حمد الغيثي
يقوم يوفال هراري، أستاذ التاريخ في الجامعة العبرية بالقدس، بمهمة كبرى وهي كتابة تاريخ مختصر للبشر منذ نشوئهم إلى اليوم، كتابة تستشرفُ أيضًا المستقبل الذي ينتظرهم. لا يقدم هراري جرداً بأحداث التاريخ، بل يروم مهمة أسمى، وهي استكشاف الأسباب المنشئة للاجتماع البشري والأنماط الناتجة عنه. يحاول المؤلف إجابة أسئلة كبرى شغلت المفكرين منذ القدم مثل: ما هي العلاقة بين التاريخ والبيولوجيا؟ هل للتاريخ وجهة؟ وهل فيه عدالة؟ وهل غدا الإنسان أسعد خلال التاريخ؟
يستعين المؤلف في الكتاب بمادة علمية من حقول عديدة مثل الأنثروبولوجيا والآثار والجينات والنفس والاقتصاد. ويربط المؤلف هذه الاكتشافات العلمية عبر النظرية التطورية القائلة، هُنا، أنّ أفراد النوع البشري "العاقل" (Homo sapiens) تطوروا من سلف مشترك، وأنّهم وأبناء عمومتهم الآخرين كالنياندرتال والدينسوفا، هم أنواع تنتمي لجنس الإنسان، تجري عليهم جميعاً قوانين الأحياء المتمثلة في الانتخاب الطبيعي والطفرات العشوائية. وبينما تتحلى هذه النظرة بأساس علمي صلب، فإنّها تطرح أسئلة غير شائعة من قبيل: "أي نوع من الثقافات والمجتمعات والبنى السياسية قد تنبثق في عالم تتعايش به عدة أنواع بشرية مختلفة؟ كيف ستتجلى العقائد الدينية على سبيل المثال؟ هل سيعلن سفر التكوين أنّ النياندرتال انحدروا من آدم وحواء؟ هل سيموت يسوع من أجل خطايا الدينسوفا؟ وهل سيحجز القرآن مقاعد في الجنة لجميع صالحي البشر مهما كان نوعهم؟ وهل كان كارل ماركس ليحث العمال من كل الأنواع للاتحاد؟"
ما هي العلاقة بين التاريخ والبيولوجيا؟ إنّ أطروحة الكتاب الرئيسة هي أنّ تأثير البيولوجيا انتهى وبدأ التاريخ قبل ٧٠ ألف سنة حينما اكتسب العاقلون ميزة لم توجد لدى غيرهم من الحيوانات وهي اللغة المُخيِّلة (fictive language). قد يكون الأساس البيولوجي لهذه الميزة طفرة غيّرت البنية الداخلية لدماغ الإنسان العاقل، تمكن بموجبها من نسج وتصديق حكايا متخيّلة مشتركة، لا تتمتع بحقيقة موضوعية، لكنها كانت الأساس لتكوين جماعات كبيرة مرنة.
يُسمّي هراري ذلك الحدث بـ "الثورة الإدراكية". يدعم السجل الأحفوري هذه الرؤية، إذ يوثّق أنّ العاقلين نجحوا قبل ٧٠ ألف سنة فيما فشلوا به قبل ١٠٠ ألف سنة، وهو الانتشار من شرقي أفريقيا إلى بلاد الهلال الخصيب. كان ذلك عبر هزيمة مجموعات النياندرتال الساكنة تلك المنطقة، لينتشر العاقلون من هُناك إلى بقية أنحاء العالم.
هل للتاريخ وجهة؟ نعم، التاريخ يتحرك نحو الوحدة. كانت النتيجة المباشرة للثورة الزراعية، قبل ١٠ آلاف سنة، انبثاق ثلاث حكايا متخيّلة مُوحّدة وهي الدين والمال والإمبراطوريات، ويسردُ هراري تحليلاً ليس مألوفاً لطبيعة هذه الحكايا وأثرها.
ما ميّز المعتقدات الأرواحية السائدة عند التجمعات البشرية البدائية أنها ترى الإنسان مكوِّناً عادياً مثل المكونات الأخرى في الطبيعة. لكن ظهور الآلهة إثر التحول إلى المجتمعات الزراعية غيّر من موقع الإنسان في الطبيعة. فظهور الآلهة لم يرفع مقامها فقط، بل رفع أيضًا مقام النوع البشري الذي غدا، في الديانات التوحيدية، صنيعة الإله وذا روح خالدة حرة.
يرى هراري أنّ الفكرة السابقة تشكل أساس النظام السياسي العالمي والأيديولوجيات البشرية المعاصرة. إنّ "الديانة الإنسانية" تقوم على معتقدات الديانة التوحيدية وتعمل بنفس الآلية. تضع "الإنسانية الليبرالية" القدسية في أفراد البشر، وأنّ ذات الفرد الحرة تعطي معنىً للعالم وأساساً للأخلاق والسلطة السياسية. لذلك تلتزم الإنسانيّة الليبرالية بحماية حرية الفرد ورغباته، يُسمى ذلك "حقوق الإنسان". أمّا "الإنسانية الاجتماعية" فإنّها تهتمُ بالجماعة أكثر من الفرد؛ لذلك تسعى للمساواة بين الأفراد، وهي نظرة آتية من العقيدة التوحيدية أن جميع الأرواح متساوية أمام الإله. أمّا "الإنسانية التطورية"، مثل النازية، فهي تلتزم بحماية النوع البشري من الانحطاط وبتشجيع التطور التقدمي، متمثلاّ في الجنس الآري. يستمد النازيون رؤيتهم من الفكر التطوري القائل أن الإنسان العاقل ظهر عندما تطورت جماعة من البشر الغابرين، بينما انقرضت أنواع البشر المنحطة.
