محمد المحفلي
أثار كتاب إسلام السوق لمؤلفه السويسري باتريك هايني، الجدل منذ صدوره بداية بطبعته الفرنسية، وظل حاملاً لهذا الجدل بل وأضاف إليه جدلاً جديداً بعد صدور ترجمته العربية، بداية هذا العام 2015م، التي امتازت بعدد من المقدمات المتعلقة بصلب محتواه، ومنها ما وضعه المؤلف للطبعة العربية، مدافعاً فيها عن أطروحاته الموجودة داخل هذا الكتاب، ومحاولا استغلال التحولات التي شهدتها المنطقة العربية، لتدعم الافتراضات والأحكام التي أوردها.
تأتي أهمية صدور الكتاب، وإخراجه للقارئ العربي، من كونه يشكل محاولة لفهم لحالة التحولات الدينية، بطابعها السياسي والاجتماعي والاقتصادي، ومن منظور خارجي، اتسم بالبانورامية أحياناً، وبالمسح الرأسي المتغلغل في العمق أحياناً أخرى. وفي وقت لازالت المنطقة تعيش حالة هذه التحولات التي لا يمكن التنبؤ بمآلاتها؛ نتيجة لضبابية تحديد المعطيات القائمة، وعدم فهم طبيعة المشكلة بشكل واضح. كما أنّ الكثير من الأطروحات التي وضعها المؤلف، وزعمه أن الربيع العربي جاء ليثبت صحة تلك النتائج التي توصل إليها يجعل القارئ يتساءل عن مدى صحة هذا الطرح الذي أكده في مقدمته للطبعة العربية، ومن ثم نحن مطالبون بفحص تلك الإثباتات التي يقدمها، في الوقت نفسه الذي نبحث عن صحة ما جاء في الكتاب بصورته الكلية.
وعلى الرغم من أن المؤلف قد اعتمد على نقاط مركزية محددة لتوصيل فكرته الكلية، فإنّه قد قسم الكتاب على أربعة فصول ومن ثم قد يناقش تلك النقاط المركزية في كل فصل ولكن من زوايا مختلفة، هذه النقاط المركزية هي: مسألة التحول الذي طرأ على الحركة الإسلامية من طابعها المركزي المؤسسي باتجاه العمل الفردي، وما صاحبها من تحولات منها ما يتعلق بالجانب الفني أو الاجتماعي، باتجاه التسليع وحركة السوق، مثل الحجاب والأزياء، وصولاً إلى ما يسميه الإسلام بالمشاريع الذي يتوسع من أجل تحجيم دور الدولة في المجتمع. كل هذه النقاط المركزية، يناقشها في أربعة فصول إضافة إلى مقدمتين الأولى خاصة بالترجمة العربية، والأخرى مقدمة الكتاب، وكذلك الخاتمة والملحق. حيث اتخذت كلها عناوين دالة على محتواها: مقدمة المؤلف للطبعة العربية بعنوان: إسلام السوق بعد الربيع العربي، والفصل الأول: تجاوز الإسلاموية، والفصل الثاني: تدين تحركه قوى السوق، والفصل الثالث: إسلام السوق إصلاح للذوات الدينية، والفصل الرابع: فاعلون لتحجيم الدولة، والخاتمة: محور الفضيلة، وكذلك الملحق بعنوان: أسلمة المنجمنت.
ما إسلام السوق؟
قبل عرض ومناقشة محتوى هذا الكتاب ينبغي معرفة مضمونه بصورة مكثفة، خاصة ما يتعلق بأبعاد العنوان، إذ يقول مؤلفه عن مفهوم إسلام السوق بأنّه: مزيج من النزعة الفردانية المتعولمة، ونزع للقداسة عن الالتزام التنظيمي، بما يتضمنه ذلك من التخلي عن الشعارات الكبرى التي كانت تدعو إلى أن الإسلام هو الحل، وإعادة النظر في فكرة شمولية الإسلام لكل مناحي الحياة والتدين الورع الذي لا يولي الدولة والثقافة المرتبطة بالطبقة الاجتماعية اهتمامه، وهو حافز للانفتاح على العالم، وهو ليس جماعة أو حزباً أو تياراً ولا يمثل مدرسة معينة، بل حالة قادرة على التوغل والتأثير في كل حقائق الإسلام المعاصر، وفي مختلف القارات والدول. ويبين: أنّ مصطلح إسلام السوق مصطلح تحليلي يستند إلى فكرة الربط بين أنماط معينة من التدين الإسلامي والأسس الفلسفية للسوق مثل النزعة الفردانية والانفتاح وأولوية الشأن الخاص على العام المرتبط بالدولة كما يؤكد على أنّه لا يتكلم عن الدين ولكن عن أنماط معينة من التدين. ويوضح أن إسلام السوق ليس بديلاً عن الإسلام السياسي لكنه يمثل شكلاً جديداً من التدين تبدو كحالة احتجاج داخلية هادئة على بعض النماذج في الصحوة الإسلامية المعاصرة.
