لمجموعة باحثين بإشراف: برتران بادي ودومينيك فيدال
رضوان السيد
لقد غدا مصطلح «شعبوية» شائعاً وحاضراً بقوّة في الساحات السياسية، كما في كتابات الصحافيين والباحثين. ومع هذا، توجد صعوبة في تعريفه وتأويله، وبما يفضي في بعض الأحيان إلى مقارنات ملتبسة، حسب التقديم الذي أعدّه المشرفان على هذا الكتاب: برتران بادي الأستاذ الجامعي في المعهد العالي للعلوم السياسية في باريس؛ ودومينيك فيدال الصحافي والمؤرّخ، والمختص في المسائل الدولية.
ويتساءل بادي، في معرض تحليله لمواقف وأوضاع شعبويّة «بالقوة»: ما هو الشيء المُشترك بين حركة النارودنيكيين (narodniki) التي كانت تطوف في الأرياف الروسية منذ العام 1874، وبين الأنصار الأميركيين المناصرين لحزب الشعب الأميركي الذي تأسّس في العام 1890، وما الذي يجمعهم بأنصار «الجنرال الشجاع بولانجيه» (general Boulanger) الذين زلزلوا بدايات الجمهورية الثالثة الفرنسية؛ ثم ما هو الجامع بعد ذلك الذي يجمعها بتلك الجموع التي تبعت بيريون (Perion) أو هتفت لعبد الناصر، أو تلك التي ترتوي اليوم من غضبات الفيليبيني دوتيري (Duterete) ويغمرها الانشراح وهي تقرأ تغريدات (Tweets) دونالد ترامب (Donald Trump) أو الخطب أو التقريعات المعادية للأجانب، التي تكثر منها عائلة لوبين (Lepen) في فرنسا، أو فيكتور أوربان (Victor Orban) في هنغاريا، أو قادة «حزب البديل من أجل ألمانيا»؟
ويجيب بادي: ثمّة هنا أكثر من دينامية مشتركة أو من جامع انتماء إلى مدرسة فكرية؛ إذ إننا نكتشف وجود تماثل في الموقف وتشابه في الوضع، فالشعبوية هي سياسية بأكثر ممّا هي إيديولوجية؛ فهي تتكوّن حول ممارسات متقاربة متضافرة تولّدت في جو من الأوضاع المتشابهة التي تنبع من باثولوجيا النظم السياسية الحديثة، أو على الأقل تلك المتعرضة لتحديات الحداثة.
تكوين الشعبوية
في القسم الأول من الكتاب، وعنوانه (التكوين)، يحلّل عدد من الخبراء والأخصائيين أبعاداً مختلفة للشعبوية، حيث يبدأ غي هيرميه، وهو أستاذ في علم السياسة، بشرح ظروف نشأة الشعبوية كظاهرة، مع ظهور الشعبويين الروس في ما بين العام 1850 أو العام 1880؛ والذي تلاه ظهور البولانجيين الفرنسيين، فحزب الشعب الأميركي في الفترة الممتدة بين العامين 1880 و1890.
حول النارودنيكيين، يقول هيرميه إنه لم تكن لديهم آيديولوجيا، إذ لم يكن لديهم سوى قاعدة سلوك: العمل مع الشعب ومن أجل الشعب، والاقتناع بأن خلاص الأرض الروسية يكون على يد الفلاّحين. فشعب الفلاحين لم يُصب بنظرهم بعدوى القيم الغربية التي أفسدت المدن الروسية مثلما أفسدت الدولة القيصرية، من هنا كان تحويلهم للجماعة القروية (l’obchtchina) إلى مثلٍ أعلى أو أمثولة، بحيث إنهم كانوا يعتبرونها ألف باء البعث القومي، الذي ينبغي أن يكون على قاعدة من شبكة من التعاونيات.