غير أنّ هراري يستدرك قائلاً أنّ علم الأحياء يقوِّض المزاعم حول قدسية الإنسان وفرادته. إن السلوك البشري محدد بالهرمونات والجينات والسيّالات العصبية لا الإرادة الحرة، وهي ذات محددات سلوك الشمبانزي والذئاب والنمل. لكن البشر يحتاجون لأساطير تحفظ استقرار المجتمع ومؤسساته، لذا يبقون العلم خارج الإطار السياسي-الاجتماعي ويعيشون مع "حقيقة مطلقة غير علمية". يُعبّر هراري عن رؤيته بدعابة كاتباً: لو شرّحت إنساناً لوجدتَ قلباً ودماغاً وأعصاباً، لكنك لن تجد أبداً حقوق الإنسان.
هل في التاريخ عدالة؟ لا، ويستشهد هراري بظواهر عديدة، مثل التحول إلى الزراعة وظهور الطبقية. رغم أنّ الزراعة أنتجت وفرة غذائية، إلاّ أنها ركّزت فائض الإنتاج بيد نخبة قليلة العدد، إضافة إلى أن جسم الإنسان وجهازه المناعي غير متأقلم على الزراعة وما ترتّب عليها.
يدّعي خطاب الطبقية والهرمية الاجتماعية، كما عند تجارة العبيد في أمريكا والطبقية الهندوسية وخطاب النخبة الرأسمالية المعاصرة، أنها ظاهرة طبيعية وحتمية وذات أساس بيولوجي. لو كان الأمر كذلك، لكانت دراسة الأحياء كافية لفهم المجتمعات البشرية، غير أنَّ تلك الظاهرة، يستخلص هراري، هي نتيجة صدف ظرفية أعادت إنتاج ذاتها. لكن سبباً بيولوجياً مجهولاً قد يكون وراء بروز الأبوية في أغلب المجتمعات منذ الثورة الزراعية.
وهل غدا الإنسان أسعد خلال التاريخ؟ يطرقُ هراري عدة زوايا لنقاش الإجابة. منها ما يقوله علم النفس التطوري أن أعمق طبقة في ذهننا ماتزال تعيش في السافانا، فملايين السنين من التطور صاغت نفسية الفرد ليعيش ويفكر كفرد في جماعة. بذا لم تكتف المجتمعات الزراعية ثم الصناعية بمنع الفرد من التعبير عن رغباته وغرائزه الدفينة، بل إنّ "الإنسانية الليبرالية" واقتصاد السوق قد حرّرا الفرد من العائلة والمجموعة فجعلاه وحيداً.
الزاوية الأخرى التي طرقها هراري للسعادة هي الأبحاث البيولوجية التي تقول أنّ عالمنا الذهني والعاطفي محكوم بآليات كيميائية حيوية تشكلت خلال ملايين السنين من التطور، وأنّ التطور لم ينتخب السعادة أو التعاسة إلاَّ بقدر مساهمتهما في تكاثر الفرد. إن قبلنا هذا المنظور فإنّ حراك التاريخ سيكون ذا أهمية قليلة لسعادتنا لأنه لا يؤثر في عملياتنا الكيميائية-الحيوية. وعليه فإن الثورة الفرنسية لم تجعل الفرنسيين أسعد، ولا كان نيل أرمسترونغ، الذي وطأ القمر، أسعد من جامع الثمار الذي عاش قبل ٣٠ ألف سنة.
كيف يمكن أن نتفاعل مع كتاب العاقلون؟ هناك زاويتان لقراءة الكتاب. الأولى هي قراءته ككتاب في التاريخ. الثاني هي قراءته من الواقع العربي.