بين إسلام السوق، والإسلام السياسي.
إسلام السوق إذًا بالنسبة إلى المؤلف ليس مصطلحاً ناتجاً عن مسح بحثي توصل إليه، بل هو أيضاً مشروع ورؤية يراها جيدة لتقديم حلول ناجعة لأغلب المشكلات التي يُعانيها العالم الإسلامي. وهو يرى أن التحولات الحاصلة كانت نتيجة أن الحركة الإسلاموية المعتمدة على السردية الإسلامية ومركزية المكون الديني الكبرى كبديل للحضارة فقدت نفسها الطويل مقابل حركة البرجزة التي دخلت حركة الأسلمة، وهذا لا يعني التناقض ولكن لوجود ثلاثة أسباب هي: نزع القداسة عن التنظيمات الإسلامية، ونزع المبادئ من المطلق إلى النسبي، وظهور أنماط جديدة من التدين. كما يرى الكاتب أنّ حركة الإخوان بدأت تتآكل مصداقيتها في نظر ناشطيها. ويسرد أهم الأسباب التي يرى أنّها السبب في بروز ما يسميه إسلام السوق وهي: التدين الفردي، بنضالية أقل ولكن أكثر معاصرة، وتراجع الديني السياسي وصعود الديني الاقتصادي، وتأكيد روح المؤسسة داخل المجتمع الديني. كل هذا عمل على إعادة تسييس الديني على أسس نيو ليبرالية، إذ إنّ الهدف ليس تطبيق الشريعة بقدر ما هو إعادة بناء المجتمع الحديث المتماشي مع العالم.
لكن يمكن القول إنّ القصور في مثل هذه التحليلات خاصة حين يتعلق الأمر بصياغة رؤية شاملة لتوجه عام يسود المنطقة، هو هذه النظرة التي ترى في حركة الإسلام السياسي بوصفها الخلفية المسؤولة عن التحول إلى مرحلة أحدث، بمعنى أن رؤية المؤلف لجذور هذا التحول قد انطلقت من بحث وتحليل (بعض) جوانب الخطاب لجماعة الإخوان المسلمين، وحتى حين يتناول خطاب رواد ما يسميه إسلام السوق فإنّه في أغلبه لا يخرج عن عباءة الإخوان المسلمين وإن كانوا بالمظهر الجديد كما يرى. وهو ما يطرح العديد من التساؤلات عن سبب تغييب الكتاب للعديد من الحركات الإسلامية المؤثرة في العالم الإسلامي وعلى نطاق واسع، مع أن لها تأثيرات مباشرة وبقوة، وهذا يجعلنا الآن بعد سنوات ما يسمى بالربيع العربي نعيد طرح السؤال على المؤلف عن سبب تغييب هذه الجماعات الإسلامية التي تسهم بشكل مباشر في تشكيل العلاقات السياسية والاقتصادية والفكرية للعالم الإسلامي اليوم، واقتصار بحثه المخل منهجياً على جماعة واحدة.
الإنتاج الفني والإعلامي وإسلام السوق
يرى مؤلف الكتاب أن التحول في الإنتاج الفني الإسلامي لا يستهدف المتدينين فقط، على عكس الإنتاج السابق الذي كان يستهدف فئة معينة من المتدينين، حيث بدأ الانكسار في مفهوم الأناشيد الدينية مع بروز حركة المقاومة، وذلك من خلال تقديم المضامين على طريقة التعبير، وهذا خلخل الكثير من الثوابت التي كانت تفرضها الحركات الدينية على الغناء. وبدأ ظهور جيل جديد من الفنانين بتوجه إسلامي مختلف وبثقافة متنوعة، استطاعوا أن يصلوا بالأغنية الإسلامية إلى مساحة أكبر على مستوى الاستهلاك، لا تقف عند المتدينين فقط، ومن هؤلاء مثلا: الفنان البريطاني من أصول أذرية: سامي يوسف.
