نشأة المواطنة

أمجد سعيد

يُعرف محمد الحداد المواطنة في مقاله  "الدين والمواطنة والتعددية في الزمن الحاضر" على أنها الرابطة أو العقد السياسي بين الفرد والدولة، والتي تمنح بمقتضاه الفرد مجموعة من الحقوق وبدوره يلتزم هو بمجموعة أخرى من الواجبات، ولا يصح مفهوم المواطنة إلا بتوفر شرط المساواة في الحقوق والواجبات المترتبة على هذا العقد بين الجميع، لذلك تخنلف المواطنه عن كافة العهود والمواثيق التي كانت تُمنح قديماً للمجاميع أو الأفراد في حالات الصلح؛ لأنها كانت تختلف من مجموعة لأخرى وترتبط بالسياق الذي حصلت فيه المفاوضة، ولاتسمح بإندماج كل الناس في هيئة سياسية مطلقة. كما أن هذا الشكل القديم من المعاهدات كان يقوم بين السلطة والمجموعة المتعاهد معها، وليس بين أفراد يُعترف بذاتيتهم وحقوقهم وإلتزاماتهم الفردية. ومن الخطأ تصور أنه قد وجدت مواطنة واحدة عابرة ومستدامة في كل الازمنة والأمكنة؛ فالواقع أن المواطنة مفهوم شهد تطورات وتنوعات كثيرة، وهو ينتقل اليوم من تصور نمطي إنتشر منذ الثورة الفرنسية عام 1789 إلى تصور تعددي يقبل الإختلاف والتنوع.

أما في الفكر العربي والإسلامي فقد دخل مفهوم المواطنة بشكله الحديث رحاب الفكر العربي بفضل رواد النهضة العربية ومن أولهم المصري رفاعة طهطاوي، الذي أوفد إلى باريس إماماً لإحدى البعثات المصرية العلمية، وكان ذلك سنة 1826، وقد مضى على الثورة الفرنسية آنذاك سبع وثلاثون سنة شهدت خلالها فرنسا مخاضاُ كبيراُ وعسيراُ من الناحية السياسة، والذي أدى بدوره إلى عسر إنزال المواطنة إلى الشارع اليومي للناس.

ومن ناحية تعدد المفهوم وأعني مفهوم المواطنة، فقد جرى العرف على أن أصل الفكرة قد انبثق في الحضارة الإغريقية؛ إذ ظهر هناك الاعتراف بحق سكان المدن الإغريقية في تسيير شؤونهم العامة، والتداول لأخذ القرارت المصيرية مثل الحرب والسلم، ولقد شعرت اليونان منذ القدم بأن هذه الخاصية تميزهم عن غيرهم بالمقارنة بأنظمة الحكم السائدة في فارس ومصر؛ إذ يعتبر الحاكم هناك متصلاً بالالهة ومنفردا باتخاذ القرارت. ومن خلال الدراسات الحالية عن المصريين القدامى أنهم كانوا فعلا يعدون الفرعون من دم إلهي، وأنه كان محاطا بحاشية ضخمة تنفذ قراراته ورغباته، ولا تسير كل الشؤون العامة إلا في الإطار المغلق لهذه الحاشية، وعلى العكس في الحضارة الإغريقية، كانت العديد من المدن تعرف ما يدعى بآغورا؛ أي النقاش العام المفتوح لكل من يحظى بصفة المواطن، والمساواة بين المواطنين في المشاركة في هذا النقاش، واتخاذ القرارات المتصلة بالشأن العام والترشح للوظائف، وقد تجسد هذا المسلك في مجالات عديدة؛ مثل الحرب والسلم وطرق إدارة التجارة وتنظيم التشريعات المدنية وسنها. ويبدو أن هذه التجربة في التسيير قد رسخت حتى دفعت بعض الفلاسفة للتنظير لها تنظيراً فلسفيا. بل إن بعض مؤرخي الفلسفة يذهبون إلى عد نظام المواطنة الإغريقي الرحم الذي ولدت فيه الفلسفة. فمثلما تعود المواطنون الإغريق على التداول في الشأن العام، وطوروا طرق استدلالاتهم لإقناع بعضهم البعض برجاحة مواقفهم، نشأ ايضا في الوقت نفسه الفلاسفة الذين يتداولون في القضايا المجردة، ويتجادلون بعضهم البعض ويبحثون عن أقوى الأدلة والبراهين العقلية للإقناع والغلبة. وهكذا نشأت تيارات أخرى كالتيار السفسطائي والمحاورات الأفلاطونية التي دار أغلبها على لسان سقراط، وقد كانت بمثابة المجادلات العالمة المتخلصة من الخضوع لمرجعية غير مرجعية الحجة والاستدلال. ومن هنا بدأ الفكر السياسي الإنساني.

