جون ماك كورميك
وليد العبري
إلى أي حد كان مكيافيلي نفسه مكيافيليا؟ أكان الرجل داعية بلا أخلاق إلى الطغيان؟ أم كان نصيرا للحرية بلا هوادة؟ أكان محللا لطبيعة السلطة السياسية أم كان رجلا وطنيا إيطاليا ورعا ومتحمسا؟ وهل كان مُحييا للفضيلة الوثنية أم كان مُدشّن عهد العدمية الحديثة؟ يحاول الكاتب جون مالك كورميك الخوض في هذه المشاكل الشائكة الدائرة على تأويلات مكيافيلي، وذلك من خلال إعادة قراءة أشهر أعماله: الأمير، والخطابات، والتواريخ الفلورنسية – مبرهنا على كتابات مكيافيلي – المعدودة بالمشاكسة، والتي قد انطوت على نزعة ديمقراطية شعبية.
ويشدد أستاذ العلوم السياسية والفلسفة السياسية الأمريكية ماك كورميك على أنّ جوامع سياسة مكيافيلي، غير معروفة أحيانًا، من قوله بفائدة صراع طبقي قوي بين النخب والمواطنين العاديين لبناء جمهوريات ديمقراطية فاضلة، ومن ذهابه إلى ضرورة المساواة السياسية والاقتصادية بغية تحقيق حرية مدنية حقة، ومن قوله بضرورة توظيف استعارات ومجازات دينية لممارسة حكم شعبي فعلي، كل ذلك قد أسيء تأويله في القراءات السائدة، وسيظهر المؤلف ذلك بكيفية تلقي تأويلات فكر مكيافيلي السياسية، وجعل النخبة تتآمر لإخفاء طابع الدعوة إلى المساواة في فكر الرجل وسياسته. وبالجملة، الكتاب يعبر عن نقد مكيافيلي لدراسة مكيافيلي، وكأنّ بالمؤلف قد بعث مكيافيلي من قبره لكي يحاجج قراءة الذين اعتبرهم قراء مغرضين.
كما ناقش الكتاب تصوّر مكيافيلي للناس العاديين، هل هم جمهور قابل أو عرضة للإقناع والتلاعب، وذلك بواسطة "المظاهر والنتائج"؛ وبالتالي، كيف ينصح الأمراء أو الدول ذات الطابع الجمهوري بالتحفيز والتجنيد؛ ليكون بمثابة قوة سياسية هائلة ورواية تاريخية.
كما يوضح الكتاب بالمثل أفكار فلورنتين فيما يتعلق بمزايا وحدود الصراع الاجتماعي الشديد، بين عامة المواطنين، والنخب في السياسة الداخلية للجمهوريات الديمقراطية، خاصة حول مسألة إعادة التوزيع الاقتصادي. في الواقع، يتساءل البعض كيف قام مكيافيلي بإجراء تشخيص وتحليل عميق في احتمالية أنّ تزايد التفاوت الاجتماعي والاقتصادي يولد دائمًا فسادا سياسيا في جميع الجمهوريات - خاصة تلك التي تتبع إمبراطورية ما - وأكد كذلك على الترتيبات المؤسسية والدستورية.
ومن النماذج التي نوقشت في الديمقراطية المكيافيلية، على وجه التحديد، المحاكمات والاستفتاءات التشريعية والمحاكمات السياسية التي يُحكم عليها شعبيا، التي اعتقد مكيافيلي أنّها تفضي إلى حكومة شعبية جيدة التنظيم.
وللعلم فإنّ مكيافيلي عمل دبلوماسيا لمدة أربعة عشر عاما في جمهورية فلورنسا الإيطالية أثناء نفي عائلة ميديتشي الحاكمة، عندما عادت العائلة إلى السلطة في عام ألف وخمسمائة واثني عشر، تم طرد مكيافيلي وسجن لفترة وجيزة. ثم كتب "The Prince" وهو دليل للسياسيين على استخدام المكر وعدم الرحمة للوصول إلى أهدافهم، وسميت هذه النظرية "المكيافيلية" ولقب "أب النظرية السياسية الحديثة".