وفي جانب الإنتاج الإعلامي الذي يرى أنّه هو الآخر قد مر بحالة من التحولات فقد أشار إلى تأثير الديني حتى في المحطات الفضائية العلمانية التي وضعت ضمن برامجها برامج دينية، تأكيداً للهوية وإن ابتعدت عن التزمت والسياسة، إذ يتم التضحية بالعامل الأيديولوجي وتقديم العرض الديني في سبيل الربح. وقد أشار في بحثه إلى محطات فضائية إسلامية معينة: هي اقرأ والمنار والمجد، بوصف هذه المحطات الثلاث النموذج الذي أقام عليها بعض التعميمات الخاصة بمضمون الكتاب، وهذا ما يجعل من كثير من النتائج التي أوردها المؤلف غير دقيقة فهناك سيولة في المحطات وهي محطات ذات مرجعيات مختلفة وهناك شبه توسع كبير للمحطات السلفية، التي تبين التدين بمنظوره السلفي المناقض تمامًا لكل الرؤى التي يريد تأكيدها.
الدعاة والإسلاميون الجدد رواد إسلام السوق
يقوم الكتاب على استعراض الكثير من الدعاة الجدد، بيد أن أغلبهم -كما يقول- قد خرجوا من تحت عباءة الإسلام السياسي ويذكر منهم عمرو خالد وجمنستيار، بيد أنّه يغفل الكثير من الدعاة بخلفيات ليست لها صلة بالإسلام السياسي. ويقول إن الدعاة الجدد قاموا بكسر الكثير من قواعد الدعوة بصورتها الكلاسيكية من خلال: أنهم صغار السن، بدون لحية، واستعملوا اللغة العامية مكان الفصحى، ثم ارتدوا الزي العادي، بدلاً من الزي التقليدي الذي يرتبط بالدعاة عادة. كما أنّهم لم يعتمدوا على المسجد فحسب بل استعملوا وسائط حديثة، ووسائل الإعلام المختلفة.
وبمقابل ما يراه نجاحاً للدعاة الجدد يقول: إنّ السلفية لم تستطع أن تظهر بالمظهر اللائق للمنافسة. لكن التساؤل هنا هو عن التأثير في عمق المجتمع ويمكن أن يثار السؤال على الشكل التالي: كيف استطاع الإسلام السلفي أن يتمدد خارج إطار هذه المؤسسات وخارج إسلام السوق، وكيف استطاع دعاة السلفية أن يجدوا لهم من الأتباع في مختلف الأماكن، بما يتفوق أحياناً على النماذج التي سردها؟ إن إجابته المفترضة على هذا السؤال كانت ستقود حتماً إلى البحث في تجليات أخرى تتجاوز المستوى الذي اشتغل عليه ورصد نتائجه.
ويضع المؤلف الأساس الذي انطلق منه هؤلاء الدعاة والإسلاميون الجدد إذ يبين تأثر الكثير منهم بالمنجمنت الأمريكي فبدأوا بالدعوة نحو التنظيم الإداري والالتزام الإيجابي للفرد في المجتمع، حيث درسوا بداية هذا العلم في أمريكا ثم اتجهوا نحو أسلمته والاستفادة منه في الدعوة. ويقدم الكتاب الكثير من رموز الحركة الإسلامية الجديدة ومن ضمنهم يضع خيرت الشاطر بوصفه واحدًا من هذه النماذج التي تأثرت بالمنجمنت. وهنا ينبغي التوقف، ومراجعة سير هذه الشخصية، وخاصة منذ 2011، وما بعدها، إذ نرى خيرت الشاطر ومعه الكثير من الرموز التي قدمها على أنّها تخلت عن أطر الإسلام السياسي ودخلت في إسلام السوق، يتبين أنها عادت لمبادئها القديمة التي قال إنها كانت قد تركتها لصالح التوجه الجديد.
وهو لم يقدم تلك على أنها نماذج ممثلة فقط، بل يستشهد بخطاباتها مدافعاً عن قيم الجماعات الإسلامية بتوجهها الجديد، إذ يقدم خطاب عصام العريان ومفهومه للحرية عبر وضع سقف محدد لها، وبوصف هذا المفهوم كما يرى المؤلف مفهوم إسلام السوق للحرية (على لسان العريان)، ويبدو من خلال هذا التوليف أن دعم أمريكا للإخوان المسلمين بعد 2011 كان قائماً على أساس من هذه الرؤية التي ترى أن هذا الإسلام هو القادر على التوافق مع القيم العلمانية.
