أليكسي بايفسكي وآنا هوروجايا
فيكتوريا زاريتوفسكايا*
عندما اعتزم الكيميائي الروسي أليكسي بايفسكي، الذي دخل منذ فترة طويلة مضمار الصحافة العلمية بخطوات جدية، وأنجز فيه عدة مئات من المقالات والمذكرات الإخبارية المتعلقة بالعلوم، ومعه الصحفية الطبية آنا هوروجايا إنشاء بوابة إلكترونية باللغة الروسية حول تطور وتاريخ الطب، خامرهما الشك في أسبقية ما يعتزمان القيام به في شبكة الإنترنت. وحين ثبت لهما أنَّ أحدا لم يسبقهما إلى ذلك، شرعا بحماسة في تنفيذ مشروعهما وأقبلا عليه بوعي علمي واسع، ما جعل من بوابتهما مكتظة بالزوار والمهتمين بقضايا الطب، الأمر الذي حدا بهما إلى إصدار كتاب مشترك يتداخل فيه الطب بالتاريخ العلمي والفن.
يناقش المؤلفان في العشرين فصلاً لكتابهما ما أسمياه بأروع القصص عن اكتشاف الأمراض الغامضة وطرق علاجها منذ زمن ابن سيناء وحتى يومنا الراهن (الطاعون، والخناق، والسل، ومرض البيري بيري، والملاريا، والتصلب الجانبي الضموري، ومرض الشلل الرعاشي وغيرها من الأدواء) وذلك إلى جانب الأمراض التي يشار إليها بوصفها علل غير جسمانية ولكنها تقع ضمن الحالات المرضية التي تضر بصحة الإنسان بشكل عام كالأمراض المعدية واضطرابات الدماغ والجهاز العصبي ومجموعة المتلازمات إضافة إلى الأمراض الوراثية.
لم يكن هدف بايفسكي وهوروجايا وضع كتاب مرجعي في الطب، يشمل نوعية الأمراض وأعراضها وتتبع مصادرها التاريخية والإحاطة بأدويتها وتجارب العلماء وبحوثهم العلاجية إلخ، بل ظل تركيزهما على أمور أخرى تنفتح على عالم الطب من زاوية جديدة، وتطل على جزئيات لا تلامس الأمراض في عصبها بالضرورة، ولكنها تؤثث الفضاء الطبي بمفهومه الأشمل والأعم؛ مثال على ذلك تتبعهما للصعوبة الكبيرة التي تواجه لجنة الاختيار والتحكيم في جائزة نوبل للطب، وآلية عمل اللجنة، ومنح هذه الجائزة المرموقة لأطباء وعلماء غير مُتوقعين. كما يتطرقان إلى عنصر المصادفة المؤثر في تطور الطب وابتكاراته، والطبيعة الفضولية للعلماء، وحب المُغامرة لدى الباحثين عن سبل العلاج، وينظران إلى الآثار المدمرة التي خلفتها الأمراض الجماعية على مجريات التاريخ، كما يسلطان الضوء على الآثار الفنية ودورها في الاكتشاقات الطبية.
إنَّ أكثر ما يُثير الانتباه والمتابعة في كتاب بايفسكي وهوروجايا هو الجمع الشفاف بين تاريخ الطب والأعمال الفنية الكلاسيكية الراقية؛ نجد في الفصل الخامس المتعلق بمرض الدفتيريا (الخناق) ربطا بين هذا المرض بإسبانيا وفنانها الرائع فرانشيسكو غويا (1746-1828). فكما يلاحظ الباحثان فإنَّ ظهور هذا المرض، الذي يؤدي إلى حالات اختناق قاتلة، مرتبط بظروف غامضة عاشها هذا البلد. يقول المؤلفان: "لقد ظهر المرض في إسبانيا أول مرة عام 1597 ثم في عام 1599 وعام 1600، ولكنه انتشر كوباء مدمر في عام 1613 ودخل تاريخ البلد حيث سمي ذلك العام، عام الخناق. وقد اكتسب هذا المرض تسميته العلمية (الخناق) من الإسبان الذين استنبطوه من طريقة العقاب الشائعة عندهم في العصور الوسطى حيث كانوا يطوقون المذنب بحلقة حول رقبته ثم يتم تقليص حجمها تدريجيا حتى الوصول إلى مرحلة الخناق النهائي" (ص: 109). وقد تركت لنا تلك الحقبة لوحات فنية تصور الإسعافات الأولية للمرضى، ولكن اللوحة الأشهر كانت بتوقيع الفنان الإسباني الكبير فرانشيسكو غويا وحملت اسم "لازاريلو دي تورميس" وقد رسمها بين أعوام 1808-1812 حيث يصور فيها طبيباً يحاول إنقاذ طفل مصاب بالخناق وذلك بتخليصه من أغشية الحنجرة الرمادية. ويُعتقد أن غويا حاول بذلك تكريم ذكرى ولد له توفي بسبب هذا المرض.
