علي الرواحي
هذا الكتاب ليس رواية، فكل الأحداث والشخصيات واقعية، حيث لم يتم تغيير الأسماء، ولا الأمكنة، ولا التواريخ، فالسردية هنا قامت بعد الكثير من المُقابلات المُختلفة مع هذه الشخصيات، وزيارة هذه الأماكن، كما تمَّ استخلاص هذه الأحداث من وثائق كثيرة تزيد عن ثلاثين ألف وثيقة.
هكذا يبدأ المؤلف كام سيمبسون وهو الصحفي الاستقصائي والكاتب الذي عمل في الكثير من الصحف المرموقة مثل بلومبيرغ، وول ستريت جورنال، وشيكاغو تريبيون، وغيرها، كما حاز على الكثير من الجوائز في مجال التحقيقات الصحفية، وتقلد الكثير من المناصب والمهام المختلفة في مسار حياته الحافلة بالأنشطة والمُغامرات، حيث يبدأ مقدمة هذا العمل أو السيرة الذاتية التي تتحدث عن فتاة من العاصمة النيبالية كاتمندو تبحث عن العدالة واثني عشر رجلاً لقوا مصرعهم في حادثة غامضة ومُتداخلة، وذلك على مدى ثلاثة أجزاء وملحقين.
يبدأ العمل من أغسطس 2004م، وذلك عندما غادر اثنا عشر رجلاً من النيبال قراهم للعمل في الأردن في فندق خمس نجوم، كما تمَّ كتابة ذلك في العقود الوهمية، غير أنَّ واقع الحال لدى وصولهم إلى المكان الجديد لم يكن كذلك، حيث تم اختطافهم في الأردن ونقلهم إلى العراق للعمل في قاعدة عسكرية أمريكية وتحديداً في شركة هاليبرتون الشهيرة، اختطفتهم جماعات إرهابية في العراق وقتلتهم، بطريقة بشعة للغاية، ولكنها ليست غريبة عن مسار هذه الجماعات في التعامل مع الكثير من الرهائن، الأمر الذي جعل أرملة أحدهم بالتَّعاون مع الصحفي الشهير سيمبسون تأخذ القضية على محمل الجد، مما أدى إلى فتح تحقيق كبير وواسع في هذا الشأن لتصبح هذه الأرملة بطلة القصة وذلك من خلال جهودها الكبيرة مع مختلف المؤسسات العالمية في سعيها الحثيث للوصول إلى العدالة ولكشف ملابسات هذه القضية التي لم تجد التغطية الإعلامية الكافية مُقارنة بالكثير من القضايا والأحداث المشابهة لها.
أصبحت لاحقًا صورة كامالا وهي تحمل ابنتها كما في الغلاف الصورة الأيقونية لهذه الحادثة المأساوية، كما نشرتها صحيفة شيكاغو تريبيون فيما بعد، كما نجد أن هذه الحادثة قد انتشرت في الكثير من الوسائل الإعلامية المختلفة، وعن طريق وسائط كثيرة منها ما هو مرئي، أو مقروء وغيره.
بالرغم من أهمية هذه السردية المؤلمة، إلا أن هناك تفاصيل كثيرة حدثت قبل سفر هؤلاء الأشخاص البسطاء للبحث عن العمل، وتفاصيل لا تقل أهمية وكثيرة أيضًا حدثت مع كامالا ماجارا التي نذرت نفسها وحياتها لمعرفة ما حدث بالتفصيل.
ولمعرفة السبب الرئيسي لتبني كامالا هذه القضية من الضروري معرفة أن جت بهادور، زوجها، وأحد الأفراد المتوفين في سياق هذه الحادثة المأساوية، كان يسعى كبقية الآباء للعمل من أجل تحسين الظروف المعيشية للعائلة: زوجته كامالا وطفلته. فعندما رأى إعلان العمل سارع إلى التسجيل فيه، بالتعاون مع الوكيل أو مستشار العمل الموضح في الإعلان، كما أنَّ إعلان العمل بالرغم من ظروف موقع العمل كانت صعبة، إلا أن الدخل الشهري كان عالياً، بما يكفي لإغراء الكثير من الأفراد في مختلف الطبقات للعمل فيه، لم يكن جت بهادور يعرف حقيقة الإعلان، أو تفاصيل الشركة القائمة عليه، والتي تعتبر وكيلاً محلياً يسعى لتوظيف العمالة الرخيصة في مناطق الحروب والتوتر، ومن ضمنها العراق. لاحقاً، تم قبول جت بهادور في الوظيفة، غير أنَّ غيابه الذي استمر لمدة 48 يوماً، وعدم تواصله مع أفراد عائلته، أثار الكثير من القلق لدى زوجته، والصدمة كانت عندما تمَّ ذكر اسم زوجها في الإذاعة المحلية بأنه من ضمن الأفراد المقتولين في العراق. في ذلك اليوم، وفي تلك اللحظة تحديداً، تغيرت شخصية كامالا نهائياً، وإلى الأبد، عندما قالت" أعتقد أنَّ حياتي انتهت".