كان نيكولو مكيافيلي سيضمن بلا شك شهرة دائمة لأي من الأدوار التي كان يؤديها ببراعة خلال حياته داخل وخارج عصر النهضة في فلورنس: دبلوماسي، استراتيجي عسكري، موظف مدني، شاعر، كاتب مسرحي. ومع ذلك، فقد اكتسب مكيافيلي شهرة أبدية، بصفته فيلسوفا سياسيا، من خلال إثارة العديد من الخلافات العلمية الأكثر حدة وإلهاما ببعض التغييرات السياسية الأكثر عمقا في التاريخ الغربي. ومن دون سبب، يعتبر الكثير من المعلقين أنّ مكيافيلي والد الفكر السياسي الحديث أو العلوم السياسية الحديثة - بل إنّ البعض يعتبره مؤسس "الحداثة" نفسها.
تحدّث الفصل الأول من الكتاب، عن شغف نيكولو مكيافيلي الديني، إذ أنه بعد خمس سنوات مروعة، لم يظهر أي إجماع حتى الآن على آراء نيكولو مكيافيلي الدينية. على الرغم من مواقفه السياسية المناهضة للكنيسة، إذ لا يزال العديد من العلماء يصرون على أنّ توجه مكيافيلي نحو الدين لا يزال إلى حد كبير في نطاق المسيحية الأرثوذكسية، أقل من الرغبة في القضاء على التدين من الوجود الإنساني وإقامة نظام عالمي ملحد. لا ينجز هذا الفصل إلا القليل لحل هذه القضية؛ إذ أنّه يستكشف فقط الطريقة التي يوظف مكيافيلي رمزية مسيحية في منعطفات حرجة من كتاب الأمير، على وجه التحديد.
وتحدث في هذا الفصل أيضًا عن المحافظة على ثراء الجمهور وفقر المواطنين، من حيث عدم المساواة الاقتصادية والفساد السياسي في الأزمات؛ لأنه ربما تكون عدم المساواة الاقتصادية أكبر تهديد للحرية المدنية التي تعدها الجمهوريات، القديمة والحديثة، لمواطنيها. وتعتمد الحرية أولا وقبل كل شيء على المساواة السياسية إذ يجب على كل مواطن التأثير على صنع القانون والسياسة بطريقة متساوية نسبيا مع الجميع، على الأقل، ويجب أن تكون الحكومة سريعة الاستجابة ومسؤولة أمام جميع المواطنين على قدم المساواة إلى حد ما. ومع ذلك، فإنّ الحرية السائدة في الجمهوريات تسمح دائما لأولئك المواطنين بتراكم مواردهم المادية بشكل أكبر، وعلى المدى الأطول، يعتبر رأس المال الثقافي للأفراد والأسرة، هي السمعة للاستمتاع بهذه المزايا على حساب المواطنين الأقل حظا. ببساطة، تحدث مكيافيلي عن أهمية المساواة بين الجميع لضمان احترام المواطنين للحكومة، ولضمان استمرار الحكومة في الرعاية.
كما تحدّث جون ماك كورميك عن أسطورة منعطف المحافظ في تاريخ فلورنسا، والتي أصبحت لاحقا فكرة الكتابات السياسية لنيكولو مكيافيلي، ولا سيما تاريخ فلورنتين أيضا، الذي تمّ نقله إلى المحافظ المطورة حديثا، وأصبحت اليوم رأيا مستقرا. حتى العديد من العلماء الذين يميلون إلى تحديد التفضيلات السياسية لوزيرة فلورنتين السابقة، كما ينعكس ذلك في كتاب "The Prince and the Doursesourses" ويستنتج الجانب الديمقراطي أكثر منه الأرستقراطي من الطيف السياسي للجمهورية، وقد أصبح المؤلف أكثر نضجا من التاريخ، وقد غير آراءه بعدة طرق أساسية. الأهم من ذلك، أنّ مكيافيلي أصبح أكثر انتقادا إلى حد كبير من الشعوب المشتركة، وأكثر إعجابًا بالنخب، من كتاباته السابقة.