أما البولانجية التي جاءت في نهاية 1880، فهي افتتحت خطاً ثانياً للشعبوية، جسّده زعيمها الجنرال جورج بولانجيه؛ وكان محلّ ولادتها وحيّز ظهورها هو فرنسا التي كانت يومذاك بلداً نامياً، أي متحقق النمو، بمعايير تلك الحقبة، وفيه ديمقراطية برلمانية، لكنها لم تكن راسخة الأسس بعد.
ويشير هيرميه إلى أنَّ البولانجية كانت بمثابة شاهد على انتقال الشعبوية من اليسار المثالي إلى اليمين القومي الراديكالي، في ظل دور جوهري للجنرال ذي السيرة العسكرية المرموقة، جورج بولانجيه، والذي امتلك موهبة لجهة الخطابات الوطنية؛ كما لم يكن يعوزه الزهو ولا كان يفتقد إلى الخيلاء. وقد أصبح وزيراً للحرب، في كانون الثاني – يناير من العام 1886.
في العام 1892، وبعد سنة من موت الجنرال بولانجيه، طرأت حقبة ثالثة مؤسّسة للشعبوية. ولأنها كانت أميركية شمالية، فإنها انفردت بنمط تنظيمها، أي التنظيم عبر حزب. وفوق ذلك، فإن «حزب الشعب» الأميركي تميّز عن الإطارين السابقين بأن ولادته نجمت عن احتجاج شعبي حقيقي، عبّر عنه صغار مزارعي الغرب (grangers) وعمّال المناجم، ودُعاة خطر الشراب المسكر، والاشتراكيون المسيحيون، والنساء ذوات الأوضاع المتواضعة، وبعض شرائح العامة.
الفاشية
عن (الفاشية، أسطورية الحقد وسياسته)، يتحدث زئيف شتيرنيل، وهو أستاذ فخري – كرسي ليون بلوم – في جامعة القدس العبرية، فيقول «إن تعقّل الفاشيّة والتفكير فيها هو تأمّل لا يتناول كارثة القرن العشرين الأوروبية فحسب، بل يطاول ثقافة زماننا نحن».
ويسمّي الكاتب طريق الفاشية، «الطريق الثالث»، أي ذاك الذي ما هو بطريق اليسار، أي ليس بالطريق الماركسية ولا الطريق المتمركسة، ولا هو طريق اليمين، أي طريق المحافظة والبورجوازية؛ وإنما هو ذلك السبيل الذي يريد تغيير العالم والقيام بثورة أخلاقية ومعنوية وروحية، ويريد تسيير الأمّة بوسيلة الأساطير تاركاً البنيات الاقتصادية كما هي من دون أن تُمسّ.
فالمسألة لم تعد مسألة هزيمة البرجوازية، وإنما تعبئتها وتحشيدها في خدمة الأمة، وتدمير القيم العقلية لليبرالية، وذلك عبر إخضاعها للقيم القومية.
ويستنتج «شتيرنيل» أنَّ الفاشية هي ثورة من نوع جديد: ثورة ثقافية، أخلاقية، سياسية، وليست اجتماعية، وإن أساس الفكر الفاشي هو إعطاء الأولوية للشأن السياسي.
وعليه، تشكّل الفاشية أسطورية سياسية، وأسطورية وحدة ونهضة، وتمثّل سعياً بمعنى ما، أو بحثاً عن «سياسة منزوعة التسيّس» أو «مجرّدة من السياسة». فالأمر عند الفاشيين لم يكن مسألة اشمئزاز من المجتمع البرجوازي فحسب، ولا خيبة أمل في العقلانية التي لا تزال تضع نفسها في مدار أو مجرّة عصر الأنوار الفرنسي، وإنما أمر سياسة من دون نزاعات؛ وبالتالي بلا مواجهات ولا تسوية.
