صيغة الاعتقاد

أمجد سعيد

يُناقش الباحث رشيد جرموني في مقاله البحثي والذي يحمل عنوان "الشباب المسلم والنظرة للديانات السماوية بين جدلية التسامح واللاتسامح"، والمنشور في مجلة "التفاهم"، جوهر السؤال التالي: ما هي العوامل التي تجعل من الشباب المسلم مُتعدد التوجهات في التعامل مع الديانات السماوية؟

وكما يناقش الباحث وجهات النظر المتعددة، فإنه يتطرق كذلك للسيرورة التاريخية التي قد تصنع مثل هذه التوجهات. تطرح التحولات والتغييرات الهائلة التي تعيشها المجتمعات والثقافات الإنسانية تساؤلات عدة؛ تشمل العديد من المسلمات والوثوقيات والسلوكيات أيضا، وقد تصل إلى النظرة الشمولية للكون ككل.

ولعلَّ السؤال الذي يبرز في الآونة الأخيرة من بين ثلة من الأسئلة المعاصرة والتي تُعنى بالمعتقد وحيثياته، "مع استعلاء ظواهر مختلفة؛ منها: الصدمة واللامعيارية، والقلق من الآتي والمجهول واللايقين، وأيضا فقدان الاتجاه"، هل ما نعتقده -كمسلمين- هو الصواب؟ ماذا عن الديانات الأخرى؟ ماذا عن العيش بدون هذه الديانات؟ وما خلف اللاتدين: الإلحاد واللاأدرية؟ وما يصاحب ذلك مجموعة من الإشكالات تضاهي في أهميتها التساؤلات السابقة، وهي في ماهية الاعتقاد؟ وكيف يتم تطبيق الاعتقاد بشكل مناسب؟ من المتعارف عليه أن هنالك ثوابت ومتغيرات، ومن الثابت أن العقيدة قد تستمر في اسمها الأصلي ودلالتها، ولكن من جانب آخر تحتاج لمواجهة التغييرات العصرية، وأن تطور آليات للاستمرار. وهذه اللحظات قد نجمع عليها كلنا بأنها لحظات "ضبابية المرجعيات".

إنَّ دراسة تدين الشباب في منطقة معينة تستدعي التوغل في طبيعة المعتقدات التي يتمثلها هؤلاء الشباب، وكيفية البناء المتجدد لمثل هذه المعتقدات، وهل هناك طرق مختلفة لمسألة البناء هذه؟ أي هل هناك تغييرات جوهرية تفرضها التحولات الزمنية في ماهية المعتقد وطريقة الاعتقاد به؟ من الأفضل أن تبدأ الإجابة عن هكذا تساؤلات بالفكرة ذاتها، أي بالمعتقد وما هو المعتقد، بحسب الباحثين في علم الاجتماع الديني: يقصد عادة بالمعتقد الديني أو الاعتقاد الديني "هو مجموع التصورات التي يبلورها الأفراد أمام كائن أعلى أو ذي قوة متعالية أو خارقة". وبسبب الإبهام في هذا التعريف نجد أنه من الصعوبة أن تقوم مختلف المجتمعات بتوحيد أو ضبط للمعاني والمفردات الخاصة بالمعتقد؛ إذ إنه يختلف ويتبدل من مجتمع إلى آخر ومن ديانة إلى أخرى. في الجانب الآخر ما يجمع الكل على مسلك واحد هو الحاجة إلى المطلق، والمعتقد هنا يمثل للجميع الحاجة الوجودية للإنسان. ومن هنا، تأتي مشكلة اللفظ نفسه، ولتحديد الهدف من تشابك المفاهيم حول لفظة الاعتقاد، الاعتقاد الديني على وجه الخصوص، يمكن القول بأن هناك أربعة أوجه مهمة لشرح وتفسير المعتقد، وهي التي يوضحها الباحثان: "سابينو أكوافيفا و إنزو باتشي"؛ حيث بينت الأبحاث العلمية وجود مجموعة من الملاحظات؛ منها: أولاً، إن الاعتقاد أشد صلابة من الممارسات الدينية ومن معنى الانتماء الديني، إذ يمكن للفرد أن يستمر في إيمانه، حتى وإن بدت على سلوكياته المرئية بعض الانحرافات أو مارس بعض الابتعاد عن الممارسات الدينية المفروضة من قبل بعض المؤسسات المجتمعية أو الجماعات. ثانياً، هناك اختلاف كبير بين ما يبنيه النظام التراتبي لمحتويات الاعتقادات الدينية الذي تخلقه وتصادق عليه المنظمات والمؤسسات المجتمعية، وما بين ما يخلقه ويطوره ويعرفه الفرد نفسه في الحلقة المجتمعية ذاتها. ثالثاً، إن رواسب الأنظمة المعرفية، والميثولوجيا الدينية يمكن أن نرى محتوياتها لدى الأشخاص الذين لا يظهرون بشكل علني علامات الإيمان والاعتقاد والممارسة التابعة لذلك، ويعلنون بشكل فعلي وجاد جحودهم المعتقدي. رابعاً، يتعذر في معظم الأبحاث التجريبية التمييز في مواقف الاعتقاد بين ما يجري تطبيقه على الصعيد الشخصي الفردي، وبين ما يتم إنتاجه ضمن بوتقة سياقات المجتمع نفسه وأوضاعه النفسية والمجتمعية.