إنّ الصعوبات الكثيرة التي تطرحها نصوص مكيافيلي على المترجمين الفوريين، والتي بالطبع تفسر التساؤلات العديدة المتولدة على مر القرون، إذ تحاكي التحديات التي تطرحها الحقيقة السياسية الفعلية لكل من الحقائق النصيّة والعلمانية المركزية لمخاوف مكيافيلي، والتي لا يمكن القبض عليها إلا من خلال اكتشاف العديد من العناصر ومتابعتها وتحليلها بعمق كبير، وذلك من خلال كتاباته والتي عادة ما تكون مربكة، وتمر بالعديد من التقلبات، وينعطف في خلاف ذلك سرد مباشر، في التلميحات التوراتية والكلاسيكية والمعاصرة، ضمنية في بعض الأحيان وصريحة في أحيان أخرى. ومن المفاجآت في كثير من الأحيان من الإيجابية في الحديث إلى الحديث عن أمثلة سياسية سلبية، وصور عنيفة، تهدف إلى صدمة القراء. كما أنّه من المميزات أنّه يطرح تساؤلات تعين القارئ على تحليل ذلك المشهد والإجابة عن تلك الاستفسارات.
كما تحدث الفصل الثاني عن رفض جان جاك روسو لجمهورية مكيافيلي الرومانية الديمقراطية. وروسو فيلسوف وكاتب وملحن من مواليد سويسرا في القرن الثامن عشر، مكث في باريس واختار الكتابة في حياته المهنية، وعلى الرغم من اكتسابه الشهرة ككاتب ومؤلف في نهاية الثلاثينيات، إلا أنّه أطلق العديد من الأعمال اللاحقة مثل العقد الاجتماعي وإميل؛ وهذا ما جعله يحصل على مكانة في الأدب العالمي. قضى أيامه الأخيرة متنقلا من مكان إلى آخر، وفي وقت لاحق ألهمت أعماله أجيالا من الإصلاحيين لإحداث تغييرات في النظم السياسية لبلدانهم. ومع ذلك، في المراحل الحاسمة تمّ إهمالها في التأليف السياسي الكبير. يصف روسو في "العقد الاجتماعي" المؤسسات التي تمنع المشاركة السياسية للمواطنين العاديين والتي تمكنهم بدلا من تقييد صلاحيات النخب داخل الجمهوريات والحكومات الشعبية. يوضح هذا الفصل أنّ أجزاء كبيرة من العقد الاجتماعي المنقح للجمهورية الرومانية تعزز المؤسسات التي تعيق الجهود الشعبية، ومن الأمثلة على ذلك، المشاركة كمواطنين أحرار ومتساوين داخل الجمهوريات، وللحفاظ على الأثرياء من السيطرة على المجتمع، ولمنع القضاة من ممارسة السلطة السياسية المفرطة.
يشرح روسو نظريته حول الحرية والمساواة والحكم الجيد، وذلك من خلال مناقشة مستفيضة للمؤسسات والممارسات السياسية للجمهورية في روما. في حين أنّ المواطن يدافع عن النوايا الحسنة للجمهورية، فإنه يتنصل مباشرة من جوانب محددة من إعادة الإعمار الديمقراطي لوزير فلورنتين في الجمهورية الرومانية في الخطابات. وإنّي أزعم أن تحليل روسو وملاءمته للجمهورية الرومانية يقوض عمدا جهود مكيافيلي لإعادة بناء وتعزيز المؤسسات، التي تزيد من مشاركة المواطنين الفقراء في الحكومات الشعبية، وتسهل جهودهم للسيطرة على النخب الاقتصادية والسياسية.