لم يكن المال متوفرًا لدى كامالا للشروع في مسار هذه القضية، غير أنَّ قضاءها وقتاً كافياً في تولسي مهر الأشرم، وهو ملجأ باسم غاندي في العاصمة النيبالية كاتمندو، كان كافياً للبدء في هذه القضية، وذلك بالتعاون مع بقية الأرامل زوجات المقتولين في نفس الحادثة، كما تلقت مساعدات من أطراف أخرى كثيرة بالإضافة إلى عملها في مهنة الخياطة، حيث إنها ساهمت في مساعدتها من الناحية المالية على رفع قضية في المحاكم الأمريكية على شركة التوظيف الأمريكية التي استأجرت زوجها، وذلك بالتعاون مع الصحفي الاستقصائي مؤلف هذا العمل.
غير أنَّ المحكمة الأمريكية طلبت تعويضها بمقابل مادي مقابل إغلاق ملف هذه القضية، في حين أن موقفها وهدفها ليس المال، وإنما العدالة كما أصرت على هذا المبدأ بشكل كبير فيما بعد، الأمر الذي جعل المحكمة تُجبر هذه الشركة على دفع تعويضات مالية لعائلات جميع الضحايا في العراق.
لاحقاً، منعت الحكومة النيبالية ذهاب المواطنين للعمل في العراق لكنها رفعتها دون معرفة كافية بالأسباب أو توضيح لما حدث وراء الكواليس، وبالرغم من الحظر الجزئي فإن النيباليين يذهبون للعمل هناك، ربما إلى حد كبير بسبب الإغراءات المالية غير مكترثين للمخاطر الكثيرة التي تكتنف هذه الأنشطة في العراق، وتحديداً في الفترات السابقة.
أثارت قصة هذا العمل بكل تفاصيلها المأساوية الكثيرة، العديد من التساؤلات الموجهة للحكومة، حول معرفتها بقضية الاتجار بالبشر، أو الإجراءات التي من الممكن أن تتخذها لجعل وجهات العمل للمواطنين النيباليين آمنة، غير أنَّ الرد الرسمي لم يكن كافياً أو لا وجود له في هذه القضية.
يتحدث هذا العمل بصورة غير مباشرة عن شركات التوظيف العابرة للقارات، والتي لا تراعي الظروف المختلفة للعُمال، ضاربة بعرض الحائط بكل التحديات والمخاطر الإنسانية التي يواجهها العاملون في الكثير من المهن المختلفة، حيث إن الجشع وانعدام الجانب الإنساني وليست الرغبة الطبيعية في الربح من جانب هذه الشركات يعتبر المحرك الرئيسي لهذه التحركات. كما أن البحث عن العمالة الرخيصة، وغير المتعلمة بالشكل الكافي، والاتجار بها في سوق العمل والمراهنات، يجعل هذه العمالة عُرضة للانتهاكات الحقوقية، وغموض عقود العمل، وعدم مراعاة الجوانب الإنسانية الضرورية.
في مسار هذه المأساة تداخلت الكثير من التفاصيل، بين طلب الفدية من قبل بعض الجماعات الدينية المتشددة في العراق، وبين تلك الرغبة الكبيرة في الحصول على المال من قبل الشركات الرأسمالية الكبيرة التي تتاجر، وتتعامل مع البشر بمنطق السوق، منطق الربح والخسارة، وعدم الاهتمام بمخاطر العمل وظروفه المختلفة.
