سقوط غرناطة: زوال الأندلس والمورثيكوث

أمجد سعيد

ليس ثمة شك في أنّ لمتتبعي التاريخ وقفة طويلة مع الإسلام في الغرب ودلالة على ذلك- خلال العقود الثلاثة الماضية- حظي الغرب الإسلامي باهتمام وتربص عدد كبير من الباحثين والدارسين في هذا المجال، وجاءت هذه الاهتمامات في أشكال متعددة منها مقالات ومؤلفات مستقلة، تمثل كل ما يخص فكر ونهج الباحث ومنظوره المتفرد. اختلفت التصورات مما أضفى لمسة نوعية على تصدير المحتوى الإسلامي الغربي، وفي تلخيص هذه المقالة التي نشرها نجيب محمد الجباري في مجلة التفاهم،   تركيز كبير على الحياة الأندلسية وجوانب مختلفة منها ظلت مستترة وبعيدة لأمد طويل.

بدأ الاهتمام من المشرق إلى المغرب بنشوء المركزية الإسلامية التي تمثلت في الشرق الأوسط، ومن ثم انتقل التأثير إلى مختلف أصقاع العالم. وتناول الغرب هذا الانتشار الإسلامي من بوابة الأندلس التي أصبحت مركزاً إسلاميا غربياً. وأدرك الباحثون المستعربون منهم والمستشرقون أهمية كشف خبايا الأندلس وأسرارها ودورها الكبير في مركز الحضارة الإنسانية. في طليعة الباحثين الذين اضطلعوا في هذا البحث، الباحث "ميجيل لافوينتي ألكانتارا" في كتابه تاريخ غرناطة، أيضا "لويس باربديث" الذي كرس مجهوداته لغرناطة وتاريخ القرنين الثامن والتاسع، وهناك أيضا أعمال أخرى خلدت الأندلس وغرناطة بشكل خاص منها تاريخ مالاجا 1843 للكاتب "كيين روبليس" وأعمال لويس فرنانديث وخوان توريس فوينتيس وأخيرا الباحثة الفرنسية "ريتشل أريي" التي كتبت أحد أهم الكتب حول إسبانيا الإسلامية، كتاب "إسبانيا المسلمة على عهد النصريين".

لا يمكن لأي باحث أو قارئ للتاريخ الأندلسي أن يغفل عن الحادثة التي حصلت بعد سقوط الأندلس في عهد الملك فيليب الثالث، في الفترة الواقعة ما بين 1609-1614 حيث أجبر المسلمين أو بالأحرى أحفاد المسلمين الذين بقوا تحت حكم أسبانيا المسيحية آنذاك، على الخروج منها بطريقة منظمة إلى شمال إفريقيا، وقد أُطلق عليهم بعد ذلك باسم الموريسكيون أو المورثيكوث (بالقشتالية). فموضوع الموريسكيين يعد جزءا هاماً من تاريخ الأندلس وغرناطة، وقد استرعى اهتمام كثير من الباحثين والدارسين الأسبان في هذا المجال منهم عالم الاجتماع القدير في إسبانيا وأوربا "خوليو كارو باروخا" في (كتابه مسلمو مملكة غرناطة بعد عام 1492- ترجمة وتقديم جمال عبدالرحمن، المجلس الأعلى للثقافة)، يمثل كتاب باروخا مرجعا لا غنى عنه عندما يتم الاهتمام بتاريخ الأندلس وغرناطة وخاصة تاريخ الموريسكيين، ويكسب الكتاب أهميته وقيمته من الموضوع الذي يطرحه وهو التاريخ المعزول لأسبانيا الحديثة من جهة وشخصية مؤلفه الحيادية وأسلوبه المشوق من جهة أخرى الذي يُعتبر أحد رواد الدراسات الموريسكية، والذي تبع أثره العديد من الباحثين، وبذلك قلما نجد بحثاً أو دراسة موريسكية تخلو من إشارة أو إحالة على كتاب باروخا هذا.