الشعبوية المائعة
حول (الشعبوية المائعة في الديمقراطيات الغربية)، يقول رافاييل ليوجيه، الباحث في علم الاجتماع، والأستاذ في معهد العلوم السياسية، إن الشعبوية التي تتنامى على المستوى الإجمالي منذ العام 2008، وتمس المُجتمعات الصناعية المتقدمة كما تمسّ أوروبا وأميركا الشمالية، هي شعبوية تختلف كثيراً عمّا انتشر لها من مثيلات لها في القرن التاسع عشر في الولايات المتحدة وفي فرنسا وروسيا، بفضل الانقلابات الكبرى الصناعية والمالية والاجتماعية المرتبطة بالثورة الصناعية.
ما تتميز به هذه الشعبوية عن تلك التي تأكدت بعد الحرب العالمية الثانية، وبخاصة في العالم الثالث، في مصر، وفي أميركا اللاتينية، وفي أفريقيا، وفي الشرق الأوسط خلال نضالات الانعتاق والتحرر الاقتصادية والثقافية والسياسية، المعادية للرأسمالية والاستعمار.
حركة «الخمس نجوم»
ويقدّم الكاتب أنموذج حركة «الخمس نجوم»، التي تصدّر زعماؤها انتخابات العام 2018 العامة في إيطاليا، حيث يخيل أحياناً للمستمع لخطابات هؤلاء أنه يسمع نبرات موسوليني الراعدة في سنة 1930 وهو يدعو إلى العودة إلى الأمجاد الإيطالية، ويبشّر بالصراع ضدّ سلطة المال وضد التفاوتات الاجتماعية.
فالشعبوية هي بادئاً قضية أسلوب: أسلوب زعيم أو زعماء عدة كاريزماتيين تحملهم قريحة فيّاضة تلتقي الضيق والقنوط وتلاقي القلق الجماعي.
ويضيف الكاتب: دفعت حركة «الخمس نجوم» التأرجح بين البعد التقليدي والبعد التقدمي إلى ذروته: فهي بشراسة ضد الهجرة، وضد النخب القائمة، وتدافع عن حقوق المثليين والمتحولين جنسياً. إن الأولوية التي تُعطى للانفعال على العقلانية، وحتى تقديمه أحياناً على مصالح الأهالي الملموسة، هي ثابتة من الثوابت لدى الشعبويات، وهي تتيح انبثاق شخصيات ذات خصائص كاريزماتية تحلم بالالتقاء المباشر مع الشعب.
ويرى ليوجيه أن الشعبوية الراهنة (في أوروبا خصوصاً) شاءت أن تكون معادية للاتحاد الأوروبي وللمؤسسات الدولية، مثل منظمة الأمم المتحدة. والحق أن أوروبا تعيش حالياً أخطر أزمة من أزماتها الرمزية في تاريخها. فهي كانت سُرّة العالم، لكنها لم تعد اليوم سوى جزء منها.
وقد برهن انتصار دونالد ترامب على أن الشعور بفقدان الهوية أصاب الولايات المتحدة نفسها إصابة مباشرة. فالشعار الذي غلب على انتخابات العام 2016 يوحي بأنَّ الولايات المتحدة فقدت تصدّرها وتفوّقها. «فلنعد أميركا عظيمة ثانية»؛ وهكذا فإن السياسة الانعزالية لترامب تتصف بالانسحاب من النظام الدولي المبني على الدفاع عن حقوق الإنسان وحماية الديمقراطية؛ كما انعكس الحذر الأميركي بالانسحاب من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، وفي إبداء الريبة إزاء كبريات الديمقراطيات مثل المملكة المتحدة وفرنسا وإيطاليا والاتحاد الأوروبي؛ بل وإزاء حلف شمال الأطلسي (الناتو).
