عاطفة المسكرية
إن الله محبة "هي العبارة التي اختتم بها الفيلسوف التونسي فتحي المسكيني مقالته التي جاءت بعنوان"عالم الطبيعة وعالم الدين لدى كانط". حيث ناقش فيها بعض الأفكار التي جاء بها الفلاسفة في محاولة فهم الطبيعة من زاوية الإنسان المحاصر في محدودية إدراكه ومقارنته بالواقع الذي يتوقع أنه يتجاوز هذه الحدود بمراحل عدة. على كل تختلف الزاوية التي ينظر بها البشر إلى الطبيعة بين مُفسر من زاوية دينية ومفسر من زاوية فلسفية ومفسر لا يتقيد لا بهذه ولا بتلك عدا قيم حرة تقيدها محدودية الإدراك لدى البشر. وجاءت العبارة في بداية هذا المقال لتجمع بين مختلف الزوايا التي ينظر من خلالها البشر فهي شاملة أكثر مما تبدو عليه تجمع كافة العناصر المحتملة المرتبطة بالـ "محبة" بكافة مقاييسها.
إن البشر بطبيعة الحال وبسبب الحدود التي قد لا تستطيع عقولهم تخطيها يحاولون وضع حد لكل شيء كائن حولهم في سبيل فهمه أو التحكم به ليتناسب مع مستوى الإدراك لديهم. وحتى في تفكرهم بالطبيعة وإيمانهم بخالقها والتسليم به خلقوا ورسموا حدودا وآليات محددة يجب اتباعها في سبيل إرضاء خالق الطبيعة، ولماذا لا يكون الله محبة فقط دون شرط أو قيد! بعيدا عن التفسيرات الدينية وتوجهاتها - أيا كان الدين - والخوض فيها، قد تدور الإجابة على السؤال حول آلية الإيمان وإثبات هذه المحبة للخالق فإن كان البشر يهتمون بدلالات المحبة بين بعضهم البعض بما فيه من الفائدة للطرفين، فيجب أن تصبح هناك دلالات تعكس الإيمان بالخالق عدا أنها هنا تعود بالنفع على البشر أنفسهم. على الرغم من ذلك، لا يختلف مؤمنان – في وجود خالق لهذا الكون – على أن المحبة تربطهم بالله في نهاية المطاف بغض النظر عن وجود آليات يقوم بها الأشخاص لإثباتها من عدم وجودها. أو بمعنى آخر الديني واللاديني- الربوبي – يعتدان بصحة ما يعتقدانه إلا أننا لسنا هنا بصدد تحديد من كان على حق أو باطل. وفي هذا السياق من الجدير بالذكر فكرة وردت في إحدى الروايات الصوفية الحديثة التي اختلف فيها تفسير معنى الحرية على لسان بعض شخوص الرواية. حيث فسر الأول أن إلزام الإنسان بواجبات وفروض في سبيل تأكيد الإيمان بالله يعد تقييداً لحريته ويخلق حاجزا من الخوف يرتبط بالعقوبات الدنيوية الإلهية المنتظرة لتاركي الفروض وجزاء آخر يلقاه في الآخرة نتيجة عدم الطاعة. من جانب آخر هناك من يفسر أن الطاعة لكونها تعاكس رغبة الإنسان في التكاسل وعمل اللاشيء تكسب الإنسان الحرية؛ لأنه بذلك تخلص من عبوديته لرغباته التي تكمن في عدم الطاعة، وبالتالي أصبح حرًا بهذه الطريقة.
إذن، حتى في مفهوم الحرية المرتبط بالإيمان لم يتفق البشر في المعنى المراد بالكلمة. " إن الله محبة" وترتبط المحبة بالخير لكن يختلف مقياس الخير إذا ما جئنا ندقق حسب الظروف والزمان والمكان وحتى الشخوص. فالذي قد تراه فئة ما خيرا ظاهرا قد يبدو في باطنه شرا لفئة أخرى. يقال إن "مصائب قوم عند قوم فوائد" وهذا يعكس واقعا حقيقيا إذا ما جئنا نقيس عليه مختلف المواقف الحياتية. وعليه، حتى مكيال الخير والشر غير ثابت في كل الظروف عدا أن "المحبة" ثابتة. مع ذلك قد يجادل الأشخاص في منطق "المحبة" الذي يكاد يكون دافعاً ثابتًا يقود نحو الخير ففي الظروف الراهنة يتضح أن وهم "المحبة" لا المحبة الحقيقة يكلف أرواحا حيث يدعي فاعلوها فعل ذلك حبا لله ! إلا أنه من المهم ذكر ضرورة حضور المنطق الذي يقر عدم تناقض أوامر الله سبحانه وتعالى ونواهيه عند الرغبة في الطاعة حبا بالله لا رهبة ولا خوفًا. فالاختلاف حميد بل طبيعي في الأمور غير الثابتة لكن هناك فرقا شاسعا بين الاختلاف والتناقض؛ فالأول يقر وجود بعض العناصر الأساسية المشتركة، أو بالأحرى الجوهر، إلا أن التناقض يكون واضحًا وفي صلب القيم الأساسية. الواقع يقر بتطور العلم وتقدمه في سبيل اكتشاف كل ما هو غامض، لكن ذلك لا يعني أبداً أن العلم وصل أقصاه؛ فمن الجلي أن العديد من الأمور لا زالت غامضة لم يستطع العلم اكتشافها حتى يومنا هذا. فالمنطق يقر التسليم بما لا يُدركه العقل بأقصى جهد من محاولات استنباط الأدلة التي تتوافق مع منطق العقل البشري. عندما ننتقل إلى الوجه الآخر من الصورة نجد أولئك الذين يقرون بإيمانهم الحتمي بفكرة الانفجار الذي ولد الكون والطبيعة التي صنعت نفسها بنفسها. إن حاولنا النظر لفكرة هؤلاء بحيادية تأبى الحيادية أن تتخذ موقعها في هذه المواضيع فالإعجاز الكوني والتنظيم في أدق التفاصيل الكونية تنفي احتمالية وجود الصدفة ولو بنسبة 1%. فإن وجد للتنظيم مبرر في جزء ما فلا يعقل أن يتواجد في كل الأجزاء ناهيك عن الفطرة التي لا يمكن تجاهل شعور المقاومة القسرية التي تتولد عند الذين يخالفونها. يجدر بنا القول إن الشك أمر صحي بل طبيعي جداً لكن الاستمرار بالشك يولد الشعور بالضياع وعدم الانسجام والتماشي مع الكون.
إنَّ الطريق نحو فهم الطبيعة وخالقها يختلف، وهذه حقيقة واقعة بغض النظر عمَّا إذا كانت صحيحة أم باطلة لكن ما لا يجب أن يختلف عليه اثنان أن الغاية من خلق البشر التي ذكرت – ألا وهي إعمار الأرض- تتطلب تكاتفا بشريا في سبيل تحقيق المصلحة للغالبية العظمى على الأقل في سبيل تحقيق الخير ولو كان أمرا في غاية الصعوبة وتحديدا أمام الظروف الراهنة التي جعلت البشر يبعدون مئات السنين الضوئية عن السلام.