دراسات وكتب كثيرة استطاعت إعادة فتح ملف القضايا المنسية والمغيبة في الحكاية الموريسكية، وإبراز دورها في خلق التعايش السلمي وتجانس الهوية العربية بالهوية الأندلسية الإسبانية، والإشارة إلى العلاقات الطيبة التي ربطت بين مسلمين ومسيحيين في إسبانيا حتى بعد زوال الأندلس وسقوط غرناطة، وكيف أن هذه العلاقات كان لها أثر كبير في تخفيف وطأة الحياة على المسلمين الذين تعرضوا لملاحقة محاكم التفتيش، وأنّ الأندلس ترمز إلى ازدهار الحضارة الإسلامية وتفوقها، الأمر الذي دفع الكثيرين لوصفها بالفردوس المفقود بعد زوالها. هذه كانت مجمل آراء الباحثين في التاريخ الأندلسي، ولكن لـ"مرثيديس جارثيا أرينال" رأي آخر في كتابها شتات أهل الأندلس: المهاجرون الأندلسيون (ترجمة محمد فكري عبد السميع، المجلس الأعلى للثقافة) كتاب أرينال رغم صغر حجمه إلا أنه يقدم رؤية أخرى للأندلس، فقدمت أرينال الأندلس وتعايش سكانه في سلام لا يعدو كونه أكذوبة أو لنقل أسطورة من وحي خيال بعض المؤلفين، وكل ما يقال ويؤرخ عن التعاطف والعلاقات الطيبة عن المسيح واليهود وعن المسيح والمسلمين أمر مشكوك لا صحة فيه؛ بل نرى أن الطائفتين اليهودية والمسلمة قد تعرضتا للاضطهاد والعنف والتمييز من قبل مسيحيي إسبانيا.

في حقيقة الأمر أشارت أرينال إلى أن كتابها يعد استكمالاً لكتابين يتناولان الموضوع التاريخي ذاته وهما: العلوم والتبادل الثقافي في الأندلس لماريبيل فبييرو، والأندلسيون - على غرار قصة المُنتيفيديين- لمانويلا مارين، وقد أشارت المؤلفة أن الكتاب لا ينبغي أن يُقرأ بمعزل عن الكتابين. قبل أن تتطرق أرينال لمسألة الموريسيكوس، قامت باختصار قولها ببساطة بأنّه لم يعد هناك أي تراث أندلسي في إسبانيا، وقد دعمت موقفها على أساس أنّ مسلمي غرناطة قد تمّ تهجيرهم من الجنوب وعوضوا بمسيحيي الشمال، وعليه فإنّ تقاليد وعادات الغرناطيين اليوم ليس لها أية صلة بعادات المسلمين، بل هي عادات أهل الشمال وتقاليدهم.

قبل أن تبدأ أرينال بالفصل المخصص في كتابها عن الموريسكيين وقضيتهم، تناولت العناصر السكانية في شبه جزيرة إيبريا إبّان الحكم الإسلامي في الأندلس، فوضحت الأسماء التي كانوا يطلقونها على كل عنصر سكاني، فمنهم المستعرَب والمستعرِب والمدجن والموريسكي، وعند دخول أرينال في فصل الموريسيكيين عرضت في كتابها موقف ورأي خالميس دي فوينتس، الذي يرى أن أدب الألخميادو أو الأدب الخيميائي- الذي بدأ من مسلمي ألبانيا وانتقل لمسلمي الأندلس- جعل اندماج الموريسيكيين في مجتمع الأغلبية غير ممكن، ومن جهة أخرى فلغة الألخميادو كان لها نصيب الأسد في إنقاذ الكثير من الموريسيك من قبضة محاكم التفتيش.

قد تختلف آراء المؤرخين الأسبان حول طبيعة الموريسيك وطريقة تعايشهم بعد سقوط غرناطة وزوال الأندلس، ولكن يتفق الجميع على أنّ المصدر الأول للثقافة الأسبانية الحاضرة بقوة في المغرب العربي هم الموريسيكين، فبعد الإجراءات القمعية التي تعرضوا لها وقرارت الطرد والتهجير، استقروا بدول شمال إفريقيا، وقد لحقوا برفاق المواطنة الذين سبقوهم لهذه الدول تحت اسم الأندلسيين، وفي المجمل فقد كان الموريسكيون ناقلين للثقافة الأندلسية، والإسبانية على وجه الخصوص، تلك الثقافة المترعة بخصائص عصر النهضة والتأثير الغربي. في نهاية الأمر تبقى قضية المورسيك وما ترتب عليها من أحداث تاريخية وسقوط غرناطة وزوال الأندلس جزءًا من تاريخ غامض ومعتم.

أخبار ذات صلة