ولابد أن تكون هذه المجادلات قد تواصلت لفترة طويلة في المدن الإغريقية؛ لأننا نجد أرسطو قد كتب كتابة وصفية وتحليلية ذات عمق باهر. فتأكيده المشهور على أن الإنسان مدني بطبعه، يفترض أن تكون المدينة غاية في ذاتها، وأن يفتح مجال التفكير في الشروط الفلسفية والفعلية لتحقيق هذه الغاية، ويجعل السياسة مجالا مستقلا بذاته وقائما على التجربة والاستدلال وجزء من التعقل البشري، كما أنه يجعل مصدر شرعية الحكم قيام رابطة سليمة بين الأفراد والدولة وليس الخضوع القسري لهرمية الحكم. وقد رأى أرسطو أن الإنسان ينتقل من حال الطبيعة إلى حال التمدن بفضل هذه العلاقة السيادية التي ينشأ على قاعدتها الحكم، حيث يكون أعضاء المدينة مصدر شرعيته. وبهذا الأساس ظهرت فكرة الدستور بوصفه وثيقة تثبت أهم مبادىء العقد السياسي الذي يجمع بين كل المواطنين، وبينهم والدولة، وقد استعمل أرسطو كلمة دستور بمعنى شامل يتضمن عامة كل شكل مستقر في تنظيم السلطة. كما جمع في كتابه " السياسة" التجارب التي كانت معروفة في عصره، ويصر باحثون معاصرون على تدقيق التسمية واستعمال الصيغة الأصلية التي أرادها أرسطو وهي صيغة الجمع في كلمة السياسات؛ لأن استعمال صيغة الجمع يعيد الأهمية والتقدير لفكرة التعدد والتنوع في أنظة الحكم، فأرسطو لم يكن يقصد تقديم نظام حكم مطلق ونهائي، أما من شرحه من بعده فهم من حولوا عنوان كتابه من الجمع إلى صيغة المفرد. ويعد كتاب أرسطو الكتاب الفاتح في علم السياسة، لأنه قائم على المعاينة والاستدلال والتصنيف وتوليد المفاهيم وتحديدها، على عكس كتاب الجمهورية لأفلاطون قبله والذي يصنف في خانة كتب اليوتوبيا، مع أن هذا الأدب كانت له إلى العصر الحديث إسهامات في تطوير الفكر السياسي للبشر، من أفلاطون إلى توماس مور مرورا بمدينة الله للقديس أوغسطين والمدينة الفاضلة للفارابي.

لقد عرفت بعض التصورات الأساسية للمواطنة بلورة واضحة منذ العهد الإغريقي، مثل السيادة وارتباط شرعية الحكم بها، والاستقلالية النسبية للحقل السياسي عن مجالات كالمجال الإجتماعي مثلا، وتأكيد دور الفرد والتمييز بين اجتماعه الطبيعي والسياسي، والتخلص من التفسيرات الأسطورية التي كانت سائدة حول الطابع ما فوق الإنساني لنشأة الدول. لكن عقلنة الظاهرة السياسية لا يعني أن فكرة المواطنة قد نشأت بالكامل لدى الإغريق؛ ذلك أن البحوث والدراسات التاريخية تثبت أن المواطنة الإغريقية كانت منقوصة ونخبوية، إذ لم يتمتع بمزاياها إلا الرجال القادرون على ممارسة الحرب أو الملاك لثروات مختلفة؛ بينما كانت تستبعد المهاجرين حديثا للمدن والعبيد ولو كانوا محررين والنساء مهما كان وضعهن الإجتماعي.

 

أخبار ذات صلة