البعد الاقتصادي للشعبوية
في البعد الاقتصادي للشعبوية، يتناول دومينيك بليهون، الباحث في المركز الاقتصادي لشمال باريس، المركز الوطني للبحث العلمي (CNRS)، "المفاعيل الوبيلة للأزمة الاقتصادية ولسياسات التقشف". ويقول إن الشعبوية باتت تسائل الباحثين في العلوم الاجتماعية وتستنطقهم. كما أن التحليل الاقتصادي يتيح تقديم عناصر تفسير لصعود الشعبويات، مع أن أسباب هذا الصعود ليست اقتصادية محضة.
وثمة عاملان رئيسان مترابطان في هذا الإطار: العولمة الاقتصادية والمالية التي تُعتبر تهديداً لسيادة الشعوب؛ والأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي تتحمل الطبقات المتوسطة أو الشعبية آثارها ومفاعيلها السلبية.
ويضيف الباحث: يعتمد الخطاب الشعبوي نمطين من الحجج ضد العولمة. فهي من جهة أولى انتهكت سيادة الدول وقلّصت قدرتها على ممارسة سياسات اقتصادية واجتماعية تؤاتي السكان الوطنيين. وهي من جهة ثانية أدّت إلى تردّي الأوضاع الحياتية لأغلبية الأهالي، ولا تفيد سوى أقليّة ذات امتيازات: هي النخب، غير أن الدول لا تزال، على الرغم ممّا منيت به من ضعف، الفاعل الرئيس للعولمة، والحكومات الوطنية هي التي اتخذت المبادرة إزاء الأزمة العالمية التي نشبت في العام 2008، بوضع سياسات إنقاذ للمصارف التي تواجه صعوبات، ودعم النشاط الاقتصادي.
إن انتصار دونالد ترامب الانتخابي في تشرين الثاني (نوفمبر) 2016 في الولايات المتحدة يتفسّر في جانب كبير منه بكونه نتيجة اقتراع الأهالي الذين يعانون المنافسة الدولية، وبخاصة سكان «حزام الصدأ»، الواقع في منطقة شمال شرق الولايات المتحدة التي اجتاحتها منافسة البلدان التي يُطلق عليه اسم الصاعدة، وأوّلها الصين.
كما يشكّل الاتحاد الأوروبي ومنطقة «الأورو» المرمى المفضّل للخطابات الشعبوية الأوروبية، لأن البناء الأوروبي يحمل معه خسارة الدول الأعضاء للسيادة، وذلك لمصلحة مؤسسات ما – فوق قومية (مثل لجنة المصرف المركزي الأوروبي BCE...). والأيديولوجيا النيوليبرالية، التي هي مضمرة في البناء الأوروبي، تقدّم حججاً مؤاتية تماماً للشعبويين الذين يندّدون بالتخلي عن السياسات العامة الإرادوية التي تهدف إلى مواجهة العولمة.
وعليه، يرى أغلبية المؤرّخين والاقتصاديين أن الأزمات الاقتصادية والاجتماعية تشكّل السبب الأساسي لصعود الشعبويات، ذلك أنها تحمل معها البطالة والحيف والظلم والتفاوتات، وتضع معالم الهويّة المكوّنة للرباط الاجتماعي (الأمة، السلطة، الأمن) موضع إعادة نظر؛ وهذا ما حدث مع أزمات الرأسمالية، كأزمة 1929، وأزمة 2008.
عِلم اجتماع الشعبوية
عن (عِلم اجتماع الشعبوية)، يتحدث فرانسوا دوبيه، أستاذ عِلم الاجتماع في جامعة بوردو، ومدير الدراسات في معهد الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية (Ehess)، منطلقاً من تصنيف خاص لما سمّاه شعب الخطاب الشعبوي، والذي يتأرجح بين ثلاث دلالات مختلطة. على الرغم من اختلافاتها: شعب الطبقة، شعب الأمّة، والشعب السيّد.