بالنسبة للزاوية الأولى، فإنّ الكتاب يتحلى بلغة بسيطة وشيقة، ويتسم بمستوى عالٍ من الدعابة والسخرية. لكنّ معضلة الكتاب الكبرى هي أن ضخامة المدة التاريخية التي تناولها والجمهور العريض الذي يستهدفه (تُرجم الكتاب لأكثر من ٢٠ لغة وتصدر مبيعات كتب التاريخ في موقع أمازون وظهر المؤلف مرتين في موقع TED الشهير) قد أتيا على حساب الاستقصاء التاريخي. يميل الكتاب إلى تبسيط شديد في أكثر من موضع. على سبيل المثال، قول هراري "بالثورة الإدراكية"، التي حدثت قبل ٧٠ ألف سنة، ليس محل إجماع بين علماء الأنثروبولوجيا. هناك نظرية أخرى تفيد أنّ ما دفع العاقلين للخروج من شرقي إفريقيا لم يكن طفرة وراثية بل تغير بيئي. وبالطبع لا يوجد دليل على حدوث طفرة واحدة مسؤولة عن القدرات الجديدة في العاقلين، ربما وُجدت أكثر من طفرة. كذلك، لا يمكن للأدلة المتوفرة الجزم أنّ العاقلين كانوا مسؤولين عن فناء الأنواع البشرية الأخرى كالنياندرتال والدينسوفا. يعتقد البعض أنّ التغيرات المناخية والأمراض لعبت دوراً في ذلك. في الحقيقة، لا يمكن أن يكون هناك إجماع تام على ما يتعلق بالماضي السحيق، لأنّ أغلب الأدلة الأثرية والأحفورية تحتمل أكثر من تفسير.
أيضًا يفسر هراري نشوء "الثورة العلمية" بإدراك الأوروبيين لجهلهم بالعالم، وأنّ عقلية "المستكشف الغازي" لم تكن سمة المستعمرين فقط بل كانت أيضًا سمة العلماء الذين رافقوا الغزاة. ترتّب على ذلك إيمان الأوروبيين بفكرة التقدم، أيّ أنّ قابل الأيام أفضل من ماضيها. في المقابل، آمنت الأمم الأخرى أنها تعلم كل شيء مهم عن العالم، من هنا لم يُظهر الصينيون والمغول والفرس والهنود والعرب، خلال غزواتهم الإمبراطورية، اهتماماً منهجياً بدراسة البيئة والجغرافيا وأحوال المجتمعات. في الغالب آمنت هذه الأمم أنّ العصر الذهبي يكمن في الماضي، وأنّ العالم يسير إلى الخراب، وبالتالي فما الجدوى من أي شيء؟ يتبيّن للوهلة الأولى أنّ هذا التفسير ينطوي على تبسيط شديد.
وكأنّ هراري تحسّب لهذه الملاحظات فقال في أكثر من موضع أنه يرى التاريخ بعينيْ طائر يرى ألفيات السنين. من هُنا فلا يعنيه حقاً إن كانت طفرة واحدة أو أكثر هي المسؤولة عن قدرات العاقلين، ولا يهم حقاً إن حدثت في جيل أو تراكمت خلال آلاف السنين. المهم، في منظور هراري، هو حدث انتشار العاقلين إلى الهلال الخصيب قبل ٧٠ ألف سنة وبدء صناعته التاريخ.
بالنسبة للزاوية الثانية، الكتاب محمَّل برؤية ناقدة لمعظم ما يعز علينا نحن العرب سواء أكانت أفكاراً ماقبل حديثة (الدين والأمة والخلافة) أم حديثة (الدولة الوطنية وحركات التحرر الوطني والتيارات الفكرية المعاصرة). بل إنّ تبصرنا في أطروحة هراري، فقد نصل لنتيجة مفادها أن أفكارنا الحديثة لا تبدو أصيلة كفاية لأنّها لم تنتج عن ذات المؤسسات والبنى الاجتماعية التي أنتجت الحداثة الأوروبية، وهذا ما سهّل ارتداد بعض المجتمعات العربية نحو أصوليات قديمة.
بالتالي فإنّ قراءتنا لكتاب هراري تحملُ مفارقة كبرى وهي أننّا نقف على أرضيات معرفية متباينة، إن لم تكن متضادة. فبينما يرى هراري، الذي هو في إسرائيل ونتاج مؤسسات حداثية ومابعد حداثية، العربَ بشراً مثله، وأنه يختلف معهم في الحكاية فقط، تشيع، في المقابل، لدى العرب نظرة مشبّعة بالمؤامرة عن اليهود وإسرائيل. لذا ينبغي على من يرمي فهم أطروحات الكتاب العبور مما قبل الحداثة إلى الحداثة ثم إلى ما بعدها. وهذه رحلة طويلة.
في نهاية كتابه، يحاول هراري أنْ يشرح سبب اهتمامه بدراسة التاريخ، فيقول: "نحن لا ندرس التاريخ لنخمن المستقبل، بل لنفهم أن الحاضر ليس طبيعياً ولا حتمياً، وعليه فأمامنا إمكانات أكثر مما نتصور. خيارات التاريخ لا تصنع من أجل منفعة البشر، فالتاريخ، مثل التطور، لا يهتم بسعادة الفرد، والفرد عادة جاهلٌ وضعيفٌ جداً ليحرف مسار التاريخ لمصلحته. لا يوجد دليل أن الثقافات الخيّرة أو المفيدة للبشر ستنجح وتنتشر لا محالة، بينما تختفي الأخرى. لا يوجد دليل أن المسيحية كانت أفضل من المانوية، أو أنّ الإمبراطورية العربية كانت أفضل من الساسانية".
-----------------------------------------------------
المؤلف: Yuval Noah Harari
العنوان: Sapiens: A Brief History Of Humankind
الناشر: Vintage Books, London
سنة النشر: 2014
عدد الصفحات: 456 صفحة
*باحث وكاتب عماني
