الاستبداد الشرقي أو "نمط الإنتاج الآسيوي": تناول الباحث ظاهرة الاستبداد الشرقي، ويبدو أنه تحاكم معها بعدة تاريخية مفادها أن المجتمعات الآسيوية كانت تحتاج إلى عمالة ضخمة لتسيير أعمالها الزراعية، وهذه العمالة تتطلب سلطة مركزية لا تسمح بوجود أي معارضة لها لكي تحفظ الأمن، وهنا يبرز مفهوم المفاضلة بين الأمن وإن أُجترح العدل، أو التنازل عن معطيات العدل مقابل الأمن!!

2- مرجعية المأثور الديني: حرص الكاتب السلطانيّ على استحضار النص القرآني ومتون الأحاديث النبوية وبعض أقوال الصحابة في متن خطابه عن العدالة، بالإضافة إلى نصّه على أن السلطان مكلفٌ بحراسة الدين في المجتمع.

3- المرجعية الكونية: يشير الباحث أن الكتب السلطانية تأثرت تأثراً واضحاً بثقافة الآخر، ولذلك لا غرابة من انتشار متون كثيرة من الحكم الصينية، والمأثورات الهندية، وقصص العجم وحكاياتهم.

4- المرجعية التاريخية: اعتمدت كتب الآداب السلطانية في تأسيسها لمفهوم العدالة على مجموعة من المرويات التاريخية والوقائع، التي كان الكاتب السلطاني يتعامل معها كنصّ يخدم مفهوم العدالة السلطانية، وليس تحقيقها أو التأكد من صحتها أو محاولة ضبطها، بل يرى الباحث أن الكتاب السلطانيين يعتمدون على هذه الوقائع التاريخية لإثبات نتيجة تخدم أروقة الحكم، وهي أن العدالة حاضرة حتى في زمن الملك العضوض.

بعد ذكر هذه المرجعيات أخذ الباحث جملة من القضايا تحت عنوانين رئيسيين وهما:

- الحاكم بين ازدواجية السلطة المطلقة والعدالة.

- حقوق الإنسان في خطاب الآداب السلطانية.

يمكن تلخيص هاتين النقطتين على النحو الآتي: يرى الباحث أن كتب الآداب السلطانية حرصت على رسم صورةٍ نمطيةٍ للحاكم العربي-المسلم، وأعطته بموجبها سلطة مطلقة بإزاء الرعيّة، حيث أكدت على تميّز الحاكم وسُمُوّه عن البشر. وعليه فإنّ طاعة الحاكم أصبحت أمرًا مسلمًا به، يصل إلى درجة الوجوب، إذ جعلت هذه الآداب قيمة الطاعة أعلى درجة من قيمة العدالة، فباتت مرتبة وجوب طاعة ولي الأمر قيمة متألقة وفضيلة تعكس روح المواطن الصالح. ولا غرابة في ذلك "فمن عصى السلطان، فقد أطاع الشيطان" كما يقول ابن رضوان!

لم تغفل الآداب مسألة الخلاف بين الفقهاء حول وجوب الطاعة مطلقًا أو وفق شروط، فانقسم الرأي إلى فريقين: أحدهما يرى الطاعة المشروطة بعدالة السلطان، والآخر يقول بالطاعة المطلقة. ويذكر الباحث أن الماوردي اشترط طاعة الملوك بتطبيقهم العدالة، وضمان حقوق الرعية واحترام تعاليم الإسلام، في حين توسع ابن رضوان والطرطوشي والغزالي في قضية الطاعة المطلقة، لذا نجد ابن رضوان مثلاً لا يرى حرجًا في قبول استبداد السلطان "فإذا عدل السلطان كان له الأجر، وعلى الرعيّة الشكر"، وإذا جار كان عليه الإصر وعلى الرعية الصبر"! كل هذه المحطات التي تُثير التعجب لا يرى فيها الباحث إلا تعثرات حضارية تكرس واقعا مؤلما للأمة منشأه الاستبداد والترويج له على حساب تلك القيمة الإسلامية الناصعة وهي العدالة.

5- الإضافات المنهجية: على الرغم من صغر كتاب "خطاب العدالة في كتب الآداب السلطانية" إلا أنه دقيق الإشارة حسن العبارة، فقد توغل الباحث في متون كتب الآداب السلطانية، وقرأ تلك الكتب قراءة فاحصة يتتبع السطور ويلتقط المسكوت عنه ما بين السطور، ومن أهم إضافاته المنهجية فرز ذلك التراث الفكري المتراكم، وتتبع حضور مفهوم العدالة فيه، معتمدًا على لغة واصفة تميل إلى الطرح الفكري الفاحص للأسس المعرفية الموجهة لكتب الآداب السلطانية دون أي إطناب من شأنه ضياع الفكرة والتخلي عن تجليات العدالة، كذلك نجد الباحث اعتمد على محتوى يقدم تصورا عن الظاهرة المراد بحثها، ويسهم في صوغ أفكار جديدة تتناسب مع منجزات العصر التي توصلت لها الإنسانية في زمننا المتباهي بحرصه على مسائل حقوق الإنسان.

ومن أهم هذه الإضافات أيضا الإسهام في إثراء الفكر السياسي العربي بمثل هذه الأطروحات التي تفتقر المكتبة العربية لمثلها، وخصوصا تناولها التراثي بشكل عصري ينجم عنه تشكيل لوعي سياسي راق، وينسف إرثا تعاني منه الأمة في عصرنا هذا بسبب اختلاط المقدس منه بالدنيوي.

6- إطلالة على المراجع: تنوعت مراجع الباحث بين القديم والحديث، وبين الإنتاج الفكري العربي والمراجع الأجنبية، وإن كانت الأخيرة لم تتعدَّ أربعة مراجع. أما مدونته التي ركز عليها فهي أربعة من متون كتب الآداب السلطانية توخى فيها التعدد المذهبي وإن كانت كلها من التراث السني، وراعى فيها كذلك البعد الجغرافي.

7- خاتمة: هذا الكتاب محاولة للإجابة عن ثلاثة أسئلة: مفهوم العدالة في الآداب السلطانية، والمرجعيات المولدة لخطاب العدالة لدى مؤلفي الآداب السلطانية، وموقع حقوق الإنسان في الآداب السلطانية. استطاع الباحث من خلال عدته المتنوعة الغوص في تلك التجربة الفكرية المؤسسة للعقل السياسي العربي، مُثبتا أن هذه التجربة تحتاج إلى المزيد من التصفية مما علق بها من موروثات أجنبية، وفهم سطحي للنصوص الدينية، راغبا في تطوير النظرية السلطانية بما يتوافق مع تحقيق مفهوم العدالة، والانتصار لحقوق الإنسان.

----------------------------------------------------------------------------------

ماجد بن حمد العلوي: باحث وكاتب عُماني

عنوان الكتاب: خطاب العدالة في كتب الآداب السلطانية

Discourse of Justice in the Sultanic Books of Governance [Al Adaab Al Sultaniyya]

المؤلف: إبراهيم عبد القادر بوتشيش

الناشر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات الطبعة الأولى، بيروت، كانون الثاني/ يناير 2014م.

 

أخبار ذات صلة