ويؤكد الباحث على أهمية التماسك الأيديولوجي للشعبوية، حين تستصرخ الشعب - الطبقة وتناشد الشعب – الأمة وتسلّم أمرها إلى الشعب السيّد. وهناك نقطة مشتركة بين المخيالات الشعبية كافة، وهي الشعور بأن المجتمع يتشعث ويتفكك ويتحلل وما تعنيه كلمة «المجتمع» هنا هو قيام دولة قادرة على الفعل والتصرف، وتقوم بدمج صلبٍ راسخ لأمّة واقتصادها.
وهنا يعرض الباحث لأنموذج ناخبي الجبهة الوطنية (اليمينية) في فرنسا، والذين ظهروا كناخبن أكثر شعبية وأكثر عمّالية من القوى الأخرى، كما كشفت نتائج الدورة الأولى من انتخابات العام 2017 الرئاسية؛ فقد اقترع 37% من العمّال، و32% من المستخدمين لمارين لوبان (Marine lepen)، التي جاءت في الطليعة لدى المقترعين من أصحاب المهن الآفلة، والمقترعين من ذوي الدخل المحدود، ولدى الأقل حيازة للشهادات الدراسية.
بروز القومية الشعبوية المفاجئ
حول (بروز القومية الشعبوية المفاجئ)، في أوروبا تحديداً، يتحدث باسكال بيرينو، أستاذ العلوم السياسية في معهد العلوم السياسية في باريس، حيث كشفت انتخابات شهر أيار (مايو) الأوروبية وجود دينامية أحزاب شعبوية قومية، وتنتمي أحياناً، وفي العديد من البلدان، إلى أقصى اليمين.
وبصرف النظر عن المراجع العقائدية المتباينة المتنافرة، والضبابية حيناً والمشوّشة حيناً آخر، وعلى الرغم من المسارات السياسية المتنوعة، فإن هذه التنظيمات تتصّف بضرب من التشغيل هو عمل وتشغيل حزب مركزي واقع تحت سلطة رؤساء كاريزماتيين إلى هذا الحدّ أو ذاك، ويلجأ لجوءًا متكرراً إلى الديماغوجية الشعبوية، وإلى بعض الموضوعات المركزية المتواترة.
ويلفت الكاتب إلى أن وجوه الضيق والحرج والقلق المتولّدة عن تداعي الرأسمالية الصناعية قد حمل إلى الشعبوية القومية الأوروبية كتائب من الناخبين الشعبيين الذين جاؤوا يسندون القوّات الانتخابية المتحدرة من البورجوازية الصغيرة (الحرفيّون، التجار، صغار المقاولين، العمّال المستقلّون).
والعنصر البارز من عناصر أزمة الحداثة التي تغذّي دينامية القوميين الشعبويين، هو الضيق والوهن الديمقراطي، حسب تعبير بيرنو.
كما أن القوميين الشعبويين الأوروبيين موسومون بالغموض من حيث إنهم «شاهد على توجّه مضادّ للسياسة معادٍ لها، أو على توجّه لا سياسي، أو سياسي منحول، يرتبط بالتزام قومي أو ذاتوي».
إن أوروبا والهجرة والعولمة لا تتوقف عن معاودة تنشيط الخشية من فقد الجوهر القومي.
الشعبوية الإسرائيلية
- دومينيك فيدال، الصحافي والمؤرّخ الفرنسي، وبعنوان (الشعبوية الإسرائيلية: من جابوتنسكي إلى نتنياهو الابن)، يقارن بين بنيامين نتنياهو الذي قاد إسرائيل على مدى أربع ولايات، وبين زئيف جابوتنسكي الذي قاد مجموعات ارتكبت مذابح في فلسطين (مجموعة الدفاع الذاتي)، وحيث انتقل الأول من منعطف الضمّ في الضفة الغربية إلى القوانين التي تخنق الحريّات في إسرائيل، وصولاً إلى التحالفات التي أقامها مع شعبويات أقصى اليمين في أوروبا.