إذا كان تعريف الاعتقاد ينشأ ويتبلور من أساس متشابك ومتشعب، فإن التنظيرات المجتمعية الإنسانية -التي تشكلت في سياق الحفر في هذه المعضلة- تجد أيضا الفرصة لطرح ومناقشة عدة أفكار وتوجهات ومواقف ورؤى ترتبط بمسارات الإنتاج لهذه الأفكار، وتنتمي إلى خلفيات منظريها. ولتقريب الصورة أكثر من هذه الأفكار والجوانب النظرية المتعمقة في مسألة الاعتقاد، ينبغي المرور على بعض التصورات والمقاربات التي حاولت أن تقترب أكثر من المسألة:

أولاً: أكد المفكر الفرنسي دي توكفيل أن الفرد هو الخلية الأساسية للمجتمع بصفته كائناً عاقلا ويمتلك تدينا طبيعيا، ويمثل الدين بالنسبة للإنسان شكلا لإشباع حاجات رئيسة، مثل إدراك معنى محدودية الظروف البشرية وتقبل مبدأ كبح الشهوات. بذلك يقول توكفيل إن الدين يمنهج مفهوم الصالح العام وهو ما ينظر له على أنه أساس الديمقراطية. أما التصور الثاني، فقد عبر عنه فرويد وماركس، فكما هو متعارف عليه بأن عالم الأفكار والرموز الدينية لدى ماركس تأتي بتفسير أن التفسيرات المناسبة لها تأتي من بنية فوقية، فعالم الأفكار هذا لدى ماركس هو صيغة اجتماعية تفرضها بعض الجماعات ذات النفوذ على غيرها من المستضعفين في المجتمع، حتى تخضعها لللاعدالة اقتصادية. وأيضا هناك الفكرة التي تقول بأن الأديان هي رؤى أيدولوجية زائفة تعكس زيف العلاقات الاجتماعية. أما فرويد فهو كما نعلم منجذب إلى تفسير سببية الاعتقاد، بربطها بالمحفز الأول وهو التحريم والذي يعد الميزة التي تميز الاعتقاد الديني، فالاعتقاد يستدعي وجهاً خفياً، شيئا غير قابل للنقاش وغير قابل على الاستحواذ أو الفهم.

وفي خضم هذا التقدم المحموم والمتقافز للعالم أجمع، بدأت بوادر هشاشة الفكر لدى الفئة الأغلب من الشباب تظهر وتبرز على السطح، ومن هذا المنطلق يجب على الفرد الشاب أولا أن يعي أسلحته الفكرية في مواجهة التيارات الفكرية المختلفة، ليس للإطاحة بها كونها عدوا، بل لفهمها لكونها قد تكون المعين لفهم الصورة الأكبر.

أخبار ذات صلة