إنّ مراجعة روسو الجذرية لتخصيص مكيافيلي للجمهورية الرومانية القديمة، اقترح تاريخيا، أنّها تمنع احتمال وجود حيلة بديلة قائمة على المشاركة الشعبية ومناهضة للنخبوية للجمهورية الحديثة، التي كانت ستخدم في القرون اللاحقة النظرية والممارسة الديمقراطية بشكل أفضل؛ وذلك من خلال نشر مبادئ مجهولة اجتماعيًا مثل العموم والسيادة الشعبية، وعن طريق حصر مساءلة النخبة في الانتخابات وحدها.
تتيح التحليلات والمقترحات المؤسسية لروسو للمواطنين والقضاة الأثرياء وتشجعهم على السيطرة على سياسات الحكومات الشعبية بشكل خفي وغير متاح.
كانت محكمة مكيافيلي هيئة قضائية دائمة مخصصة للمواطنين من عامة الشعب، والتي مكنتهم من الطعن في قوة وامتياز الطبقة العليا في مجلس الشيوخ في روما. من جانبه، يلقي روسو باللوم على وفاة الجمهورية وصعود الأباطرة على المحكمة الرومانية، وفي إعادة بنائه للقضاة؛ إذ يحيلها إلى وضع مؤقت ويحيد فائدتها للمواطنين.
ومن المواضيع التي تتطرق لها الكتاب، رأي ليو شتراوس في مكيافيلي؛ إذ أنّ ليو شتراوس فيلسوف أمريكي يهودي من أصل ألماني، يعده البعض الملهم لأيديولوجيا المحافظين الجدد التي تسود حاليا داخل الحزب الجمهوري الأمريكي، وهو مؤسس الفلسفة الباطنية. يبحث هذا الفصل في ارتباط ليو شتراوس بالعناصر الديمقراطية في الفكر السياسي لنيكولو مكيافيلي - على وجه التحديد - إذ أنّ رحيل مكيافيلي بذاته عن القدماء في تأييد الحكم السياسي ومشاركة الكثيرين على القلة وفي التوصية بالناس، بدلا من النبلاء، كأساس نهائي للسلطة السياسية.
وبما أنّ الكتاب تحدث عن رأي ليو شتراوس في مكيافيلي، فإنّه لم يغفل الحديث عن رأي فرانشسكو كيتشارديني أيضًا في نظرية نيكولو مكيافيلي، وهو يعتبر صديقا ومقربا جدا من مكيافيلي وفي نفس الوقت يعتبر أكبر النقاد له. كيتشارديني أحد الكتاب السياسيين الكبار في عصر النهضة الإيطالية، ويعتبر أبو التاريخ الحديث؛ وذلك بسبب أسلوبه في استخدام وثائق حكومية لدعم كتابه "تاريخ إيطاليا". وكان هذا العقل من أقوى عقول زمانه، لا يطيقه ذوقنا لإسرافه في سخريته، ولا يتفق مع آمالنا لإفراطه في تشاؤمه، ولكنه عقل نافذ كالضوء الكشاف يجوب أطراف السماء، صريح صراحة الكاتب الذي قرر بحكمته ألا ينشر ما يكتب إلا بعد وفاته.
وفي خلاصة القول، يزعم هذا الكتاب أنّ هؤلاء المؤرخين الفكريين المشهورين عالميا يحجبون جوانب مهمة من الفكر السياسي للجمهورية الميكيافيلية؛ وعلى وجه التحديد، يتجاهلون إلى حد كبير حقيقة أنّ الجمهوريات القديمة والحديثة تؤمّن المكانة المميزة للنخب أكثر من أنّها تسهل المشاركة السياسية للمواطنين.
------------------------------------
الكتاب: قراءة مكيافيلي
المؤلف: جون ماك كورميك
دار النشر: منشورات جامعة برينستون
لغة النشر: اللغة الانجليزية
سنة النشر: 2018م
