سعيد بوكرامي*
بلغ المُفكر الفرنسي إدغار موران 94 سنة، ورغم ذلك مازال عالم الاجتماع فضولي العصر بامتياز. فبعد مسيرة حافلة بالبحث والنظريات والمؤلفات هاهو ينشر أحدث كتبه عن "التفكير الشمولي، الإنسان وعالمه"وما زال موران يلح على ضرورة إعادة استكشاف الإنسان في كليته، وليس في جزئياته. كتاب سيصبح في الأيام القادمة مرجعية جديدة للسيوسيولوجيا في العالم.
الإنسان ثالوثي التعريف فهو يشتمل على جانب فردي وآخر اجتماعي وثالث بيولوجي. هذه الأقسام لا تلتئم لتشكل الإنسان الشمولي، فهي ليست ثلثًا منه بل كلية: الإنسان فردي 100٪، واجتماعي 100٪ وبيولوجي أيضًا 100٪ ولكن في التدريس والبحث، هذه الأسس الثلاثة تعالج بطريقة مفككة ولا حاجة للتأكيد على أنّ تخصصات بحثية كثيرة لا تهتم بالتعقيدات البشرية ولا حاجة ملحة لها إلى دراسة الإنسان في كليته ولا حتى التفكير فيه بشمولية.
كتاب الباحث السوسيولوجي إدغار موران هو محاولة رائعة للتفكير الشمولي. يتناول إدغار موران الإنسان ككل ومن جوانب أساسية مثل عالمه المادي، ثم تطوره البيولوجي، وفي سياقه التاريخي، والعولمي وأخيرًا في مستقبله البشري. يخلص إلى أننا نجد صعوبة كبيرة للتفكير الشمولي.، والتفكير المعقد. تفكيرنا الآن ثنائي، نحن نفكر "أو" عندما يجب أن نفكر. لكن مادة التفكير تبقى جزئية مهما حاولنا توسيع تفكيرنا ليتمدد ويُحيط بما لا يمكن استيعابه. نحن نكتفي بالمقاربات المبسطة التي تمكننا من الوصول إلى نتائج مستهدفة تبعث على الراحة والطمأنينة أكثر مما تبعث عن الإزعاج والقلق وهما في الواقع منهج البحث عن الحقائق المحتملة.
على سبيل المثال، النموذج الاقتصادي المعولم يفضي لا محالة إلى استنفاد موارد الأرض. المسألة ليست النمو "أو" الانخفاض" ولكن الزيادة "و" الانخفاض للوصول إلى استنتاج عن أفضل الممارسات في جميع أنحاء العالم.
ما ينبغي أن يتوقف عن النمو هي الزراعة الصناعية التي تقحل التربة، بمبيداتها السامة. في المقابل يجب تنمية الزراعة العضوية مهيأة للإنسان وقريبة منه. ما يجب أن يتوقف عن التنمية هو الاقتصاد المبني على السلع المستهلكة بسرعة والمبرمجة للزوال التي تجعل من الآلات المستعملة غير قابلة للإصلاح، لكن بدل تنمية نفعية وانتهازية يجب أن نسعى إلى إيجاد تنمية متضامنة ومتجددة.
ولتجاوز عثرات وسلبيات وأضرار الفكر المعاصر يقترح إدغار موران بلورة تفكير شمولي حتى وإن كان تفكيراً مركبًا، لأن مقاربة ما بين الكل والجزء تفضي إلى تفكير محفوف بالارتياب ويتجنب العقلانية المغلقة، ويبتعد عن الحقيقة المطلقة. إنّ النظر إلى البشرية من خلال منظور هذا التفكير المركب هو محاولة، كي نفهم أننا نعيش عصر الحديد العالمي، نوع من عصور ما قبل التاريخ للفكر البشري. نحن ما زلنا في البداية.
شهدت معرفتنا بالإنسان، والحياة، والكون، ازدهارا مطردا لكن هذه المعرفة منفصلة ومشتتة. كيف يمكن وصلها؟ كيف يمكن مواجهة المشاكل التي هي في آن واحد مركبة وأساسية وثقافية وحيوية؟ كيف يمكن التموقع داخل مغامرة الحياة وخلال رحلتنا في هذا الكون، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ الإنسان يوجد داخل الكون، وأن الكون يوجد داخل الإنسان؟
أجوبة إدغار موران، ذكية ولامعة ومضيئة ومتاحة للقارئ المتخصص وغير المتخصص. يدعونا المؤلف بطريقته الخاصة، إلى تبني تفكيرا شموليا، أي النظر إلى الطبيعة البشرية بثالوثها الفردي والاجتماعي والبيولوجي للتدقيق في مسقبلنا دون الاستسلام للعصر الراهن المحموم بالسباق نحو العولمة. يرى إدغار موران أنّ الحضارة الغربية سمحت للتنمية الفردية لتحقيق الأفضل، بمعنى أنّها تمكن الفرد من تحمل المسؤولية الشخصية، أو على الأقل تقرير مصيره بنفسه. يتساءل الباحث هل كان هذا الاتجاه خاطئاً؟ نتيجة الفردانية كانت مخيبة للآمال لأنّها أدت إلى ظهور الأنانية. فقد كانت أنّ التنمية الفردية في الوقت نفسه تدهورا كبيرا للتضامن. التضامن لم يعد موجودًا في )الأسرة، والعمل، والحي( وفي إطار هذا الفقد للتضامن، هناك أيضاً تدهور للإحساس بالانتماء للمجتمع والوطن وبالتالي تدهور لمفهوم المواطن.