تكشف تفاصيل هذا العمل بشكلٍ كبيرٍ عن أن العولمة لها جانب سيئ جدا، كما توضح أن شركات التوظيف الربحية تنظر للبشر بوصفهم أدوات للربح فقط، كما تُبين بأن أسواق هذه الشركات في تزايد مستمر، وهي تُركز على الدول الفقيرة، وعلى المواطنين ذوي الدخل والتعليم المحدود، كما أنها تكشف عن أنَّ أصحاب رؤوس الأموال، أو المصانع التي يتم إرسال هذه العمالة الرخيصة للعمل بها، لا يعرفون عن ملابسات هذه العقود، أو بمعنى أصح لا يكترثون بها، ولا بالظروف المحيطة بالعاملين بها. ذلك أن معظم أسواق العمل العالمية، والكثير من أصحاب رؤوس الأموال حول العالم، يجلبون العمال من خلال شركات عالمية، أو من خلال شبكات عمل ووساطات معقدة، ومختلفة، وفي الكثير من الأحيان غامضة ومجهولة.
فهذه الشركات، ومن خلال الوسطاء، تصل إلى أماكن كثيرة، ومختلفة من بقاع العالم، كما أنها تستطيع الوصول عن طريق الوسطاء إلى المدن الفقيرة، في الكثير من الدول مثل النيبال، وكمبوديا، وميانمار، وغيرها؛ حيث إن هذه الأسر أو هؤلاء العُمال، يشترون العقود من الوسطاء، مقابل أجور مكلفة، ينبغي سدادها لفترة زمنية طويلة، ومقابل قروض كبيرة يحتاج سدادها فترات زمنية طويلة، والرابح الأكبر هي شركات الوسطاء المختلفة في العالم. بهذه الطريقة تدار أسواق العمل العالمية، وتدار الحروب في نفس الوقت، حيث تعتبر هذه الأسواق مكاناً خصباً لانتهاك حقوق الإنسان، والاتجار بالبشر بالدرجة الأولى. وهو ما يُفسر إلى حد كبير شيوع مصطلح "خصخصة الحرب"، أو "مرتزقة الحروب". حيث نجد شركة هاليبرتون على سبيل المثال تمتلك المئات من الجيوش اللامرئية والتي تعمل بعقود عمل في التنظيف، وحفر الخنادق، ونقل الشاحنات إلى المخازن في الصحراء وغيرها من المهام الخطرة وغير المجزية مقارنة مع مخاطر العمل.
في هذا السياق، يدُين المؤلف من خلال بحث ميداني لفترات طويلة، الرأسمالية الجشعة بكل أبعادها المختلفة، تلك التي لا ترى في الإنسان غير سلعة تُباع وتُشترى بأرخص الأثمان وأبخسها؛ حيث إن هذه الشركات وتحديدا هاليبرتون أصبحت ومنذ حرب فيتنام أكبر شركة بناء في العالم، وهو الأمر الذي تعزز في العراق لاحقاً.
لا تقتصر آثار العولمة على الحروب، بالرغم من قساوتها وفظاعتها، بل تستمر بجانبها السلبي في سوق العمل، والاستعباد الذي يُمارس على البشر ممثلا في استغلال القوى العاملة من قبل شركات التصنيع الكبيرة، تلك التي تنتج ملايين الأجهزة الإلكترونية التي يتم تداولها في كل بقاع العالم، حيث إنها تخضع لظروف عمل قاسية، وغير إنسانية، وهي تتجسد في الملابس التي نرتديها على أجسادنا كما يقول المؤلف.
حسب هذا الكتاب، نجد أن مسار الأحداث للبحث عن العدالة قد اتخذ مناحي واتجاهات مختلفة، فهناك الكثير من الخفايا التي تستوجب التنقل، والبحث في الكثير من العواصم المختلفة، مثل بغداد، والأردن، وواشنطن، وهيوستن، وكاتمندو العاصمة النيبالية، وغيرها من المسارات والأماكن المختلفة. ذلك أن القانون لا يدعم في الكثير من البلدان محاكمة هذه الشركات العابرة للحدود كما أشار المؤلف، بل ينبغي العودة لمقر هذه الشركات، وهو هنا واشنطن، أو هيوستن، وغيرها، لرفع القضية، والبحث عن ضوء في هذا النفق المظلم. بالإضافة لذلك، نجد أن قوانين الكثير من البلدان تعاني من نقص فادح، وقصور كبير في هذه التشريعات، فالمقر الرئيسي لهذه الشركات خارج الحدود السياسية للدولة، والأنشطة التجارية تحدث في دولة أخرى، غير أن هذه الدولة لا تستوعب هذا التشطي في القوانين، ولم يتم تحديثها من قبل المشرعين، الأمر الذي ينعكس بشكل ٍ مباشر على المتضررين من أنشطة هذه الشركات من جهة، ويضع هذه الشركات فوق المساءلة والمحاسبة من الجهة الأخرى، وهو ما ترفضه الكثير من الدساتير والقوانين في بعض البلدان.