في الفصل المخصص بالمرض المعرف باسم "شاركو - ماري - توث" (تيمنا بأسماء العلماء الثلاثة اللذين كرسوا حياتهم لدراسته) وهو مرض يضرب الجهاز العصبي في الجسم، يتناول المؤلفان أعمال الفنان الكلاسيكي الأمريكي "أندرو وايت" الذي عاش في القرن العشرين، ولا سيما لوحته المسماة "عالم كريستين"، وهي واحدة من أكثر الأعمال شهرة في تاريخ الفن التشكيلي الأمريكي. توجد هذه اللوحة الفنية التي تم إنجازها عام 1948 في متحف الفن الحديث في نيويورك وتصور امرأة شابة ترنو إلى دار قصية وتحاول جاهدة إلقاء نظرة عليها بكامل ما تمتلك من قوة جسدية. المشهد يجري في يوم صيفي جميل. ومع ذلك، فإن هذه الصورة، التي قد تبدو جميلة وحسب لغير المختصين، تمتلك جانبا مظلما. فالشخصية الرئيسية لللوحة هي صديقة الفنان وجارته، السيدة كريستين أولسون. لقد عانت السيدة كريستين معظم حياتها من مرض غامض أعاقها تدريجياً عن الحركة. ففي طفولتها ويفاعتها كانت تعيش حياة طبيعية وتفعل ما تريد: تركض في المروج وتركب الخيل وتتجول في الحديقة وتتنزه مع أصدقائها على الشاطئ. ولكنها ما إن بلغت عمر السادسة والعشرين حتى ساءت حالتها وأصبحت حصتها من المشي الطبيعي لا تتجاوز أربع خطوات، تطلب بعدها المساعدة. مع ذلك ظلت رغبتها في العيش واستكشاف العالم مشتعلة، الأمر الذي حدا بجارها الفنان أندرو وايت بتخليد حالتها في لوحة عبقرية.
يصف الفصل المتعلق بمتلازمة أنجلمان كيف تم تحديد السمات الرئيسية لهذا الاضطراب العصبي وذلك بفضل أحد الفنانين الطليان. القصة تبدأ حين زار طبيب الأطفال البريطاني هاري أنجلمان في إجازته معرضا للفن التشكيلي في مدينة فيرونا الإيطالية وتجول في قاعاته "حتى توقف فجأة أمام صورة صبي رسمها الفنان الإيطالي فرانشيسكو كاروتا. ظل يحدق في هذا الوجه السعيد، فتحة الفم، وتلك العيون في هذه الرسمة الغريبة للأطفال، التي ما زال المؤرخون الفنيون يتجادلون في مصدرها: هل هي من إبداع الفنان نفسه أم أنه أعطى قلم رصاص لطفل الجيران؟ وقد عاد إلى ذهن الطبيب وهو أمام الصورة تلك الابتسامات الغريبة التي كان يراها في أوجه مرضاه من الأطفال، وحركاتهم الحادة المتشنجة، فكأنهم دمى تحركها قوى غيبية. هذه هي أوجه التشابه بين لوحة لكاروتا والواقع ولكن الأمر اختلط على فهم نقاد الفن"(ص: 312). فباعتباره مستشارا لمجموعة من المستشفيات كان أنجلمان مهتمًا بعلم أعصاب الأطفال وخاصة بمرض التوحد لدى الأطفال، ومشاكل الذكاء، والإعاقة الذهنية لديهم. قبل زيارته للمعرض الفني الإيطالي، وفي أوائل الستينيات، جاءت إلى الطبيب ثلاث عوائل لإجراء فحوصات لأطفالها، وكان هؤلاء الأطفال مرتبطين بالبهجة، تراهم يضحكون ويبتسمون ويعرفون كلمات قليلة جداً برغم أعمارهم التي تقارب الخمس والست سنوات، وكان جل التواصل معهم يتم عن طريق الأوامر والإيماءات. كانوا يتحركون على حين غرة، لا يهدؤون، ولكن الأهم من كل ذلك هو أن نموّهم العقلي والبدني متوقف بشكل شبه نهائي. لقد خمن الطبيب أنه حيال مرض جديد ولكنه لم يستطع العثور على أي وسيلة لتشخيصه، وذلك حتى سافر إلى إيطاليا وتعرف على اللوحة الغامضة لكاروتا.