ولقد وصل الأمر إلى حدّ أن بن غوريون (أول رئيس وزراء لإسرائيل) أطلق على جابوتنسكي اسم «فلاديمير هتلر» وسمّى النازيين «تصحيحيين ألمان». وهذا التقارب الأيديولوجي والسياسي (للصهيونية) تجسّد مع الفاشيين بخاصة.
ومن ثم يعرض الباحث لصعود التيار الصهيوني اليميني، الليكود، والذي استغل استياء اليهود الشرقيين من التمييز، وأطلق حركة استيطان مكثفة وشاملة (في عهد مناحيم بيغن وأرييل شارون)، وحالة الحرب الدائمة التي تعيشها إسرائيل، ليستمر في الإمساك بالسلطة ويتفادى النزاعات والتوترات الداخلية والشروخ الاجتماعية القائمة في إسرائيل، والتي تحتل المرتبة الثالثة بين بلدان منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (OCDE) في ميدان الفقر.
ويخلص الباحث إلى أن الحضور الكلّي للمواجهة مع الفلسطينيين، ومع العالم العربي حتى السنوات الأخيرة – هو ما يشكّل خصيصة الشعبوية الإسرائيلية.
شعبوية بوتين
- جان رادفانيي، الأستاذ في المعهد القومي للغات والحضارات الشرقية في باريس، وبعنوان (فلاديمير بوتين أو التعبئة الوطنية)، يحلّل مسيرة الرئيس الروسي بوتين، والعوامل التي دفعته نحو هذا الموقع الشعبوي المتين، كما كشفت نتائج الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية الروسية في 18 آذار (مارس) 2018، وحصوله على نسبة 76.6% من الأصوات المقترعة.
ومن هذه العوامل، ضم روسيا للقرم في العام 2014، وصموده أمام موجات العقوبات الغربية التي تلت، ودوره الجديد في الأزمة السورية، والذي أكد عودة روسيا إلى الحلبة الدولية، وغيرها.
ولا يمكن تجاهل العمل الدعائي الثابت المتواصل الذي قادته وتقوده الإدارة الرئاسية في روسيا في هذا السياق. وقد نجح بوتين في تعبئة أو تحشيد أكبر إجماع ممكن حول مقترحات الحكم. وهو لا يتردد من أجل هذا في اللجوء إلى مروحة من المفردات والإحالات والمرجعيات البالغة الاتساع والمتكيفة مع قطاعات واسعة من المجتمع.
كما أن اللجوء إلى القيم الوطنية هو عنصر أساسي في الخطاب البوتيني، وحيث تجد الكنيسة الأرثوذكسية وبطريركية موسكو نفسيهما في قلب هذه العودة إلى القيم الوطنية، والتي وصّفها الباحث بـ«الحملة الصليبية المحافظة».
وفي الخلاصة، فإن كثيرا من نداءات دونالد ترامب (جعل أميركا عظيمة مجدداً) يقارب خطابات فلاديمير بوتين في العمق. لكن إحدى الخصائص الرئيسة للشعبوية على الطريقة الروسية، هي أن المسألة فيها هي مسألة نظام براغماتي يتكيّف بحسب الأوضاع والأحوال، كما يختم الباحث.
الشعبوية في أفريقيا
- أمزات بوكاري – يابارا، المؤرّخ، وبعنوان (ظلال «ربيع أفريقي»)، يطرح سؤالاً حول التجليات الرئيسة للشعبوية في أفريقيا ما – دون الصحراء، في ظل «ربيع أفريقي» لبعض شعوب هذه البلاد، والذي تجسّد في مجتمعات مدنية ومنظمات غير حكومية، وحركات اجتماعية تزداد تواصلاً بفضل التكنولوجيات الجديدة، للتنديد بتجاوزات وبممارسات الحوكمة السيئة في تلك الدول.