في هذا السياق، من الضروري الحديث عن تأثير هذه الشركات على الاقتصاد العالمي، حيث تتسم بتعدد المراكز والقيادات فيها، كما أن لها الكثير من الأفرع والمكاتب خارج البلد الأم، وهو ما يعني بأنها فوق القوميات؛ لأنها لا تلتفت لهذه الاختلافات الثقافية التي تزخر بها مختلف المجتمعات والدول، بل نجدها في الكثير من الأحيان تستخدمها، أو توظف هذه الاختلافات لتنويع المنتجات، وإبراز الطابع العالمي لها. وفي الكثير من الحالات نجد أنها تنتهك حقوق العُمال، ولا تحافظ على الجانب الإنساني للعامل، بل تتعامل معه بصفته آلة، أو سلعة، ينبغي التعامل معها، أو بذل أقصى الجهود للحصول على أكبر قدر من الإنتاج في وقت قصير، وبسرعة عالية.
بالإضافة لذلك، وفي فترة سابقة لعام 2004م، وتحديدا في عام 1993م كان جوري -وهو أحد الشخصيات التي قتلت لاحقاً - قادماً من قرية صغيرة في جبال النيبال الشاسعة، والخضراء، يتبع حقول الأرز المزروعة في الجبال كما هو الحال في كل عام، حيث إنَّ الظروف المالية الصعبة تستوجب البحث عن العمل، أي عمل كان، والقبول به بالرغم من المستوى، والمصاعب التي تكتنفه. وبالرغم من الجانب المجهول فيه، نجد أنَّ رحلة البحث ليست سهلة، إذا أخذنا في الحسبان المستوى التعليمي للمزارعين الذين أنفقوا جزءًا كبيرا من حياتهم في الزراعة البسيطة، أو العمل في الحرف المُتواضعة، الأمر الذي يؤثر بشكل جوهري على مستوى الوعي، ونوعية العمل، والمعرفة بالحقوق، مما يجعل هذا النوع من العُمال سهل الاصطياد، نتيجة للأسباب السابقة من جهة، وعدم الوضوح الذي تُمارسه شركات التوظيف الانتهازية.
علاوة على ذلك، وفي ختام هذا العمل نجد الكثير من الدروس التي من الممكن الخروج بها فيما يتعلق بإصرار كالامار على التقصي وبذل الكثير من الجهود في سبيل البحث عن العدالة وتحقيقها، بالرغم من المصاعب التي تقف في وجه هذه المهمة الصعبة، وبشكل ٍ خاص إذا أخذنا في الحسبان، التعقيد الكبير الذي تتسم به هذه القضية، حيث نجد أنَّ عنوان هذا العمل يشير وبشكل مباشر إليها، في إشارة واضحة إلى أنه بدون هذه الجهود لم يكن لهذه القضية أن تخرج للعلن، بل ستبقى طي الكتمان، في بلد ٍ لا يهتم بحقوق الإنسان، ولا بالجانب القيمي، مقتصرا فقط على الجانب المعيشي، والبحث عن المهنة والوظيفة.
في الجانب الآخر، نجد أنَّ الكثير من المبادرات الشخصية لبعض الصحفيين، الذي يتحملون المخاطر الكثيرة، ويتكبدون عناء الإنفاق المالي، والنفسي، والشخصي، في سبيل كشف بعض ملابسات هذه القضايا، في وقت يعج فيه العالم بجرائم القتل، والاختطاف، وغيرها، التي تتوجه بشكل ٍ محدد إلى هذه الشركات الكبيرة، بهدف محاسبتها، وتقليم أظافرها، وتخفيف سلطتها على البشر.
الكتاب : فتاة من كاتمندو
المؤلف: كام سيمبسون
الناشر: Harper, 2018
عدد الصفحات: 386
لغة الكتاب: الإنجليزية