تحول مفهوم الحشمة
ويوضح المؤلف ظهور استهلاكية الحشمة في تحول وظيفة الحجاب، الذي بدأ على علاقة وثيقة بالإسلام السياسي، ثم جاءت مرحلة احترافية مع دخول الحجاب مرحلة العلامات التجارية، وأصبح غير مؤد لوظيفة الحشمة -بالدرجة الرئيسية- بل بالتنافس بالعلامات التجارية العالمية وأن استهلاك الحشمة ليس ناتجا عن الأسلمة بقدر ما هو ناتج عن الرؤية الأمريكية للبرجوازية الإسلامية. إنّ هذا الأمر على ما فيه من تحول عميق في الوظيفة الأساسية للحجاب فإنّه مع ذلك لم يشر إلى ارتباطه بالعادات والتقاليد، في الكثير من بلدان العالم الإسلامي بما يتجاوز –أحياناً- وظيفته الدينية، بل وهناك تحول الحجاب من كونه حشمة ودلالة دينية إلى كونه مظهراً اجتماعياً لا أكثر. ويمكن القول أيضاً: إذا كان هناك من تحول لاستهلاك الحشمة وتحول الحجاب للموضة فإنّ هناك بالمقابل توظيفاً للدين واستغلالاً للعامل الديني من أجل زيادة الاستهلاك.
العلامات التجارية وحروب الكولا
وفي إطار إثبات أطروحاته يقدم المؤلف عدداً من الشواهد التي تأخذ البعد الديني كإطار عام ثم تتضمن البعد التجاري الاستهلاكي من ذلك مثلاً ظهور ما يسمى بالهجرة العكسية من أوروبا إلى بلاد المسلمين بحكم أنها ديار الإسلام ولكن الهدف الأساسي تجاري استثماري بالدرجة الأولى.
وكذلك بروز ما يسميه حرب الكولا، ومحاولة إصباغ دلالات دينية من خلال إنشاء شركات كولا جديدة ذات مسميات إسلامية: مكة كولا، زمزم كولا، عرب كولا. كما نجد أن المؤلف في أكثر من موضع يبدو مدافعاً عن ظهور علامات تجارية للأزياء تحت مسميات وشعارات ذات بعد ديني إسلامي واضح، رافضاً أن يطلق على ذلك تجارة بالدين، بالقول إنّ هذا إعادة بناء نموذج الفخر الفرداني للمسلم الجديد. بحكم أن هذا الأمر يبدو طبيعياً وجزءاً من سياسة إسلام السوق، الذي يكون فيه الديني موازياً للاقتصادي أو متلبساً به. ويمكن للقارئ هنا أن يتساءل ألا يمكن القول: إن المنتج الذي لا يرتدي الشعار الديني يمكن أن يؤدي الغرض ذاته، ولماذا إلصاق الرداء الديني الذي سيؤثر على الدين ذاته في حال فشله؟ فإثبات المكانة الفردية للمسلم ليس بإصباغ الشعار الديني عليه بل من خلال التجلي للفرد المسلم، إن فكرة استغلال الديني تؤثر سلباً على الدين ذاته، ذلك أن الديني يفترض به الثبات في حين أنّ الاقتصاد متحرك يتعرض للصعود والهبوط، وكما تكون الأزياء عرضة لتحولات الموضة صعود ماركات وهبوط أخرى، فإن الدين في تلك الحالة سيكون مقاساً عليها.
إسلام السوق والنموذج الأمريكي
ويؤكد المؤلف على أن إعادة الأسلمة بصورتها الجديدة تلتقي مع النموذج الأمريكي الجديد الذي يربط بين الديمقراطية المؤسساتية، والضغط ضد تعددية أنماط الحياة. ويعقد مقارنة بين إسلام السوق والنموذج الأمريكي ويرى أنهما يتقاسمان الطموح نفسه من خلال المشتركات التالية: سلطة بعيدة وأقل تدخلية، وتثمين حرية المؤسسة والنجاح الفردي، والدفاع عن القيم العائلية، وإدانة الفقر والفقراء بوصفه مثلثاً ملعوناً.
ويحكم أخيراً في خاتمته بأن إسلام السوق شريك لأمريكا في الشرق الأوسط بصراعه مع الحداثة والتنوير. ويمكن هنا القول بأن هذا الحكم الختامي يعزز الربط بين آراء باتريك هايني ورؤية الكثير من صانعي السياسة الأمريكيين الذين حاولوا تجسيد هذه النظرية من خلال التعاون مع الإسلام بصورته الجديدة الإسلام السياسي قديما و(إسلام السوق) حديثاً، لكن ما بعد 2011 تصبح الكثير من هذه النظريات غير قابلة لتحقق مع كل تلك التحولات التي أصابت الإسلام السياسي بشكل عام وبدء حركة النزوح باتجاه القيم القديمة.
----------------------------------
الكتاب: إسلام السوق.
المؤلف: باتريك هايني.
المترجمة: عومرية سلطاني.
الناشر: مركز نماء للبحوث والدراسات، بيروت، 2015م.
عدد الصفحات: 252 صفحة.
*شاعر وأكاديمي يمني