ومن الأمراض الغريبة التي توقف عندها الباحثان ما يعرف بمتلازمة ستندال التي تنجم عن صدمة عاطفية تسببها عادة الأعمال الفنية. يقول المؤلفان في هذا الصدد: "لأكثر من 500 عام كان تمثال داود الذي هزم جالوت يحدق إلى السياح من علو خمسة أمتار. ستة أطنان من الرخام الأبيض الذي نحتته يد الفنان الإيطالي العظيم مايكل أنجلو تنتصب في أكاديمية الفنون الجميلة في فلورنسا، التي يمكن اعتبارها بؤرة لعدوى الاضطرابات النفسية التي تصيب السواح المتحمسين للفن والذاهلين بمنجزاته العظيمة، فبعض السياح وما إن تقع أعينهم على التمثال حتى يشعروا بنبضهم وقد بدأ يتسارع، وعضلاتهم تضعف وتهن، ووعيهم بالأشياء يتضخم بشكل عكر وضبابي، ويصابون بدوخة إثر ذلك، ثم ينتهي بهم الأمر إلى السقوط أرضا. قد يكون رد الفعل هذا مدعاة لدهشة الزوار ولكنه ليس غريبا على العاملين في مجمعات متاحف فلورنسا الذين اعتادوا على هذا النوع من المشاهد، بل إنهم مهيأون للتعامل مع مثل هذه الحالات " (ص: 228). تمثل السياحة، كما هو معروف، المورد الاقتصادي الرئيسي لفلورنسا حيث يزورها في المتوسط أكثر من مئة مليون سائح سنويًا، فتوجد فيها بالإضافة إلى معرض أكاديمية الفنون الجميلة عدد مثير من المتاحف يقدر بحوالي خمسين متحفا. وكالعادة يتم تنظيم زيارة سياحية للمدينة بحيث يمكن للمسافرين رؤية الحد الأقصى من التحف في إطار زمني محدود، فتمضي الجولة بوتيرة محمومة قد تشكل خطرا حقيقيا للسائح، فالتعب الذهني يلقي بتبعاته الصحية على المتجولين. وانطلاقا من هذا، لا يعد من قبيل الصدفة أن تضم قائمة النصائح والإرشادات التي توجهها المدينة لزوارها اصطحاب شريك في الرحلة يقوم بتقاسم المشاعر والانطباعات وتفريغها من شحنتها القوية وبالتالي حماية نفسه ورفيقه من الصعقات العاطفية المباغتة.
يركز المؤلفان كثيرًا على السير الذاتية لمكتشفي الأمراض الذين كرسوا سنينا طويلة من حياتهم لدراستها، فمن بينهم من واجه أسئلة صادمة حول الأمراض وهو مازال طفلا صغيرا. من أولئك ما يذكره الكاتبان عن الطبيب البريطاني جورج هنتغتون في الفصل المعنون ب "داء هنتتغتون" فبينما كان يتجول مع والده، وهو طبيب أيضا، عام 1860 شاهد شيئا لم يفارق ذاكرته بعد ذلك أبدا، وأصبح همه وقضيته الطبية في حياته المهنية. يقول الطبيب في مذكراته: "عندما كنا أنا ووالدي نتجول في الغابة، على الطريق المؤدي إلى إيست هامبتون، صادفنا امرأتين، أم وابنتها، كلاهما طويلتا القامة، نحيفتان، تشبهان الجثث، وكلاهما منحنيتان بشكل غريب بينما تغطي التجاعيد وجهيهما. وقفت أمامهما في ذهول بل وأصابني الخوف من مرآهما. توقف والدي للتحدث إليهما وبعد ذلك تابعنا طريقنا. منذ تلك اللحظة لم يفارقني ذلك المرض ولم أكف عن الاهتمام به" (ص: 101). يقول المؤلفان تعقيبا على هذه القصة: "من المؤسف، ورغم تطور العلم، إلا أنه لم يتم العثور على علاج لهذا المرض بعد. مع ذلك فالتطور مستمر ويتم تحسين طرق التشخيص وخيارات العلاج. فعلى سبيل المثال، أنشأ العلماء البريطانيون عام 2017 في لندن مختبرا يتم فيه التنبؤ بموعد بدء هذا المرض ويستبق تطوره" (ص: 103).
إضافة إلى ما احتواه الكتاب من مواد علمية شيقة، فهو يستعرض أيضاً التطور المتسارع للطب في السنوات الأخيرة ويشير إلى وسائل وطرق العلاج التي من المرجح أن تصل إلى المرضى فعلياً في عام 2020 بأقصى تقدير.
أخيراً فقد حرص المؤلفان على إيلاء اهتمام واسع بشخصية الطبيب والباحث ومدى تأثيرها على عملية تطور الطب. فلنتأمل مثلاً ما كانت البشرية ستفقده لولا روح المغامرة التي تحلى بها الطبيب السويسري ألكسندر يرسن الذي انطلق إلى فيتنام واكتشف من خبرته هناك أعراض الخناق وجراثيم الطاعون؛ أو بدون تفاني المزارع زلمان واكسمان الحاصل على نوبل سنة 1952 بعد أن كرس حياته المهنية في دراسة الميكروبيولوجية وذلك من شدة حبه للأرض.
--------------------------------------------
الكتاب: الطاعون... تاريخ الأمراض: من الحمى إلى الشلل الرعاشي.
المؤلف: أليكسي بايفسكي وآنا هوروجايا.
الناشر: أ س ت /2019 موسكو باللغة الروسية.
عدد الصفحات: .320
*أكاديمية ومستعربة روسية