كما شاع موضوع السيادة الأفريقية وذاع العام 2011، عندما تدخلت فرنسا في النزاع الذي أعقب انتخابات شاطئ العاج. فقد أضيف إلى مفهوم «العاجية» الشعبوي الذي يقسم سكاناً متعدّدي الإثنيات، خطاب وطني معادٍ لفرنسا كجواب على تدخلات نيكولا ساركوزي (الرئيس الفرنسي حينذاك) لمصلحة الحسن واتارا.
ويلاحظ الباحث أنه حين تهاجم الخطابات الشعبوية الهيمنة الغربية مستعيدة خطابات أفريقيا التقليدية أو «اللامتغربنة»، فإنها تندّد بالسياسات الإمبريالية التي تنتهي عبر المسكونية الجامعة التي تدّعيها لنفسها، أو الكونية التي تزعمها لذاتها – إلى التقسيم بالقوة بدلاً من الجمع بالحوار.
وقد اتخذ الخطاب الأفريقي المعادي للإمبريالية لهجة شعبوية ومعادية للعولمة، في ظل بروز حركات مواطنية تنتظم في مواجهة شعبوية النخب، مستلهمة أيديولوجيات المقاومة: القومية، السيادوية، الوحدة الأفريقية.. فيما تقدّم الشبكات الاجتماعية لهذه الحركات بعداً شعبياً وعابراً للقوميات، وبما يتيح لمجموعات الشتات أيضاً بأن تُدخِل الرهانات الأفريقية إلى حلبة الرأي العام الغربي.
الفيليبين
- دافيد كامرو، الباحث الفخري في مركز الأبحاث الدولية (CERI)، وبعنوان (دوتيرتي، حالة أمثولة)، يتساءل في بداية مقاله: هل كان انتخاب رودريغو دوتيرتي رئيساً لجمهورية الفيليبين في أيار (مايو) 2016، علامة على قطيعة في التاريخ الفوضوي لتلك الجمهورية الفتية التي احتفلت في العام ذاته بعيدها السبعين؟
ويقول كامرو: ينبغي تقييم دوتيرتي على ضوء حركتين كبيرتين: قوّة الشعب people power1، التي أسقطت، في شباط (فبراير) 1986، نظام الديكتاتور فرديناند ماركوس؛ ثم قوّة الشعب 2 (people power2)، التي أدّت في نيسان (أبريل) 2001 إلى الإطاحة بالرئيس جوزيف استردادا وتوقيفه. غير أن هاتين الحركتين لم تكونا، على الرغم من الاسم الذي تحملانه، حركتين شعبيتين ولا شعبويتين. فالواقع أن الشعب كان يقوم بدور الممثّل المسرحي في حركتين كانتا بمثابة ائتلاف بين الكنسة الكاثوليكية ومجموعة الإصلاحيين من ضبّاط الجيش، ومعهما نادي ماكاتي للأعمال (Makati business club) أي النخبة الليبرالية من أصحاب العمل.
وأخيراً، يعدّد الباحث أربع وسائل يستخدمها دوتيرتي – و«النخبة الثأرية» التي تؤيده ثأراً وانتقاماً – من أجل تعزيز النظام الحالي وتدعيمه، وللسير بالفيليبين نحو نظام أكثر سلطوية.
وعناوين هذه الوسائل هي:
*«تفجير» كل معارضة محتملة.
*استيعاب المعارضة داخل الدولة.
*التحكم بوسائل الإعلام لحماية النظام والدعاية له.
*استغلال سياق الحرب (العالمية) ضد الإرهاب لتعزيز الوحدة الوطنية الملتفة حول شخص الرئيس.
عنوان الكتاب: عودة الشعبويّات: أوضاع العالم 2019
تأليف: مجموعة باحثين
إشراف: برتران بادي ودومينيك فيدال.
الترجمة: (عن الفرنسية) نصير مروّة.
الناشر: مؤسسة الفكر العربي - الطبعة الأولى - 2019.