ومن الأشياء التي ناقشها أيضًا ظاهرة العنف والحروب المنتشرة في العالم إذ اعتبر أن حلها عملية طويلة وصعبة لكنها لم تبدأ. لأننا في مرحلة يزداد فيها التعصب ويأخذ أبعادا معقدة. هذا النوع عرفته أوروبا فيما مضى، مثل المجموعة المتعصبة" الألوية الحمراء"، التي كان أفرادها مستعدين لأيّ شيء من أجل ما يعتقدونه من مبادئ ثورية. أما اليوم فنواجه التطرف الديني الإسلامي الذي لم يكن نتيجة الهجمات في نيويورك، بل جاء نتيجة قدوم أمريكا إلى أفغانستان والعراق وما أسفر عنه آثار إيجابية تبدو للبعض وللبعض الآخر سلبية. يحسم إدغار موران أن التفكير الجهادي مرده إلى العنف المبالغ فيه من طرف القوى العظمى القادمة إلى الشرق بترسانتها الحربية المتطورة. وتظهر اليوم على صورة ما يطلق عليه"داعش" التي منحت نفسها صورة بشعة. ويرى موران أنّ محاربة هذا التعصب البربري لن يتحقق إلا بتحالف الدول جميعها وبأقل بربرية ممكنة. يمكن القضاء على داعش. لكن النتائج ستكون في جانب آخر استمراراً للمأساة. لأنّ الهجرة ستكون كبيرة، كما هو الحال اليوم التي تفرض على أوروبا أن تكون ملجأ للضيافة والإخاء. هناك مشكلة عويصة وليس لها حل فوري وأيضًا ليس لدينا فكر قادر على مواجهتها.
وعندما يعجز الفكر عن استيعاب ما يحدث حوله، فإنّه يصبح غاضبا وربما يكون الغضب أعمى. يقول إدغار موران إنّ الغضب البشري كان سبباً في تراجيديات لم تندمل جراحها إلى اليوم. كما يتساءل إدغار موران عن الخطرين الكبيرين المهددين للبشرية اليوم؟ الأول: الهيمنة الغريبة والجامحة للتمويل الدولي ونظرته للعالم حيث كل شيء عبارة عن قيم وأرقام. وهذا يعني، أنه بدلاً من النظر إلى الكائن البشري كإنسان، يعيش معاناته وحياته، نراه من زاوية المصلحة الضيقة التي تستغل الإنسان في جزئياته، فهو من الناحية الاقتصادية مجرد رقم داخل الناتج المحلي الإجمالي ... أما الخطر الثاني، فيتمثل في أشكال مختلفة من التعصب.هذان الخطران ما يجب مقاومته، حسب اعتقاد إدغار موران. ليس مقاومة فكرية غاضبة وإنما بفكر شمولي ينظر إلى الإنسان في كليته بوعي معرفي شامل وبعزيمة إنسانية تحاول أن تنقذ ما يمكن إنقاذه، قبل فوات الأوان.
حاول إدغار موران بذكاء وحكمة أنتجته الخبرة العلمية الطويلة والتقدم الحيوي في العمر إلى تقديم وصفة منهجية مفادها أن امتلاك مفهوم مركب وشمولي عن الإنسان المعاصر لا أن ينطلق إلا من النظر إلى الذات، وأعماقها، لصياغة رؤية أكثر إنسانية للأفراد. حينذاك تنوجد جدليا إمكانية للتفاهم حول ما فشلت البشرية عادة في حله منذ قرون، حول الدين والسياسة والاقتصاد والبيئة. وهنا يشير إدغار موران إلى أنّ أسباب الفشل كثيرة في مقدمتها تعنت الإنسان وميله إلى تبريرات الذاتية، بحيث لا يرى الشر والغلط والخطأ والعيب إلا لدى الآخرين.
وعندما يتحدث موران عن ضرورة امتلاك الإنسان منظوراً أكثر إنسانية، فهو يقصد أن يكون لدينا فكر مركب. يعلمنا أن نرى التعدد والتنوع داخل الوحدة الفردية، بدل النظر إلى فردانيته وأنانيته. وهذا سيمكننا من النظر إلى الفرد في كليته المتناقضة. لأن أعداء التفاهم هي: اللامبالاة والاحتقار والكراهية. ولتجنب هذا الوبال الفكري يجب الاعتراف بالآخر والشعور بالمشترك الإنساني، وفي الوقت نفسه احترام الاختلاف.
------------------------------------------------------------------
المؤلف: ولد إدغار موران عام 1921. عالم اجتماع وفيلسوف فرنسي. ما بين 1977 و2004 نشر ست مجلدات أساسية تحت عنوان " المنهج" الذي كشف فيه عن منهجيته في التفكير والتحليل. كما له عدد مهم من المؤلفات الفكرية التي حازت على عدد من الجوائز. يعد اليوم من أعظم مفكري عصرنا.
عنوان الكتاب: الفكر الشمولي. الإنسان وعالمه.
المؤلف: إدغار موران
الناشر : روبير لافون فرنسا
التاريخ: 2015
عدد الصفحات: 180ص
*كاتب وروائي مغربي
